المجلد الرابع - ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله أمر عثمان ابن عباس أن يحج بالناس في هذه السنة

ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله

أمر عثمان ابن عباس أن يحجّ بالناس في هذه السنة

ذكر محمد بن عمر الواقديّ أنّ أسامة بن زيد حدّثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما حصر عثمان الحصر الآخر قال عكرمة: فقلت لابن عبّاس: أوكانا حصرين؟ فقال ابن عباس: نعم، الحصر الأوّل، حصر اثنتي عشرة - وقدم المصريون فلقيهم عليّ بذي خشب؛ فردّهم عنه؛ وقد كان والله عليّ له صاحب صدق، حتى أوغر نفس عليّ عليه؛ جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على عليّ فيتحمّل؛ ويقولون: لو شاء ما كلّمك أحد؛ وذلك أن عليّاً كان يكلمه وينصحه ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه، فيقولون لعثمان: هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه وابن عمته؛ فما ظنّك بما غاب عنك منه! فلم يزالوا بعليّ حتى أجمع ألاّ يقوم دونه؛ فدخلت عليه اليوم الذي خرجت فيه إلى مكة، فذكرت له أنّ عثمان دعاني إلى الخروج فقال لي: ما يريد عثمان أن ينصحه أحدٌ؛ اتّخذ بطانة أهل غشّ ليس منهم أحد إلاّ قد تسبّب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذلّ أهلها؛ فقلت له: إنّ له رحماً وحقّاً؛ فإن رأيت أن تقوم دونه فعلت؛ فإنك لا تعذر إلا بذلك.

قال ابن عباس: فالله يعلم أنّي رأيت فيه الانكسار والرّقة لعثمان؛ ثم إني لأراه يؤتى إليه عظيم. ثم قال عكرمة: وسمعت ابن عباس يقول: قال لي عثمان: يا بن عباس، اذهب إلى خالد بن العاص وهو بمكة، فقل له: يقرأ عليك أمير المؤمنين السلام، ويقول لك: إني محصور منذك كذا وكذا يوماً، لا أشرب إلاّ من الأجاج من داري، وقد منعت بئراً اشتريتها من صلب مالي، رومة؛ فإنما يشربها الناس ولا اشرب منها شيئاً، ولا آكل إلاّ مما في بيتي، منعت أن آكل مما في السوق شيئاً وأنا محصور كما ترى؛ فأمره وقل له: فليحجّ بالناس؛ وليس بفاعل؛ فإن أبي فاحجج أنت بالناس.

فقدمت الحجّ في العشر، فجئت خالد بن العاص، فقلت له ما قال لي عثمان، فقال لي: هل طاقة بعداوة من ترى؟ فأبى أن يحجّ وقال: فحجّ أنت بالناس: فأنت ابن عمّ الرجل؛ وهذا الأمر لا يفضي إلاّ إليه - يعني عليّاً - وأنت أحقّ أن تحمل له ذلك، فحججت بالناس، ثم قفلت في آخر الشهر، فقدمت المدينة وإذا عثمان قد قتل؛ وإذا الناس يتواثبون على رقبة علي بن أبي طالب. فلما رآني عليّ ترك الناس، وأقبل عليّ فانتجاني، فقال: ما ترى فيما وقع؟ فإنه قد وقع أمر عظيم كما ترى لا طاقة لأحد به؛ فقلت: أرى أنه لا بدّ للناس منك اليوم؛ فأرى أنه لا يبايع اليوم أحدٌ إلاّ اتّهم بدم هذا الرجل، فأبى إلاّ أن يبايع فاتّهم بدمه.

قال محمد: فحدّثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال لي عثمان رضي الله عنه: إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة؛ وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس؛ فأنا خائف أن يمنعوه الموقف فيأبى، فيقاتلهم في حرم الله جلّ وعزّ وأمنه. وإن قوماً جاءوا من كلّ فجّعميق، ليشهدوا منافع لهم؛ فرأيت أن أولّيك أمر الموسم. وكتب معه إلى أهل الموسم بكتاب يسألهم أن يأخذوا له بالحقّ ممن حصره. فخرج ابن عباس، فمرّ بعائشة في الصّلصل؛ فقالت: يا بن عباس؛ أنشدك الله - فإنك قد أعطيت لساناً إزعيلا - أن تخذّل عن هذا الرجل، وأن تشكّك فيه الناس؛ فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورفعت لهم المنار، وتحلّبوا من البلدان لأمر قد حمّ؛ وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتّخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر، قال: قلت يا أمّه لو حدث بالرّجل حدث ما فزع الناس إلاّ إلى صاحبنا. فقالت: إيهاً عنك! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.

قال ابن أبي سبرة: فأخبرني عبد المجيد بن سهيل؛ أنه انتسخ رسالة عثمان التي كتب بها من عكرمة، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين؛ سلام عليكم، فإنّي أذكّركم بالله جلّ وعزّ الذي أنعم عليكم وعلّمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البيّنات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم نعمتع؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول وقوله الحق: "وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار".

