المجلد الرابع - ذكر الخبر عن مسير علي بن أبي طالب نحو البصرة

ذكر الخبر عن مسير عليّ بن أبي طالب نحو البصرة

مما كتب به إليّ السريّ، أن شعيباً حدّثه، قال: حدّثنا سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن يزيد الضّخم، قال: لما أتي عليّاً الخبر وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزّبير أنهم قد توجّهوا نحن العراق، خرج يبادر وهو يرجو أن يدركهم ويردّهم، فلما انتهى إلى الرّبذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالرّبذة أياماً، وأتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة، فسرّي بذلك عنه، وقال: إنّ أهل الكوفة أشدّ إليّ حبّاً، وفيهم رءوس العرب وأعلامهم. فكتب إليهم: إنّي قد اخترتكم على الأمصار وإنّي بالأثرة.

حدّثني عمر، قال: حدّثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: كتب عليّ إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودّتكم وحبكم لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى الله عليه وسلّم، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحقّ وقضى الذي عليه.

حدّثني عمر، قال: حدّثنا أبو الحسن. قال: حدّثنا حبّان بن موسى، عن طلحة بن الأعلم موبشر بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه قال: بعث محمد بن أبي بكر إلى الكوفة ومحمّد بن عون، فجاء الناس إلى أبي موسى يستشيرونه في الخروج، فقال أبو موسى: أمّا سبيل الآخر فأن تقيموا، وأمّا سبيل الدّنيا فأن تخرجوا، وأنتم أعلم. وبلغ المحمّدين قول أبي موسى، فبايناه وأغلظا له، فقال: أما والله إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما الذي أرسلكما، إن أردنا أن نقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان. وخر ج عليّ من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت عليّ بن عديّ من بني عبد العزّى ابن عبد شمس:

لاهم مفاعقر بعليّ جمله       ولا تبارك في بعير حمله

ألا عليّ بن عديّ ليس له حدّثني عمر، قال: حدّثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن نمير ابن وعلة، عن الشعبيّ؛ قال: لمّا نزل عليٌّ بالرّبذة أتته جماعة من طيّىء، فقيل لعليّ: هذه جماعة من طيّء قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك؛ قال: جزى الله كلاّ خيراً وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. ثمّ دخلوا عليه فقال عليّ: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحبّ، قال: جزاكم الله خيراً! فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائيّ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما كلّ ما أجد في قلبي يعبّر عنه لساني وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح لك في السرّ والعلانية وأقاتل عدوّك في كلّ موطن وأرى لك من الحقّ ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. قال: رحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك. فقتل معه بصفّين رحمه الله.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما قدم عليّ الرّبذة أقام بها وسرّح منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر؛ وكتب إليهم: إني اخترتكم معلى الأمصار وفزعتت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً، وأيّدونا وانهضوا إلينا فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخواناً، ومن أحبّ ذلك وآثره فقد أحبّ الحقّ وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحقّ وغمصه.

فمضى الرّجلان وبقى عليّ بالرّبذة يتهيّأ، وأرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد ما دابّة وسلاح، وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم؛ وقال: إنّ الله عزّ وجلّ أعزّنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخواناً بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد؛ فجرى الناس على ذلك ما شاء الله؛ الإسلام دينهم والحقّ فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرّجل بأيدي هؤلاء القوم الذّين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا إنّ هذه الأمّة لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم، فنعوذ بالله من شرّ ما هو كائن. ثمّ عاد ثانية، فقال: إنه لا بدّ مما هو كائن أن يكون، ألا وأنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ شرّها فرقة تنتحلى ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدى نبيّكم صلى الله عليه وسلّم، وأتّبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله جلّ وعزّ ربّا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيّاً، وبالقرآن حكماً وإماماً.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما أردا عليّ الخروج من الرّبذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين، أيّ شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أمّا الذي نريد وننوي فالإصلاح؛ إن قبلوا منّا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحقّ ونصبر؛ قال: فإن لم يرضوا؟ قال ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتعنا منهم، قال: فنعم إذاً. وقام الحجّاج بن غزّية الأنصاريّ فقال: لأرضينّك بالفعل كما أرضيتني بالقول. وقال:

دراكها دراكها قبل الـفـوت        وانفر بنا واسم بنا نحو الصّوت

ّاناً أنصاراً. فخرج أمير المؤمنين وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجرّاح، والرّاية مع محمّد بن الحنفيّة، وعلى الميمنة عبد الله بن عباس، وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وخرج عليّ وهو في سبعمائة وستين؛ وراجز عليّ يرجز به:

