المجلد الرابع - خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب

وفي هذه السنة بويع لعليّ بن أبي طالب بالمدينة بالخلافة ذكر الخبر عن بيعة من بايعه، والوقت الذي بويع فيه اختلف السلف من أهل السِّير في ذلك، فقال بعضهم: سأل عليّاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يتقلّد لهم وللمسلمين، فأبى عليهم؛ فلما أبوا عليه، وطلبوا إليه، تقلد ذلك لهم.

ذكر الرواية بذلك عمن رواه

حدّثني جعفر بن عبد الله ما لمحمّديّ، قال: حدّثنا عمرو بن حمّاد وعليّ ابن حسين، قالا: حدّثنا حسين عن أبيه، عن عبد الملك بن أبي سليمان الفزاريّ، عن سالم بن أبي الجعد الأشجعيّ، عن محمّد الحنفيّة، قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنّ هذا الرّجل قد قتل، ولا بدّ الناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً؛ فقالوا: لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك؛ قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون حفيّاً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين. قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه؛ وأبى هو إلا المسجد، فلمّا دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعوه الناس.

وحدّثني جعفر، قال: حدّثنا عمرو وعليّ، قالا: حدّثنا حسين، عن أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابديّ، قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان رضي الله عنه، واجتمع المهاجرون والأنصار، فيهم طلحة والزُّبير، فأتوا عليّاً فقالوا: يا أبا حسن؛ هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله فقالوا: ما نختار غيرك؛ قال: فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً، ثمّ أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلاّ بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إليّ وأتيتم، وإنّي قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلاّ فلا حاجة لي فيه. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني قد كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم؛ ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلاّ أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد عليهم، ثمّ بايعهم على ذلك.
قال أبو بشير: وأنا يومئذ عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم قائم أسمع ما يقول.

وحدّثني عمر بن شبّة، قال: حدّثنا عليّ بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر الهذليّ، عن أبي المليح، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه، خرج عليّ إلى السوق، وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فاتّبعه الناس وبهشوا في وجهه، فدخل حائط بني عمرو بن مبذول، وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا الباب، فدخلوا، فيهم طلحة والزّبير، فقالا: يا عليّ ابسط يدك. فبايعه طلحة والزّبير، فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع، فقال: أوّل من بدأ بالبيعة يد شلاّء؛ لا يتمّ هذا الأمر! وخرج عليٌّ إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خزّ، ونعلاه في يده، متوكئاً على قوس؛ فبايعه الناس. وجاءوا بسعد، فقال عليّ: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس؛ قال: خلّوا سبيله. وجاءوا بابن عمر، فقال: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بحميل، قال: لا أرى حميلاً، قال الأشتر: خلِّ عنّي أضرب عنقه، قال عليّ: دعوه، أنا حميله، إنك - ما علمت - لسيِّيء الخلق صغيراً وكبيراً.

وحدّثني محمد بن سنان القزّاز، قال: حدّثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدّثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن الحسن، قال: رأيت الزبير ابن العوّام بايع علياً في حشّ من حشّان المدينة.

وحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا وهب ابن جرير، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيليّ، عن الزُّهريّ، قال: بايع الناس عليّ بن أبي طالب، فأرسل إلى الزّبير وطلحة فدعاهم إلى البيعة، فتلكّأ طلحة، فقام مالك الأشتر وسلّ سيفه وقال: والله لتبايعنّ أو لأربنّ به ما بين عينيك، فقال طلحة: وأين المهرب عنه! فبايعه، وبايعه الزّبير والناس. وسأل طلحة والزّبير أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة، فقال: تكونان عندي فأتحمَّل بكما، فإني وحش لفراقكما. قال الزّهريّ: وقد بلغنا أنه قال لهما: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك؛ وقالا بعد ذلك: إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. فظهرا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر.

وحدّثني عمر بن شبّة، قال: حدّثنا أبو الحسن، قال: حدّثنا أبو مخنف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن الحنفيَّة، قال: كنت أمسي مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه حتى دخل بيته، فأتاه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنّ هذاالرجل قد قتل، ولا بدّ من إمام للناس، قال: أو تكون شورى؟ قالوا: أنت لنا رضاً، قال: فالمسجد إذاً يكون عن رضاً من الناس. فخرج إلى المسجد فبايعه من بايعه؛ وبايعت الأنصار عليّاً إلاّ نفيراً يسيراً، فقال طلحة: ما لنا من هذا الأمر إلا كحسَّة أنف الكلب.

وحدّثني عمر، قال: حدّثنا أبو الحسن، قال: أخبرنا شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه بايعت الأنصار عليّاً إلاّ نفيراً يسيراً، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدريّ، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا عثمانيّة. فقال رجل لعبد الله بن حسن: كيف أبي هؤلاء بيعة عليّ! وكانوا عثمانية. قال: أما حسّان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع؛ وأما زيد ابن ثابت فولاّه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان؛ قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصاراً لله... مرّتين، فقال أبو أيُّوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان. فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك ما أخذ منهم له.

قال: وحدّثني من سمع الزّهريّ يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليّاً، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة ابن شعبة. وقال آخرون: إنما بايع طلحة والزبير عليّاً كرهاً.

وقال بعضهم: لم يبايعه الزّبير.

ذكر من قال ذلك: حدّثني عبد الله بن أحمد المروزيّ، قال: حدثني أبي، قال: حدّثني سليمان؛ قال: حدثني عبد ه، عن جرير بن حازم، قال: حدّثني هشام ابن أبي هشام مولى عثمان بن عفان، عن شيخ من أهل الكوفة، يحدّثه عن شيخ آخر، قال: حصر عثمان وعليّ بخيبر، فلما قدم أرسل إليه عثمان يدعوه، فانطلق، فقلت: لأنطلقنّ معه ولأسمعنّ مقالتهما، فلما دخل عليه كلّمه عثمان، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ لي عليك حقوقاً؛ محقّ الإسلام، وحقّ الإخاء - وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين آخى بين الصّحابة آخى بيني وبينك - وحقّ القرابة والصِّهر، وما جعلت لي في عنقك من العهد والميثاق، فوالله لو لم يكن من هذا شيء ثم كنّا إنما نحن في جاهليّة، لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم.

فتكلم عليٌّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك عليَّ على ما ذكرت، أمّا قولك: لو كنا في جاهليّة لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم فصدقت، وسيأتيك الخبر. ثمّ خرج فدخل المسجد فرأى أسامة جالساً، فدعاه، فاعتمد على يده، فخرج يمشي إلى طلحة وتبعته، فدخلنا دار طلحة بن عبيد الله وهي دحاس من الناس، فقام إليه، فقال: يا طلحة، ما هذا الأمر الّذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا حسن، بعد ما مسّ الحزام الطبيين! فانصرف عليّ ولم يحر إليه شيئاً حتى أتى بيت المال، فقال: افتحوا هذا الباب، فلم يقدر على المفاتيح، فقال: اكسروه؛ فكسر باب بيت المال، فقال: أخرجوا المال، فجعل بعطي الناس فبلغ الذين في دار طلحة الذي صنع عليّ، فجعلوا يتسلّلون إليه حتى ترك طلحة وحده. وبلغ الخبر عثمان، فسرّ بذلك، ثمّ أقبل طلحة يمشي عائداً إلى دار عثمان، فقلت: والله لأنظرنّ ما يقول هذا؛ فتبعته، فاستأذن على عثمان، فلمّا دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه، أردت أمراً فحال الله بيني وبينه، فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائباً، ولكنك جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة! وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا ابن سعد، قال: أخبرنا بن عمر، قال: حدّثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص، عن ابيه، عن سعد، قال: قال طلحة: بايعت والسيف فوق رأسي - فقال سعد:لا أدري والسيف على رأسه أم لا، إلاّ أني أعلم أنه بايع كارهاً - قال وبايع الناس عليّاً بالمدينة، وتربّص سبعة نفر فلم يبايعوه؛ منهم: سعد بن أبي وقّاص، ومنهم ابن عمر، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد ماب مسلمة، وسلمة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلَّف أحد من الأنصار إلاّ بايع فيما نعلم.

وحدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: حدّثني أبي عبد الله بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزّبير، قال: لما قتل الناس عثمان رضي الله عنه وبايعوا عليّاً، جاء عليٌّ إلى الزبير فاستأذن عليه، فأعلمته به، فسلّ السيف ووضعهتحت فراشه، ثم قال: ائذن له، فأذنت له، فدحل فسلّم على الزّبير وهو واقف بنحره، ثمّ خرج. فقال الزبير، لقد دخل المرء ما أقصاه، قم في مقامه فانظر هل ترى من السيف شيئاً؟ فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف، فأخبرته فقال: ذاك أعجل الرّجل. فلما خرج عليّ سأله الناس، فقال: وجدت أبرّ ابن أخت وأوصله. فظنّ الناس خيراً، فقال علي: إنه بايعه.

