المجلد الثالث - ذكر بناء البصرة

ذكر بناء البصرة

قال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بن الخطاب رحمه الله - فيما زعم الواقدي - الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك.

وفي هذه السنة - أعني سنة أربع عشرة - وجه عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته.

وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين ؛ وجهه غليها سعد بأمر عمر.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عنه. فحدثني عمر بن شبة ؛ قال: حدثنا على بن محمد، عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قتل مهران سنة أربع عشرة في صفر، فقال عمر لعتبة - يعني ابن غزوان - : قد فتح الله جل وعز على إخوانكم الحيرة وما حولها، وقتل عظيم من عظمائها، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس ؛ فإني أريد أن أوجهك إلى أرض الهند ، لتمنع أهل تلك الجيزة من إمداد إخوانهم على إخوانكم، وتقاتلهم ؛ لعل الله أن يفتح عليكم. فسر على بركة الله، واتق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله. فأقبل عتبة في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادي، فقدم البصرة في خمسمائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، فنزلها في شهر ربيع الأول - أو الآخر - سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند فيها حجارة بيض خشن، فنزل الخريبة، وليس بها إلا سبع دساكر؛ بالزابوقة والخيبة وموضع بني تميم والأزد: ثنتان بالخريبة، وثنتان بالأزد، وثنتان في موضع بني تميم وواحدة بالزابوقة. فكتب إلى عمر، ووصف له منزله فكتب إليه عمر: اجمع للناس موضعاً واحداً؛ ولا تفرقهم ؛ فأقام عتيبة أشهراً لا يغزو ولا يلقى أحداً.

وأما محمد بن بشار ؛ فإنه حدثنا، قال: حدثنا صفوان بن عيسى الزهري، قال: حدثنا عمرو بن عيسى أبو نعامة العدوى، قال: سمعت خالد بن عمير وشويساً أبا الرقاد، قالا بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان، فقال له: انطلق أنت ومن معك ؛ حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم، فأقيموا. فأقبلوا حتى إذا كانوا بالمريد وجدوا هذا الكذان . قالوا: ما هذه البصرة؟ فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فإذا فيه حلفاء وقصب نابتة، فقالوا: هاهنا قوماً معهم راية، وهم يريدونك، فأقبل في أربعة أسوار، فقال: ماهم إلا ما أرى ؛ اجعلوا في أعناقهم الحبال ؛ وأتونى بهم ؛ فجعل عتبة يزحل ، وقال: إني شهدت الحرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حتى إذا زالت الشمس، قال: احملوا ؛ فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين، فلم يبق منهم أحداً إلا صاحب الفرات، أخذواه أسيراً، فقال عتبة بن غزوان: ابغوا لنا منزلاً هو أنزه من هذا- وكان يوم عكاك وومد- فرفعوا له منبراً، فقام يخطب، فقال: إن الدنيا قد تصرمت وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناة. ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم. وقد ذكر لى: لو أن صخرة ألقت من شفير جهنم هوت سبعين خريفاً، ولتملأنه؛ أو عجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ بزحام، ولقد رأيتنى وأنا سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا؛ والتقت بردة فشققتها بينى وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.

وعن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما توجه عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور من المدائن إلى فرج الهند، نزل على الشاطئ بحيال جزيرة العرب، فأقام قليلاً ثم أرز، ثم شكوا ذلك حتى أمره عمر بأن ينزل الحجر بعد ثلاثة أوطان إذا اجتووا الطين، فنزلوا في الرابعة البصرة- والبصرة كل أرض حجارتها جص- وأمر لهم بنهر يجري من دجلة، فساقوا إليها نهراً للشفة، وكان إيطان أهل البصرة اليوم وإيطال أهل الكوفة اليوم في شهر واحد. فأما أهل الكوفة فكان مقامهم قبل نزولها المدائن إلى أن وطنوها، وأما أهل البصرة فكان مقامهم على شاطئ دجلة. ثم أزروا مرات تحتى استقروا وبدءوا، فخنسوا فرسخاً وجروا معهم نهراً، ثم فرسخاً ثم جروه ثم فرسخاً، ثم جروه ثم أتوا الحجر، ثم جروه، واختطت على نحو من خطط الكوفة، وكان على إنزال البصرة أبو الجرباء عاصم بن الدلف، أحد بني غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم.

