ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
ففيها كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الرّوم من ناحية ملطية في قول الواقديّ.
وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها قدّم عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى خراسان وقد انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحاً، ومرو الرّوذ بعد قتال شديد، وتبعه عبد الله بن عامر، فنزل أبر شهر، ففتحها صلحاً في قول الواقديّ.
وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدّثني أحمد بن ثابت الرازي"، عمّن حدّثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه، قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وقد ذكرنا قول من خالفه في ذلك، والخبر عن قبرس.
وفيها: كان تسيير عثمان بن عفان من سيّر
من أهل العراق إلى الشأم.
ذكر تسيير من سيّر من أهل الكوفة إليها
اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنّه ذكر فيما كتب به إليّ السريّ عن شعيب عنه، عن محمد وطلحة، قالا: كان سعيد بن العاص لا يغشاه إلاّ نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسيّة وقرّاء أهل البصرة والمتسمِّتون، وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كلّ أحد، فجلس للناس يوماً، فدخلوا عليه؛ فبينناهم جلوس يتحدّثون قال خنيس بن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد ابن العاص: إنّ من له مثل النّشاستج لحقيق أ، يكون جواداً؛ والله لو أنّ لي مثله لأعاشكم الله عيشاً رغداً. فقال عبد الرحمن بن خنيس - وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك - يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة - قالوا: فضّ الله فاك! والله لقد هممنا قك، فقال: خنيس غلام فلا تجازوه، فقالوا: يتمنى له من سوادنا! قال: ويتمنّى لكم أضعافه، قالوا: لا تيمنى لنا ولا له، قال: ما هذا بكم! قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار إليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكّواء وكميل بن زياد وعمير بن ضائي؛ فأخذوه فذهب أبوه ليمنع منه فضربوهما حتى غشى عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطراً، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة فأحاطو بالقصر، وركبت القبائل، فعاذوا بسعيد، وقالوا: أفلتنا وخلَّصنا.
فخرج سعيد إلى الناس، فقال: أيّا الناس،
قوم تنازعوا وتهاووا،وقد رزق الله العافية. مثم قعدوا وعادوا في حديثهم،
وتراجعوا فساءهم وردّهم، وأفاق الرّجلان؛ فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا
غاشيتك، مقال: لا يغشوني والله أبداً، فاحفظ عليّ ألسنتكما ولاتجرّئا عليّ
النسا. ففعلاً ولما انقطع رجاء أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيتوهم،
وأقبلوا على الإذاعة حتّى لامه أهلالكوفة في أمرهم؛ فقال: هذا أميركم وقد
نهاني أن أحرّك شيئاً، فمن أراد منكم أن يحرّك شيئاً فليحرّكه.
تاريخ الرسل والملوك الطبري الصفحة : 960
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع
ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه - هم
بضعة عشر - فكتبوا بذلك إلى عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية: إنّ أهل الكوفة
قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم؛ فإن آنست منهم رشداً
فأقبل منهم؛ وإن أعيوك فازددهم عليهم فلما قدموا على معاوية رّحّب بهم
وأنزلهم كنيسة تسمّى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم
بالعراق، وجعل لا يزال يتغدّى ويتعشّى معهم، فقال لهم يوماً: إنكم قوم من
العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم
مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً؛ وإن قريشاً لو لم تكن
عدتم أذلّة كما كنتم، إنّ أئمتكم لكم إلى اليوم جنّة فلا تشذّوا عن جنّتكم؛
وإنّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة؛ والله
لتنتهنّ أو ليتلينّكم الله بمن يسومكم؛ ثم لا يحمدكم على الصبر، ثمّ تكونون
شركاء لهم فيما جررتم على الرعيّة في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا؛ وأما ما ذكرت من الجنّة فإنّ الجنّة إذا اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أنّ الذي أغراكم على هذا قلّة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً، أعظم علكي أمر الإسلام، وأذكرك به، وتذكّرني الجاهلية! موقد وعظتك. وتزعم لما يجنُّك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنّة؛ أخزى الله أقواماُ أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم! افقهوا - ولا أظنكم تفقهون - أنّ قريشاً لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلاّ بالله عزّ وجلّ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم؛ ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً؛ وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس بأكل بعضهم بعضاً إلاّ بالله الذي لا يستذّل من أعزّ، ولا يوضع من رفع، فبوّأهم حرماً آمنا يتخطّف الناس من حولهم! هل تعرفون عرباً أن عجماً أو سوداً أو حمراً إلاّ قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة؛ إلاّ ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلاّ جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقّذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلفه، ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم؛ ولا يصلح ذلك إلاّ عليهم؛ فكان الله يحوطهم في الجاهليّة وهم علىكفرهم بالله؛ أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الموك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك! ول أنّ متكلماً غيرك تكلّم؛ ولكنك ابتدأت. فأمّا أنت يا صعصعة فإن قريتك شرّ قرى عربيّة؛ انتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قطّ ولا وضيع إلاّ سبّ بها؛ وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً، والأمه أصهاراً، نزّاع الأمم؛ وأنتم جيران الخطّ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ونكبتك دعوته؛ وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فأنتشرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك؛ أقبلت تبغي دين الله عوجاً؛ وتنزع إلى الللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشاً، ولن يضرّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم؛ إنّ الشيطان عمم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس؛ وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يردّ بكم قضاء قضاه الله، ولا أمراً أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شرّاً منه وأخزى.
ثم قام وتركهم؛ فتذامروا. فتقاصرت إليهم
أنفسهم، فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم؛
لا والله لا ينفع الله بكم أحداً ولا يضرّه؛ ولا أنتم برجال منفعة ولا
مضرّة؛ ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن أردتم النجاة فألزموا جماعتكم؛ وليسعكم
ما وسع الدَّهماء، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار؛
اذهبوا محيث شئتم، فإني كاتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلمّا خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم. إنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلّم كان معصوماً فولاّني، وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر رضي الله
عنه فولاّني، ثمّ استخلف عمر فولاّني، ثم استخلف عثمان فولاّني.
فلم أل لأحد منهم مولم يولِّني إلا وهو راضٍ عني؛ وإنما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء؛ ولم يطلب لها أهل اللاجتهاد والجهل بها والضعف عنها؛ وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون؛ فإنّ الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي لناس سارئركم؛ وقد قال عزّ وجل: "الم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون".
وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم عليّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثفلهم الإسلام، وأضجرهم العدل؛ لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنما همّهم الفتنة وأموال أهل الذّمة؛ والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم؛ وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فإنه سعيداً ومن قبله عنهم؛ فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة، فإنهم يسمتون بكم، وميلوا بنا إلى الجزيرة، ودعوا العراق والشام. فأووا إلىالجزيرة، وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان معاوية قد ولاّه حمص وولى عامل الجزيرة حرّان والرّقة - فدعا بهم، فقال: يا آلة الشيطان، لا مرحباً بكم ولا أهلاً! قد رجع الشيطان محشوراً وأنتم بعد نشاط؛ خسرر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّ بكم حتى يحسركم. يا معش من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكمتقولون لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الرّدة، والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذلّ أنّ أحداً ممن معي دق أنفك ثم أمصّك لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. فأقامهم أشهراً كلّما ركب أمشاهم، فإذا مرّ به صعصعة قال: يابن الحطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشّر! مالك لا تقول كما كان يبلغني أنّك تقول لسعيد ومعاوية! فيقول ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله! فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر إلى عثمان، وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا. وخرج الأشتر، فأتى عثمانب التوبة والندم ولانزوع عنه وعن أصحابه فقال: سلمكم الله. وقدم سعيد بن العاص، فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ وذكر من فضله، ذاك إليكم، فرجعإلى عبد الرحمن.