وقال عزّ وجلّ: "يأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون واعتصمموا بحبل الله جميعاً" إلى قوله: "لهم عذاب عظيم". وقال وقوله الحقّ: "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الَّذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا". وقال وقوله الحقّ: "يأيُّها الَّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ" إلى قوله: "فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم". وقوله عزّ وجلّ: "إنَّ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً" إلى "ولهم عذاب أليم". وقال وقوله الحق: "فاتٌّقوا الله ما استطعم" إلى "فأولئك هم المفلحون". وقال وقوله الحق": "ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها" إلى قوله: "ولنجزينَّ الَّذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". وقال وقوله الحق: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" إلى "وأحسن تأويلاً". وقال وقوله الحق: م"وعد الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصَّالحات" إلى قوله: "ومن مكفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون". وقال وقوله الحق: "إنَّ الَّذين يبايعونك إنَّما يبايعون الله" إلى "فسيؤتيه أجراً عظيماً".

أما بعد، فإنّ الله عزّ وجلّ رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذّركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدّم إليكم فيه ليكون له الحجّة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله عزّ وجلّ واحذروا عذابه؛ فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلاّ من بعد أن تختلف؛ إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعاً، وسلِّط عليكم عدوّكم، ويستحلّ بعضكم حرم بعض؛ ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا مشيعاً، وقد قال الله جلّ وعزّ لرسوله صلى الله عليه وسلّم: "إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعياً لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله ثمَّ ينبِّئهم بما كانوا يفعلون". وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذّركم عذابه؛ فإن شعيباً صلى الله عليه وسلّم قال لقومه: "ويا قوم لا يجر منَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح" إلى قوله: "رحيم ودود".

أما بعد؛ فإنّ أقواماً ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنَّما يدعون إلى كتاب الله عزّ وجلّ والحقّ، ولا يريدون الدّنيا ولا منازعة فيها؛ فلما عرض عليهم الحقّ إذا الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحقّ، ونازع عنه حين يعطاه؛ ومنهم تارك للحقّ ونازل عنه في الأمر، يريد أن يبتزّه بغير الحقّ؛ طال عليهم عمري، وراث عليهم. أملهم الإمرة؛ فاستعجلوا القدر؛ وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم؛ ولا أعلم أنيّ تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئاً؛ كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعدّاها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد. قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب. وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفَّى ليستنّ فيه السنّة الحسنة، ولا يعتدي في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوّة والأمانة، وتردُّ مظالم مالناس إلى أهلها؛ فرضيت بذلك واصطبرت له؛ وجئت نسوة مالنبيّ صلى الله عليه وسلّم محتى كلّمتهنّ، فقلت: ما تأمرنني؟ فقلن: تؤمِّر عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس وتدع معاوية؛ فإنما أمّره أمير قبلك؛ فإنه مصلح لأرضه، راض به جنده؛ واردد عمراً؛ فإنّ جنده راضون به، وامّره فليصلح أرضه؛ فكلّ ذلك فعلت. وإنه اعتدى عليّ بعد ذلك، وعدي على الحقّ.

كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر؛ استعجلوا القدر، ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزُّوا ما قدروا عليه بالمدينة.

كتبت إليكم كتابي هذا؛ موهم يخيّرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكلّ رجل أصبتهه خطأ أو صواباً، غير متروك منه شيء؛ وإمّا أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإمّا يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرّءون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة. فقلت لهم: إمّا إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطيء وتصيب؛ فلم يستقد من أحد منهم؛ وقد علمت أنما يريدون نفسي؛ وأمّا أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من عمل الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرءون من طاعتي؛ فلست عليكم بوكيل؛ ولم أكن استكرهتهم من مقبل على السمع والطاعة؛ ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله عزّ وجلّ وإصلاح ذات البين؛ ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضات الله عزّ وجلّ والسنّة الحسنة التي استنّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم والخليفتان من بعده رضي الله عنهما؛ فإنما يجزي بذلكم الله؛ وليس بدي جزاؤكم؛ ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثم لدينكم، ولم يغن معنكم شيئاً، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده؛ فمن يرض بالنَّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضي الله سبحانه أن تنكثوا عهده. وأما الذي يخيّرونني فإنما كله النزع والتأمير. فملكت نفسي ومن معي؛ ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنَّة السوء وشقاق الأمّة وسفك الدماء؛ فإني أنشدكم بالله والإسلام ألاّ تأخذوا إلاّ الحق وتعطوه مني وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عزّ وجلّ، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والموازرة في أمر الله؛ فإنّ الله سبحانه قال وقوله الحق: "وأفووا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولاً"، فإنّ هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكّرون.

أما بعد، فإني لا أبرىء نفسي، "إنّ النَّفس لأمَّارة بالسُّوء إلاَّ ما رحم ربِّ إنَّ ربِّي غفور رحيم"، وإن عاقبت أقواماً فما ابتغي بذلك إلاّ الخير، وإني أتوب إلى الله عزّ وجلّ من كلّ عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلاّ هو، إنّ رحمة ربي وسعت كلّ شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلاّ القوم الضَّالون، وإنه يقبل التَّوبة عن عباده ويعفو عن السّيئات ويعلم ما يفعلون. أنا أسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلّف قلوب هذه الأمة على الخير، ويكرّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها المؤمنون والمسلمون.
قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التَّروية بمكة بيوم.

قال: وحدّثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن معبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان، فاستعملني على الحجّ. قال: فخرجت إلى مكة، فأقمت للنّاس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم؛ ثم قدمت المدينة وقد بويع لعليّ.