وقد كان قطبة بن قتادة - فيما حدثني عمر ، قال: حدثنا المدائني عن النضر بن إسحاق السلمى، عن قطبة بن قتادة السدوسي - يغير بناحية الخريبة من البصرة، كما :ان المثنى بن حارثة الشيباني يغير بناحية الحبيرة. فكتب إلى عمر يعلمه مكانه، وأنه لو كان معه عدد يسير ظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم من بلادهم. وكانت الأعاجم بتلك الناحية قد هابوه بعد وقعة خالد بنهر المرأة فكتب إليه عمر: إنه أتاني كتابك أنك تغير على من قبلك من الأعاجم، وقد أصيب ووفقت ؛ أقم مكانك، واحذر على من معك من أصحابك حتى يأتيك أمرى. فوجه عمر شريح بن عامر، أحد بني سعد بن بكر إلى البصرة ؛ فقال له : كن ردءاً للمسلمين بهذه الجيزة، فأقبل إلى البصرة ؛ فترك بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة للأعاجم ؛ فقتلوه، وبعث عمر عتبة بن غزوان.

حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن عبد الملك بن حذيفة ومحمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال: إن عمر قال لعتبة بن غزوان إذ وجهه إلى البصرة: يا عتبة، إني قد استعملتك على أرض الهند، وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يعينك عليها. وقد كتب إلى العلاء بن الحضرمى أن يمدك بعرفجة بن هرثمة ؛ وهو ذو مجاهدة العدو ومكايدته، فإذا قدم عليك فاستشره وقربه، وادع إلى الله ؛ فمن أجابك فاقبل منه، من أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة. واتق الله فيما وليت، وإياك أن تناوعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك، وقد صبحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، قيالها نعمة ؛ إن لم ترفعك فوق قدرك وتبرطرك على من دونك ! احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية ؛ ولهى أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك، فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس أسرعوا إلى الله حين رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأراد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين.

حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا على، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني وأبو مخنف، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: قدم عتيبة بن غزوان البصرة في ثلثمائة، فلما رأى منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم ؛ فهذا حيث واجب علينا فيه طاعة إمامنا. فنزل الخربية وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها. وكانت مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتيبة فنزل دون الإجانة، فأقام نحوا من شهر، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وجعل قطبة بن قتادة السدوسي وقسامة بن زهير المازني في عشرة فوارس، وقال لهما: كونا في ظهرنا، فتردا المنهزم، وتمنعا من أرادنا من ورائنا ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها ؛ حتى منحهم الله أكتافهم، وولوا منهزمين ؛ حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، فأقاموا أياماً، وألقى الله في قلوبهم الرعب. فخرجوا عن المدينة، وحملوا ما خف لهم، وعبروا إلى الفرات، وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً وعيناً، فاقتسموا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وولى عتبة نافع بن الحارث أقباض الأبلة ؛ فأخرج خمسة، ثم قسم الباقي بين أفاءه الله عليه ؛ وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.

وعن بشير بن عبيد الله ؛ قال: قتل نافع بن الحارث يوم الأبلة تسعة، وأبو بكر ستة.

وعن داود بن أبي هند، قال: أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم، فأخذ كل رجل درهمين، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين ممن أخذهما من فتح الأبلة في ألفين من العطاء، وكانوا ثلثمائة رجل، وكان فتح الأبلة في رجب، أو في شعبان من هذه السنة.
وعن الشعبي، قال: شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون، فيهم أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، والمغيرة بن شعبة، ومجاشع بن مسعود، وأبو مريم البلوى، وربيعة بن كلدة بن أبي الصلت الثقفي، والحجاج.
وعن عباية بن عبد عمرو، قال: شهدت فتح الأبلة مع عتبة، فبعث نافع بن الحارث إلى عمر رحمه الله بالفتح، وجمع لنا أهل دست ملسان، فقال: عتبة: ارى أن نسير إليهم، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان، فقاتلناه، فانهزم أصحابه وأخذ أسيراً، فأخذ قباؤه ومنطقته، فبعث به عتبة مع أنس ابن حجية اليشكرى.

