المجلد الرابع - ما أمر به علي بن أبي طالب من عمل الجسر على الفرات

فلما انتهى عليّ إلى الرّقة قال: فيما حدّثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدّثني الحجّاج بن عليّ، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقيّ - لأهل الرّقة: اجسروا لي جسراً حتى أعبر من هذا المكان إلى الشأم، فأبوا. وقد كانوا ضمّوا إليهم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، وذهب ليمضي بالناس كيما يعبر بهم على جسر منبج، فناداهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، ألا أني أقسم لكم بالله عزّ وجلّ؛ لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتكم جسراً حتى يعبر لأجردنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال ولأخرّبنّ الأرض، ولآخذّن الأموال. قال: فلقي بعضهم بعضاً، فقالوا: أليس الأشتر يفي بما حلف عليه، أو يأتي بشرّ منه؟ قالوا: نعم، فبعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسراً، فأقبلوا. وجاء عليّ فنصبوا له الجسر، فعبر عليه بالأثقال والرجال. ثم أمر عليّ الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلاّ عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلاً.

قال أبو مخنف: وحدّثني الحجّاج بن عليّ، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، أنّ الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضاً، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزديّ، فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزديّ، فنزل فأخذها، ثم ركب، وقال لصاحبه:

فإن يك ظنّ الزاجري الطّير صادقاً            كما زعموا أقتل وشيكاً وتقـتـل

فقال له عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أوتاه أحبّ إليّ مما ذكرت؛ فقتلا جميعاً يوم صفّين.

قال أبو مخنف: فحدّثني خالد بن قطن الحارثيّ، أنّ عليّاً لما قطع الفرات دعا زياد بن النّضر، وشريح بن هانئ، فسرّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما التي كانا خرجا عليها من الكوفة. قال: وقد كانا حيث سرّحهما من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات، فبلغهما أخذ عليّ على طريق الجزيرة، وبلغهما أنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشأم لاستقبال عليّ، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي؛ أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لا خير في أن نلقى جنود أهل الشأم بقلّة من معنا منقطعين من العدد والمدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السّفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليّاً بقرية دون قرقيسياء؛ وقد أرادوا أهل عانات، فتحصّنوا وفرّوا، ولما لحقت المقدّمة عليّاً قال: مقدّمتي تأتيني من ورائي. فتقدّم إليه زياد بن النّضر الحارثيّ وشريح بن هانئ؛ فأخبراه بالذي رأيا حين بلغهما من الأمر ما بلغهما، فقال: سددتما. ثم مضى عليّ، فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى سور الرّوم لقيهما أبو الأعور السّلميّ عمرو بن سفيان في جند من أهل الشأم؛ فأرسلا إلى عليّ: إنّا قد لقينا أبا الأعور السّلميّ في جند من أهل الشأم، وقد دعوناهم فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. فأرسل عليّ إلى الأشتر؛ فقال: يا مالك، إنّ زياداً وشريحاً أرسلا إليّ يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلميّ في جمع من أهل الشأم، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنّجاء إلى أصحابك النّجاء، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم. وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلاّ أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم، والاعذار إليهم مرة بعد مرّة، واجعل على ميمنتك زياداً، وعلى ميسرتك شريحاً، وقف من أصحابك وسطاً، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإنّي حثيث السير في أثرك إن شاء الله. قال: وكان الرّسول الحارث بن جمهان الجعفيّ، فكتب عليّ إلى زياد وشريح: أمّا بعد، فإني قد أمّرت عليكما مالكاً، فاسمعا له وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا الإسراع إلى ما الإبطاء عنه أمثل، وقد أمرته بمثل كنت أمرتكما به ألاّ يبدأ القوم حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم.

وخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتّبع ما أمره عليّ وكفّ عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السّلميّ، فثبتوا له، واضطربوا ساعة. ثم إنّ أهل الشأم انصرفوا، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزّهريّ في خيل ورجال حسن عددها وعدّتها، وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، فقتل عبد الله بن المنذر التّنوخيّ، قتله يومئذ ظبيان بن عمّار التميميّ، وما هو إلاّ فتى حدث، وإن كان التنوخيّ لفارس أهل الشأم، وأخذ الأشتر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور.

ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الذي كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر حتى صفّ أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور، فقال الأشتر لسنان بن مالك النّخعيّ: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة، فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال له الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفّهم بسيفي ما رجعت أبداً حتى أضرب بسيفي في صفّهم، قال له الأشتر: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي؛ أنه لا يبرز إن كان ذلك من شأنه إلاّ لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - لربّك الحمد - من أهل الكفاءة والشرف، غير أنّك فتى حدث السنّ، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. فأتاه فنادى: آمنوني فإنّي رسول. فأومن، فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال أبو مخنف: فحدّثني النضر بن صالح أبو زهير العبسيّ، قال: حدّثني سنان، قال: فدنوت منه فقلت: إنّ الأشتر يدعوك إلى مبارزته. قال: فسكت عني طويلاً ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه هو حمله على إجلاء عمّال ابن عفان رضي الله عنه من العراق، وانتزاؤه عليه يقبّح محاسنه، ومن خفّة الأشتر وسوء رأيه أن سار إلى ابن عفان رضي الله عنه في داره وقراره حتى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعاً بدمه؛ ألا لا حاجة لي في مبارزته. قال: قلت: إنك قد تكلمت، فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا، لا حاجة في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. فصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع إليّ لأخبرته بعذر صاحبي وحجّته. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا عليّ بن أبي طالب غدوة. فقدم الأشتر فيمن كان معه في تلك المقدّمة حتى انتهى إلى معاوية، فواقفه، وجاء عليّ في أثره فلحق بالأشتر سريعاً، فوقف وتواقفوا طويلاً.

ثمّ إنّ عليّاً طلب موضعاً لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشأم. فاقتتل الناس على الماء، وقد كان الأشتر قال له قبل ذلك: إنّ القوم قد سبقوا إلى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فإنهم يشخصون في أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنّا نحن وهم على السواء، فكره ذلك عليّ، وقال: ليس كلّ الناس يقوى على المسير، فنزل بهم.

القتال على الماء

قال أبو مخنف: وحدّثني تميم بن الحارث الأزديّ، عن جندب بن عبد الله، قال: إنّا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصّقع شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها أبا الأعور يمنعها ويحميها، فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم فلم نجدها، فأتينا عليّاً فأخبرناه بعطش الناس، وأنا لا نجد غير شريعة القوم. قال: فقاتلوهم عليها. فجاءه الأشعث بن قيس الكنديّ فقال: أنا أسير إليهم، فقال له عليّ: فسر إليهم. فسار وسرنا معه، حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنّبل، ورشقناهم والله بالنّبل ساعة، ثم اطّعنّا والله بالرماح طويلاً، ثم صرنا آخر ذلك نحن والقوم إلى السيوف، فاجتلدنا بها ساعة. ثم إنّ القوم أتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدّاً في الخيل والرجال، فأقبلوا نحونا، فقلت في نفسي: فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنا هؤلاء، فذهب فالتفتّ فإذا عدّة القوم أو أكثر، قد سرّحهم إلينا ليغنوا عنّا يزيد بن أسد وأصحابه، عليهم شبث بن ربعيّ الرّياحيّ، فوالله ما ازداد القتال إلاّ شدّة. وخرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، وخرج الأشتر من قبل عليّ في جمع عظيم. فلمّا رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، أمّد الأشعث بن قيس وشبث بن ربعيّ، فاشتدّ قتالنا وقتالهم، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزديّ:

خلّوا لنا ماء الفرات الجاري                  أو اثيتوا لجحفـل جـرّار

لكلّ قرم مستمـيت شـاري            مطاعن برمـحـه كـرّار
ضرّاب هامات العدا مغوار

قال أبو مخنف: وحدّثني رجل من آل خارجة بن التميميّ أن ظبيان ابن عمارة جعل يومئذ يقاتل وهو يقول:

هل لك يا ظبيان من بـقـاء           في ساكن الأرض بغير ماء
لا وإله الأرض والـسّـمـاء              فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسّيف عن حمس الـوغـاء         حتّى يجيبوك إلى الـسّـواء

قال ظبيان: فضربناهم والله حتى خلّونا وإيّاه.