سيروا أبابيل وحثّوا السّيرا            إذ عزم السّير وقولوا خيرا
حتّى يلاقوا وتلاقوا خـيرا              نغزو بها طلحة والزّبـيرا

وهو أمام أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين عليّ على ناقة له حمراء يقود فرساً كميتاً. فتلقّاهم بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة بن عامر يدعى مرّة، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أمير المؤمنين، فقال: سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية، فسمعها عليّ فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: مرّة، قال: أمرّ الله عيشك، كاهن سائر اليوم؟ قال: بل عائف؛ فلما نزل بفيد أتته أسد وطيّيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وقدم رجل من أهل الكوفة فيد قبل خروج عليّ فقال: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر، قال: الليثيّ؟ قال الشيبانيّ: قال: أخبرني عما وراءك، قال: فأخبره حتى سأله عن أبي موسى، مفقال: إن أردت الصّلح مفأبو موسى صاحب ذلك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس بصاحب ذلك، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يردّ علينا، قال: قد أخبرتك لخبر، وسكت وسكت عليّ.

حدّثني عمر، قال: حدّثنا أبو الحسن، عن أبي محمد، عن عبد الله بن عمير، معن محمد بن الحنفيّة. قال: قدم عثمان بن حنيف على عليّ بالرّبذة وقد نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، يعثتني ذا لحية وجئتك أمرد، قال: أصبت أجراً وخيراً، إنّ الناس وليهم قبلي رجلان، فعملا بالكتاب، ثمّ وليهم ثالث، فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني، وبايعني طلحة والزّبير، ثمّ نكثاً بيعتي وألبّا الناس عليّ، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما عليّ، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن قد مضى، اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملاً.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولمّا نزل عليّ الثعلبيّة أتاه الّذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فقام وأخبر القوم الخبر، وقال: اللهمّ عافني مما ابتليت به طلحة والزّبير من قتل المسلمين، وسلّمنا منهم أجمعين. ولما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، ما ينجيني من طلحة والزّبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما! وقرأ: "ما أصاب من مصيبة في الأرض مولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها". وقال:

دعا حكيم دعوة الزّماع          حلّ بها منزلة النّزاع

ولما اتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف، وليس في وجهه شعر، فلما رآه عليّ نظر إلى أصحابه فقال: انطلق هذا من عندنا وهو شيخ، فرجع إلينا وهو شابّ. فلم يزل قار يتلوّم محمداً ومحمداً، وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزلوهم بالطريق، فقال: عبد القيس خير ربيعة، في كلّ ربيعة خير. وقال:

يا لهف نفس على ربيعة ربيعة           السامعة المطيعة
قد سبقتني فيهم الوقيعة                 دعا عليّ دعوة سميعة

حلّوا بها المنزلة الرّفيعة قال: وعرضت عليه بكر بن وائل، فقال لهم مثل ما قال لطيّء وأسد.

ولما قدم محمد ومحمد على الكوفة وأتيا أبا موسى بكتاب أمير المؤمنين، وقاما في الناس بأمره، لم يجابا إلى شيء، مفلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجي على أبي موسى، فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرّأي بالأمس ليس باليوم، إنّ الّذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جرّ عليكم ما ترون؛ وما بقي إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدّنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب الرّجلان وأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إنّ بيعة عثمان رضي الله عنه لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحداً حتى يفرغمن قتلة عثان حيث كانوا فانطلقا إلى عليّ قوافياه بذي قار وأخبراه الخبر، وقد خرج مع الأشتر وقد كان يعجل إلى الكوفة، فقال عليّ: يا أشتر، أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كلّ شيء، اذهب أنت وعبد الله بن عبّاس فأصلح ما أفسدت.

فخرج عبد الله بن عباس ومعه الأشتر، فقدما الكوفة وكلّما أبا موسى واستعانا عليه بأناس من الكوفة، فقال الكوفيين: أنا صاحبكم يوم الجرعة وأنا صاحبكم ماليوم؛ فجمع الناس فخطبهم وقال: يأيّها الناس، إنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم الّذين صحبوه في المواطن أعلم بالله جلّ وعزّ وبرسوله صلى الله عليه وسلّم ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقّاً فأنا مؤدّيه إليكم.

