المجلد الرابع - ذكر فتح الجزيرة

ذكر فتح الجزيرة

وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - افتتحت الجزيرة في رواية سيف. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من سبب فتحها ما حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عنه؛ أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إنّ الله قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمّر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة، أو عياض بن غنم. فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخّر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر القوم إلا أنه له فيه هوى أن أولّيه؛ وأنا موليه. فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعرى، وابنه عمر بن سعد - وهو غلام حدث السنّ ليس إليه من الأمر شئ - وعثمان بن أبى العاص بن بشر الثقفيّ، وذلك في سنة تسع عشرة. فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرّهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حرّان حين صالحت الرّهاء، فصالحه أهلها على الجزية. ثمّ بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين، ووجّه عمر بن سعد إلى رأس العين في خيل ردءا للمسلمين، وسار بنفسه في بقيّة الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنة تسع عشرة. ثمّ وجه عثمان بن أبى العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شئ من قتال؛ أصيب فيه صفوان بن المعطّل السّلمى شهيدا. ثمّ صالح أهلها عثمان بن أبى العاص على الجزية، على كلّ أهل بيت دينار. ثم كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل.

وأما في رواية سيف؛ فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلى السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد؛ قالوا: خرج عياض بن غنم في أثر القعقاع، وخرج القوّاد - يعنى حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبى عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص - فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها، فسلك سهيل بن عديّ وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرّقة، وقد ارفضّ أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه؛ وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشأم؛ فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة؛ فرأى أن يقبل منهم؛ فبايعوه وقبل منهم؛ وكان الذي عقد لهم سهيل بن عديّ عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذّمة، وخرج الوليد بن عقبة حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلاّ إياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقلّيّتهم، فاقتحموا أرض الرّوم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بن الخطاب. ولما أعطى أهل الرّقة ونصيبين الطاعة ضمّ عياض سهيلا وعبد الله إليه فسار بالناس إلى حرّان، فأخذ ما دونها. فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذّمة. ثم إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرّهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم؛ فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بن غنم:

من مبلغ الأقوام أنّ جموعـنـا             حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفّسوا           عمّن بحمص غيابة الـقـدّام
إنّ الأعزّة والأكارم معـشـر                  فضّوا الجزيرة عن فراخ الهام

غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا             عن غزو من يأوى بلاد الـشـام

ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمدّ عياض بن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مدداً، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض بن غنم إذ ضمّ خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما.

قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم: إنه بلغني أن حيّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك؛ فو الله لتخرجنّه أو لننبذنّ إلى النصارى؛ ثم لنخرجنّهم إليك. فأخرجهم ملك الرّوم، فخرجوا فتمّ منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبى عدىّ بن زياد، وخنس بقيّتهم، فتفرّقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم؛ فكلّ إيادىّ في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف؛ وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من بنى تغلب إلاّ الإسلام؛ فقالوا له: أمّا من نقّب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأمّا من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلاّ الإسلام، فدعهم على ألاّ ينصّروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا. فقبل منهم على ألاّ ينصّروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلى الجزاء، فرضى منهم بما رضى من العباد وتنوخ.

كتب إلىّ السرىّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن أبي سيف التّغلبيّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد وفدهم على ألاّ ينصّروا وليدا، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفّدهم، ولم يكن على غيرهم، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم: لا تنفّروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزاء على ألاّ ينصّروا مولودا إذا أسلم آباؤهم. فخرج وفدهم في ذلك إلى عمر؛ فلما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديّانيهم، قال لهم عمر: أدّوا الجزية، فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلنّ أرض الرّوم، والله لتفضحنا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمّتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، وتالله لتؤدّنّه وأنتم صغرة قمأة، ولئن هربت إلى الرّوم لأكتبنّ فيكم، ثمّ لأسبينّكم. قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسمّه جزاء، فقال: أمّا نحن فنسمّيه جزاء، وسمّوه أنتم ما شئتم. فقال له علىّ بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه، فرضى به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك، وكان في بنى تغلب عزّ وامتناع، ولا يزالون ينازعون الوليد، فهمّ بهم الوليد، وقال في ذلك:

إذا ما عصبت الرأس منّى بمشوذ             فغيّك منّى تغـلـب ابـنة وائل

وبلغت عنه عمر، فخاف أن يحرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمّر عليهم فرات بن حيّان وهند بن عمرو الجملىّ، وخرج الوليد واستودع إبلا له حريث بن النعمان، أحد بنى كنانة بن تيم من بنى تغلب، وكانت مائة من الإبل فاختانها بعد ما خرج الوليد.