ومما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف بن عمر، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة، وأبو عثمان، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام، وأميرها الغافقيّ بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريّون عليّاً فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدههم وتبرّأ منهم ومن مقالتهم مرّة بعد مرّة؛ ويطلب الكوفيون الزّبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلاً، فباعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ ويطلب البصريّون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ مرّة بعد مرّة؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئاً ولا مجيباً جمعهم الشرّ على أولّ من أجابهم، وقالوا: لا نولّى أحداً من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل:

لا تخلطنَّ خبيثـات بـطـيِّبة          واخلع ثيابك منها وانج عريانا

ثمّ إنهم أتوا ابن عمر عبد الله، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إنّ لهذا الأمر انتقاماً والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم.

و كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كانوا إذا لقوا طلحة أبى وقال:

ومن عجب الأيام والدّهر أنني         بقيت وحيداً لا أمرّ ولا أحلي

فيقولون: إنّك لتوعدنا. فيقومون فيتركونه، فإذا لقوا الزّبير وأرادوه أبى وقال:

متى أنت عن دار بفيحان راحل       وباحتها تخنو عليك الكـتـائب

فيقولون: إنك لتوعدنا! فإذا لقوا عليّاً وأرادوه أبى، وقال:

لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم              أمرتهم أمـراً يديخ الأعـاديا

فيقولون: إنك لتوعدنا! فيقومون ويتركونه.

وحدّثني عمر بن شبّة، قال: حدّثنا أبو الحسن المدائنيّ، قال: أخبرنا مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أتى الناس عليّاً وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا فإنّ عمر كان رجلاً مباركاً، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون. فارتدّ الناس عن عليّ؛ ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا إلى عليّ، فأخذ الأشتر بيده فقبضها عليّ، فقال: أبعد ثلاثة! أما والله لئن تركتها لتقصرنّ عنيتك عليها حيناً، فبايعته العامّة. وأهل الكوفة يقولون: إنّ أوّل من بايعه الأشتر.
وكتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزّبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا بني أميّة قد هربوا إلاّ من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أوّل من خرج، وتبعهم مروان، وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلاً تنصّبونه، ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: عليّ بن أبي طالب نحن به راضون.

وأخبرنا عليّ بن مسلم، قال: حدّثنا حبّان بن هلال، قال: حدّثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إنّ عليّاً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك، قال: فبسط عليّ يده فبايعه.

وكتب إليّ السريّ عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فقالوا لهم: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غداً عليّاً وطلحة والزّبير وأناساً كثيراً. فغشى الناس عليّاً فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال عليّ: دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! فقال: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت. فبعث البصريّون إلى الزّبير بصريّاً، وقالوا: احذر لاتحادّه - وكان رسولهم حكيم بن جبلة العبديّ في نفر - فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وإلى طلحة كوفياً وقالوا له: احذر لاتحادّه، فبعثوا الأشتر في نفر فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشّع أهل الكوفة وأهل البصرة أن صاروا أتباعاً لأهل مصر وحشوة فيهم، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير. غيظاً، فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء عليّ حتى صعد المنبر، فقال: يأيّها الناس - عن ملإ وإذن - إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وجاء القوم بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني إنّما أبايع كرهاً، فبايع - وكان به شلل - أوّل الناس، وفي الناس رجل يعتاف، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلاّء، لا يتمّ هذا الأمر! ثم جىء بالزّبير فقال مثل ذلك وبايع - وفي الزّبير اختلاف - ثمّ جىء بقوم كانوا قد تخلّفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد، والعزيز والذّليل، فبايعهم؛ ثمّ قام العامّة فبايعوا.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي زهير الأزديّ، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع الناس على عليّ، ذهب الأشتر فجاء بطلحة، فقال له: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه وجاء به يتلّه تلاًّ عنيفاً، وصعد المنبر فبايع.

وكتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الحارث الوالبيّ، قال: جاء حكيم بن جبلة بالزّبير حتى بايع؛ فكان الزّبير يقول: جاءني لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت واللّجّ على عنقي.

وكتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبايع النّاس كلهم.

قال أبو جعفر: وسمح بعد هؤلاء الذين اشترطوا الذين جىء بهم، وصار لأمر أمر أهل المدينة، وكانوا كما كانوا فيه، وتفرّقوا إلى منازلهم لولا مكان النّزّاع والغوغاء فيهم.