كان الرّأي ألاّ تستخفّوا بسلطان الله عزّ وجلّ ولا تجترثوا على الله عزّ وجلّ، وكان لارّأي الثاني أن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتى يجتمعوا، وهم أعلم بمن تصلح له الإمامة منكم، ولا تكلّفوا الدّخول في هذا، فأمّا إذ كان ما كان فإنها فتنة صمّاء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الرّاكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وأنصلوا الأسنّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد حتىيلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رجع ابن عباس إلى عليّ بالخبر دعا الحسن بن عليّ فأرسله، فأرسل معه عمّار بن ياسر، فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت؛ فأقبلا حتى دخلا المسجد، فكان أوّل من أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، علام قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا? فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيراً للصّابرين. فخرج أبو موسى، فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحللت نفسك مع الفجار? فقال: لم أفعل، ولم تسوؤني؟ وقطع عليهما الحسن، فأقبل عليّ أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، لم تثبّط النّاس عنا? فو الله ما أردنا إلاّ الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت بأبي أنت وأميّ? ولكنّ المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إ،ها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب؛ قد جعلنا الله عزّ وجلّ إخواناً، وحرّم عليها أموالنا مودماءنا، وقال: "يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، "ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما". وقال جلّ وعزّ: "ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم". فغذب عمار وساءه وقام وقال: يأيّها الناس، إنما قال له خاصّة، أنت فيها قاعداً خير منك قائماً. وقام رجل من بني تمين، فقال لعمّار: اسكت أيّها العبد، أنت أمس معمالغوغاء واليوم تسافه أميرنا؛ وثار زيد بن صوحان وطبقثه وثار الناس، وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ثمّ انطلق حتى أتي المنبر، وسكن الناس، وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة رضي الله عنه إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب كتاب العامّة فضمّه إلى كتابه، فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامّة: أمّا بعد، فثبّطوا أيّها الناس اجلسوا في بيوتكم إلاّ عن قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فلما فرغ من الكتاب قال: أمرت بأمر وأمرنا بأمر؛ أمرت أن تقرّ في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما مرت به وركبت ما أمرنا به. فقام إليه شبث بن ربعيّ فقال: يا عمانيّ - وزيد من عبد القيس عمان وليس من أهل البحرين - سرقت بجلولاء فقطعك الله، وعصيت أم المؤمنين فقتلك الله! ما أمرت إلا بما أمر الله عزّ وجلّ به بالإصلاح بين الناس؛ فقلت: وربّ الكعبة؛ وتهاوى الناس. وقام أبو موسى فقال: يا أيّها الناس، أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلم ويأمن فيكم الخائف، إنّا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم أعلم بما سمعنا، إن الفتنة إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت بيّنت، وإنّ هذه الفتنة باقرة كداء البطن تجري بها الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور، فتسكن أحياناً فلا يدري من أين تؤتي، تذر الحليم كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصّدوا رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم. خلّوا قريشاً - إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالإمرة - ترتق فتقها، وتشعب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها سعت، وإن أبت فعلى أنفسها منبت سمنها تهريق في أديمها؛ استنصحوني ولا تستغشّوني، وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بحرّ هذه الفتنة من جناها.

فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس؛ ردّ الفرات عن دراجده، اردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه. ثمّ قرأ: "الم أحسب النّاس مأن يتركوا" إلى آخر الآيتين؛ سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ.

فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولاً هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الأمر لو أنّ إليه سبيلاً، وأمّا ما قال زيد فزيد في الأمر فلا تستنصحوه فإنّه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها؛ والقول الذي هو القول إنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم ويعزّ المظلوم، وهذا عليّ يلي بما ولي، وقد أنصف في الدّعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأيى ومسمع.

وقال سيحان: أيّها الناس، إنه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويعزّ المظلوم ويجمع الناس، وهذا وإليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه في الدّين، فمن نهض إليه فإنا سائرون ممعه. ولان عمّار بعد نزوته الأولى. فلما فرغ سيحان من خطبته، تكلم عمار فقال: هذا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستنفركم إلى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإلى طلحة والزّبير، وإني أشهد أنّها زوجته في الدينا والآخرة، فانظروا ثمّ انظروا في الحق فقاتلوا معه؛ فقال رجل: يا أبا اليقظان، لهو مع من شهدت له بالجنّة على من لم تشهد له. فقال الحسسن: اكفف عنّا يا عمار، فإنّ للإصلاح أهلاً.

وقام الحسن بن عليّ، فقال: يأيّها الناس؛ أجيبوا دعوة أميركم؛ وسيروا إلى أخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أول النهى أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. فسامح الناس وأجابوا ورضوا به. وأتى قوم من طيّء عديّاً فقالوا: ماذا ترى وماذا تأمر؟ فقال: ننتظر ما يصنع الناس، فأخبر بقيام الحسن وكلام من تكلم، فقال: قد بايعنا هذا الرّجل، وقد دعانا إلى جميل، وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون.

وقام هند بن عمرو، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله، وانتهوا إلى أمره، وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.

