الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست عشرة
قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة
بهر سير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزد جرد بن شهريار.
ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهر سير
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: لما نزل سعد على بهر سير بثّ الخيول، فأغارت على ما بين دجلة إلى عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلاّح، فحسبوا، فأصاب كلّ منهم فلاحا؛ وذلك أنّ كلهم فارس ببهرسير. فخندق لهم، فقال له شيرزاذ دهقان ساباط: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا؛ إنما هؤلاء علوج لأهل فارس لم يجرّوا إليك، فدعهم إلىّ حتى يفرق لكم الرأي. فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر: إنّا وردنا بهر سير بعد الذي لقينا فيما بين القادسيّة وبهر سير، فلم يأتنا أحد لقتال؛ فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام؛ فر رأيك.
فأجابه: إنّ من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء الكتاب خلّى عنهم. وراسله الدّهاقين، فدعاهم إلى الإسلام والرجوع، أو الجزاء ولهم الذمّة والمنعة، فتراجعوا على الجزاء والمنعة ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، ومن دخل معهم؛ فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادىّ إلاّ أمن واغتبط بملك الإسلام. واستقبلوا الخراج؛ وأقاموا على بهر سير شهرين يرمونها بالمجانيق ويدبّون إليهم بالدبّابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة.
كتب إلىّ السّرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثيّ، عن أبيه، قال: نزل المسلمون على بهرسير، وعليها خنادقها وحرسها وعدّة الحرب، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق، فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرىّ، عن ابن الرّفيل، عن أبيه، قال: فلما نزل سعد على بهرسير، كانت العرب مطيفة بها، والعجم متحصّنة فيها، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في جماعتهم وعدّتهم لقتال المسلمين؛ فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا في رجّالة وناشبة، وتجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصّبر، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم، فكذّبوا وتولوا؛ وكانت على زهرة بن الجويّة درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد! فقال: ولم؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إنّي لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلّه ثم أتاني من هذا الفصم، حتى يثبت فيّ! فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشّابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم؛ فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعوني، فإنّ نفسي معي ما دامت فيّ، لعلّي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد، عن عائشة أمّ المؤمنين، قالت: لما فتح الله عزّ وجلّ وقتل رستم وأصحابه بالقادسيّة وفضّت جموعهم، اتّبعهم المسلمون حتى نزلوا المدائن، وقد ارفضّت جموع فارس، ولحقوا بجبالهم، وتفرّقت جماعتهم وفرسانهم، إلاّ أنّ الملك مقيم في مدينتهم، معه من بقي من أهل فارس على أمره.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بن فلان الهجيمىّ، عن أبيه ومحمد بن عبد الله،عن أنس بن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إنّ الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فبدر الناس أو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو ولا نحن؛ فرجع الرّجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزّر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحقّ ما أدري ما هو؛ إلاّ أنّ علىّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير؛ وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد؛ فجاءنا فقال: يا أبا مفزّر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهرّاب؛ فحدّثه بمثل حديثه إيّانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم؛ وإنّ مجانيقنا لتخطر عليهم؛ فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلاّ رجل نادى بالأمان فآمنّاه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسوّرها الرّجال، وافتتحناها، فما وجدنا فها شيئا ولا أحدا؛ إلاّ أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأيّ شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: وايله ألا إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم، تردّ علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك؛ ما هذا إلاّ شئ ألقى على في هذا الرجل لننتهي؛ فأرزوا إلى المدينة القصوى.
كتب إلىّ السرىّ عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما دخل سعد والمسلمون بهرسير أنزل سعد الناس فيها، وتحوّل العسكر إليها، وحاول العبور فوجدوهم قد ضمّوا السفن فيما بين البطائح وتكريت. ولما دخل المسلمون بهرسير - وذلك في جوف الليل - لاح لهم الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر???! أبيض كسرى؛ هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. فقال محمد وطلحة: وذلك ليلة نزلوا على بهرسير.
كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن - يعني بهرسير - وهي المدينة الدّنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثمّ لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد؛ فدخلوها وما فيها أحد.