قال أبو مخنف: وحدّثني أبي يحيى بن سعيد، عن عمّه محمد بن مخنف، قال: كنت مع أبي مخنف بن سليم يومئذ، وأنا ابن سبع عشرة سنة، ولست في عطاء، فلما منع الناس الماء قال لي أبي: لا تبرحنّ الرّحل، فلما رأيت المسلمين يذهبون نحو الماء لم أصبر، فأخذت سيفي، وخرجت مع الناس فقاتلت، قال: وإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ومعه قربة، فلما رأى أهل الشأم قد أفرجوا عن الشريعة اشتدّ حتى ملأ قربته، ثم أقبل، ويشدّ عليه رجل من أهل الشأم فيضربه فيصرعه، وسقطت القربة منه. قال: وأشدّ على الشاميّ فأضربه فأصرعه، واشتدّ أصحابه فاستنقذوه، فسمعتهم وهم يقولون: لا نأمن عليك. ورجعت إلى المملوك فاحتملته، فإذا هو يكّلمني وبه جرح رغيب، فما كان أسرع من أن جاءه مولاه، فذهب به، وأخذت قربته وهي مملوءة، وآتي بها أبي مخنفاً، فقال: من أين جئت بها؟ فقلت: اشتريتها - وكرهت أن أخبره الخبر، فيجد عليّ - فقال: اسق القوم، فسقيتهم، ثم شرب آخرهم، ونازعتني نفسي والله إلى القتال، فأنطلق فأتقدّم فيمن يقاتل، فقاتلناهم ساعة، ثم أشهد أنهم خلّوا لنا عن الماء، فما أمسينا حتى رأينا سقاتنا وسقاتهم يزدحمون على الشريعة، وما يؤذي إنسان إنساناً، فأقبلت راجعاً، فإذا أنا بمولى صاحب القربة، فقلت: هذه قربتك عندنا، فأرسل من يأخذها، أو أعلمني مكانك حتى أبعث بها إليك، فقال: رحمك الله! عندنا ما نكتفي به؛ فانصرفت وذهب، فلما كان من الغد مرّ على أبي، فوقف فسلّم عليه، ورآني إلى جنبته، فقال: ما هذا الفتى منك؟ قال: ابني؛ قال: أراك الله فيه السرور، أنقذ الله عزّ وجلّ أمس غلامي به من القتل، حدّثني شباب الحيّ أنه كان أمس أشجع الناس، فنظر إليّ أبي نظرة عرفت منها في وجهه الغضب، فسكتّ حتى إذا مضى الرجل قال: هذا ما تقدّمت إليك فيه! فحلّفني ألاّ أخرج إلى قتال إلاّ بإذنه، فما شهدت من قتالهم إلاّ ذلك اليوم حتى كان يوم من أيامهم.

قال أبو مخنف: وحدّثني يونس بن أبي إسحاق السّبيعيّ، عن مهران مولى يزيد بن هانئ، قال: والله إنّ مولاي يزيد بن هانئ ليقاتل على الماء، وإنّ القربة لفي يده، فلما انكشف أهل الشأم انكشافة عن الماء، استدرت حتى أسقي، وإنّي فيما بين ذلك لأقاتل وأرامي.

قال أبو مخنف: وحدّثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما قدمنا على معاوية وأهل الشأم بصفّين، وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه مستوياً بساطاً واسعاً، أخذوا الشريعة، فهي في أيديهم، وقد صفّ أبو الأعور السّلميّ عليها الخيل والرجال، وقد قدّم المرامية أمام من معه، وصفّ صفّاً معهم من الرماح والدّرق، وعلى رءوسهم البيض، وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين، فخبّرناه بذلك، فدعا صعصعة ابن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنّا سرنا مسيرنا هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكفّ عنك حتى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلّتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب. فعلنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حصروه أربعين صباحاً يمتعونه برد الماء، ولين الطعام، اقتلهم عطشاً، قتلهم الله عطشاً! فقال له عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت رّيان؛ ولكن بغير الماء، فانظر ما بينك وبينهم. فأعاد الوليد بن عقبة مقالته؛ وقال عبد الله بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، ولو قد رجعوا كان رجوعهم فلاًّ، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! فقال صعصعة: إنما يمنعه الله عزّ وجلّ يوم القيامة الكفرة الفسقة وشربة الخمر؛ ضربك وضرب هذا الفاسق - يعني الوليد بن عقبة - قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه، فقال معاوية: كفوّا عن الرجل فإنه رسول.
قال أبو مخنف: وحدّثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن صعصعة رجع إلينا فحدّثنا عمّا قال لمعاوية، وما كان منه وما ردّ، فقلنا: فما ردّ عليك؟ فقال: لما أردت الانصراف من عنده قلت: ما ترد عليّ؟ قال معاوية: سيأتيكم رأيي، فوالله ما راعنا إلا تسريته الخيل إلى أبي الأعور ليكفّهم عن الماء. قال: فأبرزنا عليّ إليهم، فارتمينا ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف، فنصرنا عليهم، فصار الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم.