وقالم حجر بن عديّ، فقال: أيّها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقا لامروا، أنا أولكم. وقام الأشتر فذكروا الجاهليّة وشدّتها، والإسلام ورخاءه، وذكر عثمان رضي الله عنه. فقام إليه المقطّع بن الهيثم بن فجيع العامريّ ثم البكائيّ، فقال: اسكت قبحك الله! كلب خلّى والنّباح، فثار الناس فأجلسوه.

وقام المقطّع، فقال: إنا والله لا نحتمل بعدها أن يبوء أححد بذكر أحد من أئمّتنا، وأنّ عليّا عندنا لمقنع، والله لئن يكن هذا الضّرب لا يرضى بعليّ. فعضّ امرؤ على لسانه في مشاهدنا؛ فأقبلوا على أحثّاكم.

فقال الحسن: صدق الشيخ، وقال الحسن: أيّها الناس، إنّي غاد فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظّهر، ومن شاء فليخرج في الماء فنفر معه تسعة آلاف، فأخذ بعضهم البرّ، وأخذ بعضهم الماء وعلى كل سبع رجل؛ أخذ البرّ ستة آلاف ومائتان، وأخذ الماء ألفان وثمانمائة.

وفيما ذكر نصر بن مزاحم العطار، عن عمر بن سعيد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم: أن عبد خير الخيوانيّ قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى، هل كان هذا الرّجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع عليّا؟ قال: نعم، قال: هل أحدث حدثاً يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دربت، فإنا تاركوك حتى تدري! يا أبا موسى هل تعلم أحداً خارجّاً من هذه الفتنة التي تزعم أنها هي فتنة؟ إنما بقي أربع فرق: عليّ بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشأم، وفرقة أخرى بالحجاز، لا يجبي بها فيء، ولا يقاتل بها عدوّ؛ فقال له أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة؛ فقال له عبد خير: يا أبا موسى، غلب عليك غشّك.
قال: وقد كان الأشتر قام إلى عليّ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بعثت إلى أهل الكوفة رجلاً قبل هذين فلم أره أحكم شيئاً ولا قدر عليه، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمر على ما تحبّ، ولست أدري ما يكون، فإن رأيت - أكرمك الله - يا أمير المؤمنين أن تبعثي في أثرهم، فإنّ أهل المصر أحسن شيء لي طاعة، وإن قدمت عليهم رجوت ألاّ يخالفني منهم أحجد. فقال له عليّ: الحق بهم؛ فأقبل الأشتر حتى جخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمرّ بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلاّ دعاهم ويقول: اتّبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبّطهم، يقول: أيّها الناس، إنّ هذه فتنة عمياء صماء تطأ خطامها النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من لاماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الرّاكب؛ إنها فتنة باقرة كداء البطن، أتتكم من قبل مأمنكم، تدع الحليم فيها حيران كابن أمس. إنا معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم أعلم بالفتنة، إنها إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت أسفرت. وعمّار يخاطبه والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك! وتنحّ عن منبرنا. وقال له عمار: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو موسى: هذه يدي بما قلت، فقال له عمّار: إنما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذا خاصة، فقال: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً، ثمّ قال عمّار: غلب الله من غلالبه وجاحده.

قال نصر بن مزاحم: حدّثنا عمر بن سعيد، قال: حدّثني رجل، عن نعيم، عن أبي مريم الثقفيّ، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ وعمّار يخاطب أبا موسى ويقول له ذلك القول، إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدّون ينادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا؛ فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أمّ لكّ أخرج الله نفسك، فو الله إنك لمن المنافقين قديماً، قال: أجّلني هذه العشيّة، فقال: هي لك، ولا تبينّ في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع مأبي موسى؛ فمنعهم الأشتر وأخرجهم من القصر، وقال: إني قد أخرجته، فكفّ الناس عنه.

نزول أمير المؤمنين ذا قار

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبيّ، قال: لما التقوا بذي قار تلقّاهم عليّ في أناس، فيهم ابن عباس فرحّب بهم، وقال: يا أهل الكوفة، أنتمولّيتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم؛ حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة؛ فإن يرجعوا فذاك ما نيريد وإن يلجّوا داويناهم بالرفق، وباينّاهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله.

فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين عليّ وأهل البصرة ينتظرون مرور عليّ بهم، وهم آلاف - وفي الماء ألفان وأربعمائة.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادها قالا: لما نزل عليّ ذا قار أرسل ابن عباس والأشتر بعد محمد بن أبي بكر ومحمد ابن جعفر، وأرسل الحسن بن عليّ وعمراً بعد ابن عباس والأشتر، فخفّ في ذلك الأمر جميع من كان نفر فيه، ولم يقدم فيه الوجوه أتباعهم فكانوا خمسة آلاف أخذ نصفهم في البرّ ونصفهم في البحر، وخفّ من لم ينفر فيها ولم يعمل لها. وكان على طاعته ملازماً للجماعة فكانوا أربعة آلاف، فكان رؤساء الجماعة: القعقاع بن عمرو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم ابن شهاب؛ وكان رؤساء النّفّار: زيد بن صوحان، والأشتر مالك بن الحارث، وعديّ بن حاتم، والمسيّب بن نجبة، ويزيد بن قيس ومعهم أتباعهم وأمثال هلم لسوا دونهم إلاّ أنهم لم يؤمّروا؛ منهم حجر بن عديّ وابن محدوج البكريّ؛ وأشباه لهما لم يكن في أهل الكوفة أحد على ذلك الرأي غيرهم. فبادروا في الوقعة إلا قليلاً، فلما نزلوا على ذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذيه الرجلين يا بن الحنظليّة - وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة منّي؟ فقال: نلقاهم بالّذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرّأي وكلّمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي.

قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنه فسلّم عليها، وقال: أي أمّه؛ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بنيّ، إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزّبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أمّ المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفنا لنصلحنّ، ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه، فغ، ّ هذا إن ترك كان تركاً للقرآن؛ وإن علم به كمان إحياء للقرآن. فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلاّ رجلاً، فغضب لهم ستة آلاف. واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الّذي أفلت - يعني حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولان؛ وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكن فالّذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكروهون؛ وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. فقالت أمّ المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التّسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرّجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلاّ مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرّضوا له فيصرعنا وإياكم. وأيم الله إنيّ لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف إلاّ يتمّ حتى يأخذ الله عزّ وجلّ حاجته من هذه الأمة مالت قلّ متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذي حدث أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرّجل الرّجل، ولا النّفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.

فقالوا: نعم، إذاً قد أحسنت وأصبت المقالة؛ فارجع فإن قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى عليّ فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصّلح؛ كثره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه.

وأقبلت وفود البصرة نحو عليّ حين نزل بذي قار، فجاءت وفود تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لنظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أيّ حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال. فلمّا لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على عليّ فأخبروه خبرهم؛ سأل عليّ بن شرس عن طلحة والزّبير، فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى تمثل له:

ألا أبلغ بني بكر رسـولا                     فليس إلي بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم            طويل الساعدين له فضول

وتمثل عليّ عندها:

ألم تعلم أبا سمـعـنـا أنّـا              نردّ الشّيخ مثلك ذا الصّداع!
ويذهل عقله بالحرب حتـى           يقوم فيستجيب ليغـير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر            وما بك يا سراقة من دفاع

قال أبو جعفر: أخرج إليّ زياد بن أيوب كتاباً فيه أحاديث عن شيوخ ذكر أنه سمعها منهم؛ قرأ عليّ بعضها ولم يقرأ عليّ بعضها، فممّا لم يقرأ عليّ من ذلك فكتبته منه؛ قال: حدّثنا مصعب بن سلام التميميّ، قال: حدّثنا محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب الجرميّ، عن أبيه، قال: رأيت فيما يرى النائم في زمان عثمان بن عفان أنّ رجلاً يلي أمور الناس مرياً على فراشه وعند رأسه امرأة؛ والناس يريدونه ويبهشون إليه، فلو نهتهم المرأة لانتهوا؛ ولكنها لم تفعل، فأخذوه فقتلوه. فكنت أقصّ رؤياي على الناس في الحضر ولاسفر، فيعجبون ولا يدرون ما تأوليها! فلما قتل عثمان رضي الله عنه أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا؛ فقال أصحابنا: رؤياك يا كليب. فانتهينا إلى البصرة فلم نلبث إلاّ قليلاً حتى قيل: هذا طلحة والزّبير معهما أمّ المؤمنين؛ فراع ذلك الناس وتعجّبوا، فإذا هم يزعمون للناس أنهم إنما خرجوا غضباً لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإنّ أمّ المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: إمارة الفتيّ، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه: حرمة الشهر، والبلد، والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا عليّاً وتدخلوا في أمره! فقالوا: دخلنا واللّجّ على أعناقنا. وقيل هبذا عليّ قد أظلّكم، فقال قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حتى تأتوا عليّاً وأصحابه فسلوهم عن هذا الأمر الّذي قد اختلط علينا؛ فخرجنا حتى إذا دنونا من العسكر طلع علينا رجل جميل على بغلة، فقلت لصاحبيّ: أرأيتم المرأة التي كنت أحدّثكم عنها أنها كانت عند رأس الوالي؟ فإنها أشبه الناس بهذا، ففطن أنّا نخوص فيه، فلما انتهى إليها قال: قفوا، ما الّذي قلتم حين رأيتموني؟ فأبينا عليه، فصاح بنا وقال: والله لا تبرحون حتى تخبروني، فدخلتنا منه هيبة، فأخبرناه فجاوزنا وهو يقول: والله لقد رأيت عجباً، فقلنا لأدنى أهل العسكر إلينا: من هذا؟ فقال: محمّد بن أبي بكر، فعرفنا أن تلك المرأة عائشة رضي الله عنه، فازددنا لأمرها كراهية، وانتهينا إلى عليّ فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرّجل وأنا معتزل فقتلوه، ثمّ ولّوني وأنا كاره ولولا خشية على الدّين لم أجبهم، ثمّ طفق هذان في النّكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك، وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمّها حليلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرّضاها لما لا يحلّ لهما ولا يصلح؛ فاتّبعتهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقاً، ولا يخرقوا جماعة.

