المجلد الثالث - ذكر فتح حمص

ذكر فتح حمص

حكى الطبرى عن سيف، عن كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضى إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحداً، هذا جل طعامه وشرابه. وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يعارون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد ؛ ولقى المسلمون بها برداً شديداً، والروم حصاراً طويلاً، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء.

وعن أبي الزهراء القشيرى، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص يتواصون فيما بينهم، ويقولن: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون؛ فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين. قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء فتركهم وقم فيهم آخر فقال ذهب الشتاء وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟ فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون ؛ ولأن تأتونهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة ؛ أجيبوني محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب.

وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا أثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص ؛ وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وإلى ذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة، فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية، فتهافتت منها دور كثيرة وحيطان ؛ وفزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم ؛ فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعرون المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبينانهم ؛ لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبداً أيسروا أو أعسروا. وصالح بعضهم على قدر طاقته ؛ إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن ؛ بعضهم على شئ إن أيسروا وإن عسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.

وبعث أبو عبيدة السمط بن الأسود بني معاوية، والأشعث بن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالداً في الجيش، والصباح بن شتير وذهيل بن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها. وأقام في عسكره، وكمتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد الله بن مسعود، وقد وفده. وأخبر هرقل ؛ وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحياناً، ويطلع أحياناً. فقدم ابن مسعود على عمر، فرده ، ثم بعثه بعدذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشأم، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك ؛ إن شاء الله.