دعاء عليّ معاوية إلى الطاعة والجماعة

قال أبو مخنف: حدّثني عبد الملك بن أبي حرّة الحنفيّ، أنّ عليّاً قال: هذا يوم نصرتم فيه بالحميّة، وجاء الناس حتى أتوا عسكرهم، فمكث عليّ يومين لا يرسل إلى معاوية أحداً، ولا يرسل إليه معاوية. ثم إن عليّاً دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاريّ، وسعيد بن قيس الهمدانيّ، وشبث بن ربعيّ التميميّ، فقال: ائتوا هذا الرّجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعيّ: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليّه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال عليّ: ائتوه فالقوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه - وهذا في أول ذي الحجّة - فأتوه، ودخلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو، وقال: يا معاوية، إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله عزّ وجلّ محاسبك بعملك، وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عزّ وجلّ أن تفرّق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها! فقطع عليه الكلام، وقال: هلاّ أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدّين والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: فيقول مادا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عزّ وجلّ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية: ونطلّ دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبداً. فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن ربعيّ، فتكلّم فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفي علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلاّ قولك: قتل إمامكم مظلوماً، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربّ متمنّي أمر وطالبه، الله عزّ وجلّ يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمنّي أمنيته وفوق أمنيتّه، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالاً في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحقّ من ربّك صليّ النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله.

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أوّل ما عرفت فيه سفهك وخفّة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت، ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كلّ ما ذكرت ووصفت. انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلاّ السيف. وغضب، وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهوّل بالسيف! أقسم بالله ليعجلن بها إليك. فأتوا عليّاً وأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في ذي الحجة، فأخذ عليّ يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان. وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك، فكان عليّ يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عديّ الكنديّ، ومرّة شبث بن ربعيّ، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النضر الحارثيّ، ومرّة زياد بن خصفة التيميّ، ومرّة سعيد بن قيس، ومرّة معقل بن قيس الرّياحيّ، ومرّة قيس بن سعد. وكان أكثر القوم خروجاً إليهم الأشتر، وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد المخزومي، وأبا الأعور السّلميّ، ومرّة حبيب ابن مسلمة الفهريّ، ومرّة ابن ذي الكلاع الحميريّ، ومرة عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، ومرّة شرحبيل بن السّمط الكنديّ، ومرّة حمزة بن مالك الهمدانيّ، فاقتتلوا من ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين أوّله وآخره.

قال أبو مخنف: حدّثني عبد الله بن عاصم الفائشيّ، قال: حدّثني رجل من قومي أنّ الأشتر خرج يوماً يقاتل بصفيّن في رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، فخرج علينا رجل والله لقلّما رأيت رجلاً قطّ هو أطول ولا أعظم منه، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد إلاّ الأشتر، فاختلفا ضربتين، فضربه الأشتر، فقتله، وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه، وسألناه ألاّ يخرج إليه، فلما قتله الأشتر نادى مناد من أصحابه:

يا سهم سهم ابن أبي العيرار                  يا خير من نعلمه من زار

وزارة: حيّ من الأزد، وقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّي، فخرج فحمل على الأشتر، وعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يديّ فرسه، وحمل فيه أصحابه فاستنقذوه جريحاً، فقال أبو رفيقة الفهميّ: هذا كان ناراً، فصادف إعصاراً، واقتتل الناس ذا الحجّة كلّه، فلما انقضى ذو الحجّة تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض المحرّم، لعلّ الله أن يجري صلحاً أو اجتماعاً، فكفّ بعضهم عن بعض.

وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بأمر عليّ إيّاه بذلك، كذلك حدّثني أحمد بن ثابت الرازيّ، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر.

وفي هذه السنة مات قدامة بن مظعون، فيما زعم الواقديّ.