ثم قال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلاّ أن يقاتلوا وما خرجنا إلاّ لإصلاح0. فصاح بنا أصحاب عليّ: بايعوا بايعوا، فبايع صاحبيّ، وأمّا أنا فأمسكت وقلبت: بعثني قومي لأمر، فلا أحدث شيئاً حتى أرجع إليهم. فقال عليّ: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم أفعل، فقال: أرأيت لو أنهم بعثوك رائداً فرجعت إليهم، فأخبرتهم عن الكلإ والماء فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعاً؟ قال: قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء، قال: فمدّ يدك، فو الله ما استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته. وكان يقول: عليّ من أدهى العرب. وقال: ما سمعت من طلحة والزّبير؟ فقلت: أما الزّبير فإنه يقول: بايعنا كرهاً، وأمّا طلحة فمقبل على أن يتمثّل الأشعار، ويقول:

ألا أبلغ بني بكر رسـولاً                فليس إلى بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم        طويل السّاعدين له فضول

فقال: ليس كذلك، ولكن:

ألم تعلم أبـا سـعـان أنّـا             نصمّ الشّيخ مثلك ذا الصّداع
ويذهل عقله بالحرب حتّـى         يقوم فيستجيب لـغـير داع

ثم سار حتى نزل إلى جانب البصرة؛ وقد خندق طليحة والزّبير، فقال لنا أصحابنا من أهل البصرة: مما سمعتم إخواننا من أهل الكوفة يريدون ويقولون؟ فقلنا: يقولون خرجنا للصّلح وما نريد قتالاً؛ فبينا هم على ذلك لا يحدّثون أنفسهم بغيره، إذ خرج صبيان العسكرين فتسابّوا ثم تراموا، ثم تتابع عبيد العسكرين، ثم ثلَّث السفهاء، ونشبت الحرب، وألجأتهم إلى الخندق ، فاقتتلوا عليه حتى أجلوا إلى موضع القتال؛ فدخل منه أصحاب عليّ وخرج الآخرون.

ونادى عليّ: ألا لا نتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدّور، ونهى الناس، ثم بعث إليهم أن اخرجوا للبيعة، فبايعهم على الرّايات وقال: من عرف شيئاً فليأخذه، حتىما بقي في العسكرين شيء إلاّ قبض، فانتهى إليه قوم من قيس شباب، فخطب خطيبهم، فقال: أين أمراؤكم؟ فقال الخطيب: أصيبوا تحت نظّار الجمل؛ ثم أخذ في خطبته، فقال عليّ: أما إنّ هذا لهو الخطيب السحسح. وفرغ من البيعة؛ واستعمل عبد الله ابن عباس وهو يريد أن يقيم حتى يحكم أمرها. فأمرني الأشتر أن أشتري له أثمن بعير بالبصرة ففعلت، فقال: ائت به عائشة، وأقرئها مني السلام، ففعلت، فدعت عليه وقالت: اردده عليه؛ فأبلغته، فقال: تلومني عائشة أن أفلتّ ابن أختها? وأتاه الخبر باستعمال عليّ ابن عباس فغضب وقال: غلام قتلنا الشيخ! إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعليّ. ثم دعا بدابتّه فركب رجعاً. وبلغ ذلك عليّاً فنادى الرّحيل، ثم أجدّ السّير فلحق به فلم يره أنه قد بلغه عنه وقال: ما هذا السير؟ سفتنا! وخشي إ، ترك والخروج أن يوقع في أنفس الناس شرّاً.

كتب إليّ السريّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أمّ المؤمنين وطلحة الزّبير بمثل رأيهم، جمع عليّ الناس، ثمّ قام على الغرائر، فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه وصلى علىالنبيّ صلى الله عليه وسلّم. وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمّة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثمّ الذي يليه، ثمّ حدث هذا الحدث الّذي جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد. ألا وإنّ راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلنّ غداً أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفّهاء عني أنفسهم.

فاجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعديّ بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسيّ، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر؛ في عدّة ممن سار إلى عثمان، ورضيَ بسير من من سار، وجاء معهم المصرّيون: ابن السوداء وخالد بن ملجم وتشاوروا، فقالوا: ما الرّأي؟ وهذا والله عليّ، وهو أبصر النّاس بكتاب الله وأقرب ممّن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلاّ هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، وإذا رأوا قلّتنا في كثرتهم! أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أمّا طلحة والزّبير فقد عرفنا أرمهما، وأمّا عليّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا وعليّ فعلى دمائنا؛ فهلمّوا فلنتواثب على عليّ فنلحقه بعثمان؛ فتعود فتنة يرضى منّا فيها بالسّكون.

فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرّأي رأيت! أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظليّة وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً، فارقأ على ظلعك.

وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدّوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم؛ دعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتّقون به، وامتنعوا من الناس. فقال عديّ بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض اعلحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عتاداً من خيول وسلاح محموداً، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا. فقال ابن السّوداء: أحسنت! وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدّنيا فإنّي لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور، وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلاّ إلى السّيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولاً.

وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخّروا أمراً ينبغي لكم تعجيله؛ ولا تعجّلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره؛ فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غداً إذا ما هم التقوا! وتكلّم ابن السوداء فقال: يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدّاً من أن يمتنع؛ ويشغل الله عليّاً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون. فأبصروا الرّأي، وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون.

وأصبح عليّ على ظهر، فمضى ومضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك، ثم ارتحل حتى نزل على أهل اعلكوفة وهم أمام ذلك، والناس متلاحقون به وقد قطعهم، ولما بلغ أهل البصرة رأيهم ونزل عليٌّ بحيث نزل، قام أبو الجرباء إلى الزّبير بن العوّام فقال: إنّ الرّأي أن تبعث الآن ألف فارس فيمسّوا هذا الرّجل ويصبّحوه قبل أن يوافي أصحابه؛ فقال الزّبير: يا أبا الجرباء، إنا لنعرف أمور الحرب؛ ولكنهم أهل دعوتنا؛ وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم، هذا أمر من لم يلق الله عزّ وجلّ فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة؛ ومع ذلك إنه قد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصّح؛ فأبشروا واصبروا، وأقبل صبرة بن شيمان فقال: يا طلحة، يا زبير، انتهزا بنا هذا الرّجل فإنّ الرّأي في الحرب خير من الشدّة. فقالا: يا صبرة إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن، أو يكون فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنّة، إنما هو حدث. وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم. وهمّ عليّ ومن معه، فقلنا: نحن لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخّره. فقال عليّ: هذا الّذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شرّ وهو خير من شرّ منه، وهو كأمر لا يدرك، وقد كاد أن يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمّها منفعةً وأحوطها. وأقبل كعب بن سور فقال: ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم! اقطعوا هذا العنق من هؤلاء. فقالوا: يا كعب، إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، لا والله ما أخذ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم مذ بعث الله عزّ وجلّ نبيّه طريقاً إلاّ علموا أين مواقع أقدامهم؛ حتى حدث هذا فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون! إن الشيء يحسن عندنا اليوم ويقبح عند إخواننا؛ فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم؛ وإنا لنحتجّ عليهم بالحجّة فلا يرونها حجّة، ثم يحتجّون بها على أمثالها، ونحن نرجو الصّلح إن أجابوا إليه وتمّوا، وإلاّ فإن آخر الدواء الكيّ.

وقام إلى عليّ بن أبي طالب أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بنان المنقريّ؛ فقال له عليّ: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم؛ وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.

وقام إليه أبو سلامة الدّألانيّ فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عزّ وجل بذلك؟ قال: نعم، قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعاً، قال: فما حالنا وحالكم إن ابتلينا غداً؟ قال: إنّي لأرجو ألاّ يقتل أحد نقّى قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنّة.

وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلاّ القتال فصدع لا يلتئم؛ قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عزّ وجلّ نفعه ذلك وكان نجاءه.

وقام عليّ، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيّها الناس، املكوا أنفسكم، كفّوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم واصبروا على ما يأتيكم، وإياكم أن تسبقونا فإنّ المخصوم غداً من خصم اليوم.

ثم ارتحل وأقدم ودفع تعبيته التي قدم فيها حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع ابن عمرو فكفّوا وأقرّونا ننزل وننظر في هذا الأمر.

فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين؛ قد منعوا حرقوص ابن زهير، ولا يرون القتال مع عليّ بن أبي طالب. فقال: يا عليّ، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غداً أنك تقتل رجالهم وتسبي نساءهم. فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحلّ هذا إلاّ ممّن تولّى وكفر، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: "لست عليهم بمصيطر، إلاّ من تولّى وكفر"، وهم قوم مسلمون! هل أنت مغنٍ عني قومك؟ قال: نعم، واختر مني واحدة من ثنتين، إمّا أن أكون آتيك فأكون معك بنفسي، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وقد بدأ فقال فقال: يال خندف، فأجابه ناس، ثمّ نادى يال تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يال سعد؛ فلم يبق سعديّ إلاّ أجابه، فاعتزل بهم، ثم نظر ما يصنع الناس، فلما وقع القتال وظفر عليّ جاءوا وافرين، فدخلوا فيما دخل فيه الناس.

وأما الّذي يرويه المحدّثون من أمر الأحنف، فغير ما رواه سيف عمن ذكر من شيوخه. والذي يرويه المحدّثون من ذلك ما حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصيناً يذكر عن عمرو بن جأوان، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحجّ، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا فإذا الناس مجتمعون على نفر في وسط المسجد، وإذا عليّ والزّبير وطلحة وسعد بن أبي وقّاص، وإنا لكذلك إذ جاء عثمان بن عفان؛ فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أهاهنا عليّ؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا الزّبير؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال أنشدكم بالله الذي لا إله إلاّ هو؛ أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له؛ فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفاً، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، قد ابتعته، قال: "اجعله في مسجدنا وأجره لك"! قالوا: اللهمّ نعم، وذكر أسشياء من هذا النّوع. قال الأحنف: فلقيت طلحة والزّبير فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي؟ فإني لا أرى هذا الرّجل إلاّ مقتولاً، قالا: عليّ؟ قلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم، فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان رضي الله عنه وبها عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، فلقيتها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: عليّ، قلت: تأمرينني به وترضينه لي؟ قالت: نعم؛ فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته، ثمّ رجعت إلى أهلي بالبصرة ولا أرى الأمر إلاّ قد استقام، قال: فبينا أنا كذلك؛ إذ آتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزّبير قد نزلوا جانب الخريبة، فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان رضي الله عنه، فأتاني أفظع أمر أتاني قطّ! فقلت: إنّ خذلاني هؤلاء ومعهم أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لشديد، وإنّ قتالي رجلاً ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمروني ببيعته لشديد. فلما أتيتهم قالوا: جئنا لنستنصر على دم عثمان رضي الله عنه، قتل مظلوماً؛ فقلت: عليّ؟ فقلت: أتأمرينني به وترضينه لي؟ قلت نعم! قالت: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: يا زبير يا حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يا طلحة، أنشدكما الله، أقلت لكما: ما تأمراني فقلتما: عليّ؟ فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما نعم! قالا: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا أقاتل رجلاً ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أمرتموني ببيعته؛ اختاروا مني واحدةً من ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله عزّ وجلّ من أمره ما قضى، أو أعتزل فأكون قريباً. قالوا: إنا نأتمر، ثم نرسل إليك. فائتمروا فقالوا: نفتح له الجسر ويخبرهم بأخباركم! ليس ذاكم برأي، اجعلوه ها هنا قريباً حيث تطئون على صماخه وتنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، فاعتزل معه زهاء على ستة آلاف.

ثم التقى القوم فكان أوّل قتيل طلحة رضي الله عنه، وكعب بن سور معه المصحف يذكّر هؤلاء وهؤلاء؛ حتى قتل من قتل منهم، ولحق الزبير بسفوان، من البصرة كمكان القادسيّة منكم، فلقيه النّعر؛ رجل من مجاشع، فقال: أين تذهب يا حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ إليّ فأنت في ذمتي لا يوصل إليك؛ فأقبل معه؛ فأتى الأحنف خبره فقيل: ذاك الزّبير قد لقي بسفوان فما تأمر؟ قال: جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف ثم يلحق ببيته، فسمعه عمير بن جرموز وفضالة بن حابس، ونفيع؛ فركبوا في طلبه، فلقوه مع النّعر، فأتاه عمير بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنةً خفيفة، وحمل عليه الزّبير وهو على فرس له يقال له ذو الخمار، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى عمير بن جرموز: يا نافع، يا فضالة، فحملوا عليه فقتلوه.

حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: معتمر بن سليمان، قال: نبّأني أبي، عن حصين، قال: حدّثنا عمرو بن جأوان؛ رجل من بني تميم، وذاك أنى قلت له: أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ فقال: سمعت الأحنف يقول: أتيت المدينة وأنا حاجّ؛ فذكر نحوه. الحمد لله على ما قضى وحكم.