اتّساق الأمر في البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وبويع عليّ يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة - والناس يحسبون من يوم قتل عثمان رضي الله عنه - فأوّل خطبة خطبها عليّ حين استخلف - فيما كتب به إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن عليّ بن الحسين - حمد الله وأثنى عليه، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا بالخير ودعوا الشرّ. الفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنّة. إنّ الله حرّم حرماً غير مجهولة، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين. والمسلم من سلم النّاس من لسانه ويده إلا بالحقّ، لا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصّة أحدكم الموت، فإنّ الناس أمامكم، وإنّ ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتّقوا الله عباده في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله عزّ وجلّ ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه، "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض".

ولما فرغ عليّ من خطبته وهو على المنبر قال المصريون:

خذها... واحذراًأبا حـسـن           إنّا نمرّ الأمر إمرار الرّسن

وإنما الشعر:

خذها إليك واحذراً أبا حسن

فقال عليّ مجيباً:

إني عجزت عجزة ما أعتذر            سوف أكيس بعدها وأستمر

وكتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما أراد عليّ الذّهاب إلى بيته قالت السّبئيّة:

خذها إليك واحذراً أبا حسن             إنّا نمرّ الأمر إمرار الرّسن
صولة أقوام كأسداد السّفـن            بمشرفيّات كغدران اللّبـن
ونطعن الملك بلين كالشّطن          حتى يمرّنّ على غير عنن

فقال عليّ وذكر تركهم العسكر والكينونة على عدة ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى.....

إنّي عجزت عجزةً لا أعتـذر  &nbsnbsp;            سوف أكيس بعدها وأستـمـر
أرفع من ذيلي ما كنـت أجـرّ             وأجمع الأمر الشّتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر      أو يتركوني والسّلاح يبـتـدر

واجتمعإلى عليّ بعد ما دخل طلحة والزّبير في عدّة من الصّحابة، فقالوا: يا عليّ، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرّجل وأحلّوا بأنفسهم. فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله؛ إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قطّ فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إنّ الناس من هذا الأمر إن حرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثمّ عودوا.

واشتدّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيّجه على ذلك هرب بني أميّة. وتفرّق القوم؛ وبعضهم يقول: والله لئن ازداد الأمر لا قدرنا على انتصار من هؤلاء الأشرار؛ لترك هذا إلى ما قال عليّ أمثل. وبعضهم يقول: نقضي الّذي علينا ولا نؤخّره، ووالله إنّ لعيّا لمستغنٍ برأيه وأمره عنا، ولا نراه إلاّ سيكون على قريش أشدّ من غيره. فذكر ذلك لعليّ فقام فحمد الله وأثنى عليه وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم، وأنه ليس له من سلطانهم إلاّ ذلك، والأجر من الله عزّ وجلّ عليه، ونادى: برئت الذّمة من عبد لم يرجع إلى مواليه. فتذامرت السّبئيّة والأعراب، وقالوا: لنا غداً مثلها، ولا نستطيع نحتجّ فيهم بشيء.

وكتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج عليّ في اليوم الثالث على الناس، فقال: يأيّها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب. وقال: يا معشر الأعراب، الحقوا بمياهكم. فأبت السّبئيّة وأطاعهم الأعراب. ودخل عليّ بيته ودخل عليه طلحة والزّبير وعدّة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه؛ فقالوا: عشوا عن ذلك، قال: هم والله بعد اليوم أعشى وآبى. وقال:

لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم           أمرتهم أمـراً يديخ الأعـاديا

وقال طلحة: دعني فلآت البصرة فلا يفجؤك إلاّ وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك. وقال الزّبير: دعني آت الكوفة فلا يفجؤك إلاّ وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك؛ وسمع المغيرة بذلك المجلس فجاء حتى دخل عليه، فقال: إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وإنّ الرّأي اليوم تحرز به ما في غد، وإنّ الضّياع اليوم تضيّع به ما في غد؛ أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، وأقرر العمّال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت. قال: حتى أنظر.

فخرج من عنده وعاد إليه من الغد، فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأي، وإنّ الرأي أن تعاجلهم بالنزوع، فيعرف السامع من غيره ويستقبل أمرك؛ ثمّ خرج وتلقّاه ابن عباس خارجاً وهو داخل، فلما انتهى إلى عليّ قال: رأيت المغيرة خرج من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بذيّة وذيّة، وجاءني اليوم بذيّة وذيّة، فقال: أمّا أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشّك. قال: فما الرّأي؟ قال: كان الرّأي أن تخرج حين قتل الرّجل أو قبل ذلك، فتأتي مكة فتدخل دارك وتغلق عليك بابك، فإن كانت العرب جائلة مضطربة في أثرك لا تجد غيرك؛ فأمّا اليوم فإنّ في بني أميّة من يستحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر، ويشبّهون على الناس، ويطلبون مثل ما طلب أهل المدينة، ولا تقدر على ما يريدون ولا يقدرون عليه، ولو صارت الأمور إليهم حتى يصيروا في ذلك أموت لحقوقهم؛ وأترك لها إلا ما يعجّلون من الشبهة. وقال المغيرة: نصحته والله، فلما لم يقبل غششته. وخرج المغيرة حتى لحق بمكة.