وأمّا محمد بن عمر؛ فإنه ذكر أنّ أبا بكر بن إسماعيل حدّثه عنأبيه، عن عامر بن سعد، أنّ عثمان بعث سعيد بن العاص إلى الكوفة أميراً عليها، حين شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر من شهد عليه، وأمره أن يبعث إليه الوليد بن عقبة. قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فأرسل إلى الوليد: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تلحق به. قال: فتضجّع أياماً، فقال له: انطلق إلى أخيك؛ فإنه قد أمرني أن أبعثك إليه، قال: وما صعد منبر الكوفةحتى أمر به أن يغسل، فناشده رجال من قريش كانوا قد خرجوا معه من بني أميّة، وقالوا: إنّ هاذ قبيح؛ والله لو أراد هذا غيرك لكان حقّاً أن تذبّ عنه؛ يلزمه عار هذا أبداً. قال: فأبى إلاّ أن يفعل، فغسلهوأرسل إلى الوليد أن يتحوّل من دار الإمارة، فتحوّل منها، ونزل دار عمارة بنعقبة، فقدم الوليد على عثمان، فجمع بينه وبين خصمائه، فرأىأن يجلده، فجلده الحدّ.
قال محمّد بن عمر: حدثني شيبان، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده؛ وإنه سمر عنده ليلةً وجوه أهل الكوفة، منهم مالك بن كعب الأرجيّ، والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النّخعيّان، وفيهم مالك الأشتر في رجال، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان لقريش؛ فقال الأشتر: أتزعم أنّ السّواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلا أن يكون كأحدنا، وتكلم معه القوم.
قال: فقال عبد الرحمن الأسديّ - وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من ها هنا! لا يفوتنّكم الرجل؛ فوثبوا عليه فوطئوه وطأ شديداً، حتى غشي عليه ثم جرّ برجله فألقى، فنضح بماء فأفاق، فقال له سعيد: أبك حياة؟ فقا: قتلني من انتخبت - زعمت - للإسلام، فقال: والله لا يسمر منهم عندي أحد أبداً، فجعلوا يجلسون في مجالسهم وبيوتهم يشتموون عثمان وسعيداً؛ واجتمع الناس إليهم؛ حتى كثر من يختلف إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان يخبره بذلك، ويقول: إنّ رهطاً من أهل الكوفة - سمّاهم له عشرة - يؤلّبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا؛ فكتب عثمان إلى سعيد: أن سيرّهم إلى معاوية - ومعاوية يومئذ على الشأم - فسيرّهم - وهم تسعة نفر - إلى معاوية؛ فيهم مالك الأشتر، وثايت بن قيس بن منقع، وكميل بن زياد النخعيّ، وصعصعة بن صوحان.
ثم ذكر نحو حديث السريّ، عن شعيب؛ إلاّ أنه قال: فقال صعصعة: فإن اخترقت الجنَّة أفليس يخلص إلينا؟ فقال معاوية: إنّ الجنة لا تخترق، فضع أمر قريش على أحسن ما يحضرك.
وزاد فيه أيضاً: إنّ معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، قال فيما يقول: وإني والله ماآمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصّتي؛ وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلاّ ما جعل الله لنبيّه نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلّم؛ فإن الله انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئاً إلا أصفاه الله بأكرمها وأحسنها؛ ولم يخلق من الأخلاق السيّئة شيئاً في أحد إلا أكرمه الله عنها ونزّهه؛ وإني لأظن أنّ أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً. قال صعصعة: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان؛ من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس. فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة، فتحدّث عندهم طويلاً، ثم قال: أيُّها القوم، ردّوا عليّ خيراً أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين؛ فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.
فقال: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته نبيه صلى الله عليه وسلّم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرّقوا! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلّم. قال: فإني آمركم الآن، إن كنت فعلت فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلّم ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقّروا أئمّتكم وتدلُّوهم على كلّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم.
فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ في المسلمين من هو أحقّ به منك، قال: من هو؟ قال: من كان أبوه أحسن قدماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدماً منك في الإسلام، فقال: والله إنّ لي في الإسلام قدماً، ولغيري كان أحسن قدماً مني؛ ولكنه ليس في زماني أحد أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعزل عملي؛ ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إليّ بخطّ يده فاعتزلت عمله؛ ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت ألا يعزم له على ذلك إلا وهو خير؛ فمهلاً فإنّ في ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر؛ ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبّرها؛ وهو بالغ أمره؛ فعادودوا الخبر وقولوه.