وعن أبي المليح الهذلي، قال: بعث عتبة أنس بن حجية إلى عمر بمنطقة مرزبان دست ميسان؛ فقال له : كيف المسلمون؟ قال: انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة، فأتوها.

وعن علي بن زيد، قال: لما فرغ عتبة من الأبلة، جمع له مرزبان دست ميسان، فسار إليه عتيبة فقتله، ثم سرح بما سعود إلى الفرات وبها مدينة ووفد عتبة إلى عمر، وأمر المغيرة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات، فإذا قدم فهو الأمير. فظفر مجاشع بأهل الفرات، ورجع إلى البصرة وجمع الفيلكان ؛ عظيم من عظماء أبز قباذ للمسلمين، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب، فظفر به، فكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ قال: مجاشع بن مسعود، قال: لا، تستعمل رجلاً من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث! قال: لا، فأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات عتبة في الطريق، واستعمل عمر المغيرة بن شعبة.

وعن عبد الرحمن بن جوشن، قال: شخص عتبة بعدما ما قتل مرزبان دست ميسان، ووجه مجاشعاً إلى الفرات، واستخلفه على عمله، وأمر المغيرة ابن شعبة بالصلاة حتى يرجع مجاشع من الفرات، وجمع أهل ميسان، فلقيهم المغيرة، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات، وبعث بالفتح إلى عمر.

الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقى العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مدداً أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة.

وعن حارثة بن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة فقسم بينهم عتبة - ككة - يعنى خبزاً أبيض. وعن محمد بن سيرين مثله.

قال الطبري، وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصري، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.

وعن المثنى بن موسى بن سلمة بن المحبق، عن أبيه، عن جدة، قال: شهدت فتح الأبلة، فوقع لي في سهمي قدر نحاس، فلما نظرت إذا هي ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب أن يصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها وهي عنده نحاس، فإن حلف سلمت إليه ؛ وإلا قسمت بين المسلمين. قال: فحلفت، فسلمت لي.

قال: المثنى: فأصول أموالنا اليوم منها.

وعن عمرة ابنة قيس، قالت: لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة خرج زوجي وابني معهم، فأخذوا الدرهمين ومكوك زبيب ، وإنهم مضوا حتى إذا كانوا حيال الأبلة، قالوا للعدو، نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال: بل اعبروا إلينا فأخذوا خشب العشرة فأوثقوه، وعبروا إليهم، فقال المشركون: لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم. فلما صاروا على لأرض كبروا تكبيرة، ثم كبروا الثانية، فقامت دوابهم على أرجلها، ثم كبروا الثالثة فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض، وجعلنا ننظر إلى رءوس تنذر، ما نرى من يضربها ؛ وفتح الله على أيديهم.

المدائني، قال: كانت عند عتبة صفية بنت الحارث بن كلدة، وكانت أختها أردة بنت الحارث عند شبل بن معبد البجلي، فلما ولى عتبة البصرة انحدر معه أصهاره: أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد ؛ وانحدر معهم زياد ؛ فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسماً يقسم بينهم، فكان زياد قاسمهم ؛ وهو ابن أربع عشرة سنة، له ذؤابة، فأجروا عليه كل يوم درهمين.

وقيل : إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة ؛ والأول أصح ؛ فكانت إمارته عليها ستة أشهر.

واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة فبقى سنتين، ثم رمى بمارمى ؛ واستعمل أبا موسى، وقيل استعمل بعد عتبة أبا موسى، وبعده المغيرة.

وفيها - أعني أربع عشرة - ضرب عمر ابنة عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن.

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان على مكة عتاب بن أسيد في قوله، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى الشأم أبو عبيدة بن الجراح، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص - وقيل: العلاء بن الحضرمى - وعلى عمان حذيفة بن محصن.