حدّثني الحارث، عن ابن سعد، عن الواقديّ، قال: حدّثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحجّ، فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثمّ قدمت المدينة وقد بويع لعليّ؛ فأتيته في داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمّال عثمان بعهودهم تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنّهم يهدّئون البلاد ويسكّنون الناس؛ فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يولّى.

قال: ثمّ انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطىء؛ ثمّ عاد إليّ الآن فقال: إنّي أشرت عليك أوّل مرّة بالذي اشرت عليك وخالفتني فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك رأياً، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنتزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعليّ: أما المرّة الأولى فقد نصحك، وأما المرّة الآخرة فقد غشّك؛ قال له عليّ: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنّك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا؛ ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشأم وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزّبير أن يكرّا عليك. فقال عليّ: أمّا ما ذكرت من إقرارهم فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدّنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً؛ فإن أقبلوا فذلك خير لهم: وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فأطعني وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإنّ العرب تجلو جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً. فأبى عليّ، فقال لابن عباس: سر إلى الشأم فقد ولّيتكها؛ فقال ابن عباس: ما هذا برأي؛ معاوية رجلٌ من بني أميّة وهو ابن عمّ عثمان وعامله على الشأم، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم عليّ. فقال له عليّ: ولم؟ قال: لقرارة ما بيني وبينك، وإنّ كلّ ما حمل عليك حمل عليّ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده. فأبى عليّ وقال: والله لا كان هذا أبداً.

قال محمّد: وحدّثني هشام بن سعد، عن أبي هلا، قال: قال ابن عبّاس: قدمت المدينة من مكة بعد قتل عثمان رضي الله عنه بخمسة أيام، فجئت عليّاً أدخل عليه، فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة؛ فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة فسلّم عليّ فقال: متى قدمت؟ فقلت: الساعة. فدخلت على عليّ فسلّمت عليه، فقال لي: لقيت الزّبير وطلحة؟ قال: قلت: لقيتهما بالنّواصف. قال: من معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحارث بن هشام في فئة من قريش. فقال عليّ: أما إنهم لن يدعوا أن يخرجوا يقولون: نطلب بدم عثمان؛ والله نعلم أنهم قتلة عثمان. قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟ قال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين، فقال لي: أخلني، ففعلت؛ فقال: إنّ النّصح رخيص وأنت بقيّة الناس، وإني لك ناصح، وإني أشير عليك بردّ عمال عثمان عامك هذا؛ فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت. فقلت: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدّنيّ في أمري. قال: فإن كنت قد أبيت عليّ فانزع من شئت واترك معاوية، فإنّ لمعاوية جرأة، وهو في أهل الشأم يسمع منه، ولك حجّة في إثباته؛ كان عمر بن الخطاب قد ولاّه الشأم كلها، فقلت: لا والله، لا أستعمل معاوية يومين أبداً. فخرج من عندي على ما أشار به، ثمّ عاد فقال لي: إنّي أشرت عليك بما أششرت به فأبيت عليّ، ثمّ نظرت في الأمر فإذا أنت مصيب، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون في أمرك دلسة. قال: فقال ابن عباس: فقلت لعليّ: أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، وأما الآخر فغشّك؛ وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله. قال عليّ: لا والله، لا أعطيه إلاّ السيف. قال: ثم تمثّل بهذا البيت:

ما ميتة إن متّها غير عـاجـز           بعار إذا ما غالت النفس غولها

فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بأرب بالحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "الحرب خدعة"! فقال عليّ: بلى، فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا بن عباس، لست من هنيئاتك وهنيات معاوية في شيء، تشير عليّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: أفعل، إنّ أيسر مالك عندي الطاعة.

مسير قسطنطين ملك الرّوم يريد المسلمين

وفي هذه السنة - أعني سنة خمس وثلاثين - سار قسطنطين بن هرقل - فيما ذكر محمد بن عمر الواقديّ عن هشام بن الغاز، عن عبادة بن نسيّ - في ألف مركب يريد أرض المسلمين، فسلّط الله عليهم قاصفاً من الرّيح فغرّقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل، فأتى صقلّيّة، فصنعوا له حمّاماً فدخله فقتلوه فيه؛ وقالوا: قتلت رجالنا.