فقالوا: لست لذلك أهلاً، فقال: أما والله إنّ لله لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعه الشيطان حتى تحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدائم في الآجل.
فوثبوا عليه؛ فأخذوا برأسه ولحيته، فقال: مه؛ إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعم بي وأنا أمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً، ثمّ أقام من عندهم، فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت.
ثم كتب إلى عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم ؛ لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليّ أقواماً يتكلّمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا - من قبل القرآن، فيشبّهون على الناس، وليس كلّ الناس يعلم ما يريدون؛ وإنما يريدون فرقة، ويقرّبون فتنة؛ قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكّنت رقي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة؛ ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم؛ فارددهم إلى مصرهم؛ فلتكن دارهم في مصرهم الذين نجم فيه نفاقهم؛ والسلام.
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلاّ أطلق ألسنة منهم حين رجعوا.
وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم؛ فكتب عثمان إلى سعيدد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ وكان أميراً على حمص.
وكتب إلى الأشتر وأصحابه: أمّا عبد؛ فإني قد سيّرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها؛ فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرّاً. والسلام.
فلما قرأ الأشتر الكتاب، قال: اللهمّ أسوأنا نظراً للرعيّة وأعملنا فيهم بالمعصية؛ فعجِّل له النقمة.
فكتب بذلك سعيد إلى عثمان، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص؛ فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل، وأجري عليهم رزقاً.
قال محمد بن عمر: حدّثني عيسى بن عبد الرحمن، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، قال: اجتمع نفر بالكوفة - يطعنون على عثمان - من أشراف أهل العراق: مالك بن الحارث الأشتر، وثابت بن قيس النَّخعيّ، وكميل بن زياد النَّخعيّ، وزيد بن صوحان العبديّ، وجندب بن زهير الغامديّ، وجندب بن كعب الأزديّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ.
فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم، فكتب إليهأن سيَّرهم إلى الشأم وألزمهم الدّروب.
ذكر الخبر عن تسيير عثمان من سيَّر من أهل البصرة إلى الشام
مما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعميّ؛ مقال: لما مضى من إمارة اب عامر ثلاث سنين، بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة رجلاً لصّاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذّمة، ويتنكّر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمّة وأهل القبلة إلى عثمان. فكتب إلى عبد الله بن عامر: أن احبسه، ومن كان مثله فلا يخرجنّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً؛ فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرّح، فقبلوا منه، واستعظموه، وأرسل إليه ابن عامر، فسأله: ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب، رغب في الإسلام، ورغب في جوارك؛ فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتي الكوفة فأخرج منها فاستقرّ بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بينهم.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: إن حمران بن أبان تزوّج امرأة في عدّتها، فنكّل به عثمان، وفرّق بينهما، وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر؛ فتذاكروا يوماً الركوب والمرور بعامر ابن عبد قيس - وكان منقبضاً عن الناس - فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره! فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فقال: الأمير أراد أن يمرّ بك فأحببت أن أخبرك، فلم يقطع قراءته ولم يقبل عليه، فقام من عنده خارجاً.
فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر، فقال: جئتك من عند امرىء لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلاً؛ واستأذن ابن عامر، فدخل عليه، وجلس إليه، فأطبق عامر المصحف، وحدّثه ساعة، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي العرجاء يحبّ الشرف، فقال: ألانستعملك؟ فقال: حصين ابن أبي الحرّ يحب العمل، فقال: ألا نزوّجك! فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء، قال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلاً، فتصفّح المصحف؛ فكان أوّلأ ما وقع عليه واففتح منه: " إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، فلما ردّ حمران تتبّع ذلك منه، فسعى به، وشهد له أقوام فسيّره إلى الشام، فلما علموا علمه أذنوا له فأبى ولزم الشام.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، أنّ عثمان سيّد حمران بن أبان؛ أن تزوَّج امرأة في عدّتها، وفرق بينهما، وضربه وسيّره إلى البصرة؛ فلما أتي عليه ما شاء الله، وأتاه عنه الذي يحبّ، أذن له. فقدم عليه المدينة، وقدم معه قوم سعوا بعامر بن عبد قيس؛ أنه لا يرى التزويج، ولا يأكل اللحم؛ ولا يشهد الجمعة - وكان مععامر انقباض؛ وكان عمله كله خفية - فكتب إلى عبد الله بن عامر بذلك، فألحقه بمعاوية؛ فلما قدم عله وافقه وعنده ثريدة فأكل أكلاً غريباً؛ فعرف أنّ الرجل مكذوب عليه، فقال: يا هذا، هل تدري فيم أخرجت؟ قال: لا، قال: أبلغ الخليفة أنك لا تأكل اللحم، ورأيتك وعرفت أن قد كذب عليك، وأنك لا ترى التزويج، ولا تشهد الجمعة، قال: أمّا الجمعة فإني أشهدها في مؤخّر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس؛ وأمّا التزويج فإني خرجت وأنا يخطب عليّ؛ وأما اللحم فقد رأيت، ولكنيّ كنت أمرأ لا آكل ذبائح القصّابين منذ رأيت قصاباً يجرّ شاة إلى مذبحها، ثم وضع السكين على مذبحها، فما زال يقول: النَّفاق النَّفاق، حتى وجبت. قال: فارجع، قال: لا أرجع إلى بدل استحلّ أهله منيّ ما استحلوا ولكنيّ أقيم بهذا البلد الذي اختاره الله لي. وكان يكون في السواحل؛ وكان يلقى معاوية، فيكثر معاوية أن يقول: حاجتك؟ فيقول: لا حاجة لي؛ فلما أكثر معليه، قال: تردّ عليّ من حرّ البصرة لعلّ الصوم أن يشتدّ عليّ شيئاً، فإنه يخفّ عليّ في بلادكم.
كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما قدم مسيَّرة أهل الكوفة علىمعاوية، أنزلهم داراً، ثم خلا بهم، فقال لهم وقالوا له، فلما فرغوا قال: لم تؤتوا إلا الحمق، والله ما أرى منطقاً سديداً، ولا عذراً مبيناً، ولا حلماً ولا قوّة؛ وإنّك يا صعصعة لأحمقهم؛ اصنعوا وقولوا ما شئتم ما لم تدعوا شيئاً من أمر الله؛ فإنّ كلّ شيء يحتمل لكم إلا معصيته، فأما فيما بيننا وبينكم فأنتم أمراء أنفسكم. فرآهم بعد وهم يشهدون الصلاة، ويقفون مع قاصّ الجماعة، فدخل عليهم يوماً وبعضهم يقريء بعضاً، فقال: إنّ في هذا لخلقاً مما قدمتم به عليّ من النِّزاع إلى أمر الجاهلية؛ اذهبوا حيث شئتم، واعلموا أنكم إن لزمتم جماعتكم سعدتم بذلك دونهم؛ وإن لم تلزموها شقيتم بذلك دونهم؛ ولم تضرُّوا أحداً، فجزوه خيراً، وأثنوا عليه، فقال: يا بن الكوّاء، أيّ رجل أنا؟ قال: بعيد الثرى، كثير المرعى، طيّب البديهة، بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدّت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الإحداث من أهل الأمصار فإنك أعقل أصحابك،؛ قال: كاتبتهم وكاتبوني، وأنكروني وعرفتم؛ فأما أهل الإحداث من أهل الكوفة فإنّهم أنظر الناس في صغير، وأركبه لكبير. وأمّا أهل الإحداث من أهل البصرة، فإنهم يردون جميعاً، ويصدرون شتّى، وأما أهل الإحداث من أهل مصر فهم أوفى الناس بشرّ، وأسرعه ندامة؛ وأما أهل الإحداث من أهل الشأم فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان.
وزعم أبو معشر أنّ فتح قبرس كان في هذه السنة، وقد ذكرت من خالفه في ذلك.