المجلد الخامس - تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال

تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال

قال: ومكث الناس حتى إذ دنا انسلاخ المحرم أمر علي مرثد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشأم عند غروب الشمس: الا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله عز وجل، فدعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. ففزع أهل الشأم إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص في الناس يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علي ليلته كلها يعبي الناس، ويكتب الكتائب، ويدور في الناس يحرضهم.

قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، أن علياً كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدواً فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورةً، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأةً بأذىً، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس.

قال أبو مخنف: وحدثني إسماعيل بن يزيد، عن أبي صادق، عن الحضرمي، قال: سمعت علياً يحرض الناس في ثلاثة مواطن: يحرض الناس يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم النهر، يقول: عباد الله، اتقوا الله، وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمناضلة والمجالدة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.
فأصبح علي من الغد، فبعث على الميمنة والميسرة والرجالة والخيل. قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج الكندي أن علياً بعث على خيل أهل الكوفة الأشتر. وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم ابن عتبة ومعه رايته، ومسعر بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر.

قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن يزيد بن جابر الأزدي، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، أن معاوية بعث على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميرة، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي - وكان على خيل أهل دمشق - وعمرو بن العاص على خيول أهل الشأم كلها، ومسلم بن عقبة المري على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلها. وبايع رجال من أهل الشأم على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكان المعقلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون عشرة صفوف، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفاً، فخرجوا أول يوم من صفين فاقتتلوا. وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشأم حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالاً شديداً جل النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسنٍ عددها وعدتها، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم ذلك، يحمل الخيل على الخيل، والرجال على الرجال، ثم انصرفوا وقد كان القوم صبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد القتال، وأخذ عمار يقول: يا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين، وظاهر المشركين، فلما رأى الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب؛ ثم قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم! فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم، وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه فإنه يطفىء نور الله، ويظاهر أعداء الله عز وجل.

فكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل، فأمره أن يحمل في الخيل، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وشد عمار في الرجال، فأزال عمرو بن العاص عن موقفه. وبارز يومئذ زياد بن النضر أخاً له لأمه يقال له عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وكانت أمهما امرأة من بني يزيد - فلما التقيا تعارفا فتواقفا، ثم انصرف كل واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس.

فلما كان من الغد خرج محمد بن علي وعبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشد القتال. ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى ابن الحنفية: أن اخرج إلي؛ فقال: نعم، ثم خرج يمشي، فبصر به أمير المؤمنين فقال: من هذان المتبارزان؟ فقيل: ابن الحنفية وعبيد الله بن عمر؛ فحرك دابته ثم نادى محمداً، فوقف له، فقال: أمسك دابتي، فأمسكها، ثم مشى إليه علي فقال: أبرز لك، هلم إلي؛ فقال: ليست لي في مبارزتك حاجة، فقال: بلى، فقال: لا، فرجع ابن عمر. فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يا أبت، لم منعتني من مبارزته؟ فوالله لو تركتني لرجوت أن أقتله، فقال: لو بارزته لرجوت أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، فقال: يا أبت أو تبرز لهذا الفاسق! والله لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه؛ فقال علي: يا بني، لا تقل في أبيه إلا خيراً. ثم إن الناس تحاجزوا وتراجعوا.

قال: فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة، فأخذ الوليد يسب بني عبد المطلب، وأخذ يقول: يابن عباس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم الله صنع بكم؟! لم تعطوا ما طلبتم، ولم تدركوا ما أملتم، والله إن شاء مهلككم وناصرٌ عليكم. فأرسل إليه ابن عباس: أن ابرز لي؛ فابى. وقاتل ابن عباس يومئذ قتالاً شديداً، وغشي الناس بنفسه.

ثم خرج قيس بن سعد الأنصاري وابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم انصرفا، وذلك في اليوم السادس.

ثم خرج الأشتر، وعاد إليه حبيب بن مسلمة اليوم السابع، فاقتتلا قتالاً شديداً، ثم انصرفا عند الظهر، وكلٌّ غير غالب، وذلك يوم الثلاثاء.

قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب، أن علياً قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا! فقام في الناس عشية الثلاثاء، ليلة الأربعاء بعد العصر، فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجل النقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره؛ ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا إنكم لاقو القوم غداً، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله عز وجل النصر والصبر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. ثم انصرف، ووثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها، ومر بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول:

أصبحت الأمة في أمرٍ عجب         والملك مجموعٌ غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كـذب          إن غداً تهلك أعلام العـرب

قال: فلما كان من الليل خرج عليٌّ فعبى الناس ليلته كلها، حتى إذا أصبح زحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشأم، فأخذ عليٌّ يقول: من هذه القبيلة؟ ومن هذه القبيلة؟ فنسبت له قبائل أهل الشأم، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قال للأزد: اكفوني الأزد، وقال لخثعم: اكفوني خثعم. وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشأم، ليس منهم بالعراق واحد، مثل بجيلة لم يكن منهم بالشأم إلا عدد قليل، فصرفهم إلى لخم. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، حتى إذا كان غداة الخميس صلى عليٌّ بغلس.

قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، قال: ما رأيت علياً غلس بالصلاة أشد من تغليسه يومئذ، ثم خرج بالناس إلى أهل الشأم فزحف إليهم، فكان يبدؤهم فيسير إليهم، فإذا رأوه قد زحف إليهم استقبلوه بوجوههم.

قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن علياً خرج إليها غداة الأربعاء فاستقبلهم فقال: اللهم رب السقف المرفوع، المحفوظ المكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة، لا يسأمون العبادة. ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما لا يرى ومما يرى من خلقك العظيم. ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداًن وللخلق متاعاً؛ إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أصحابي من الفتنة.

قال: وازدلف الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا كأشد القتال يومهم حتى الليل، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا للصلاة، وكثرت القتلى بينهم، وتحاجزوا عند الليل وكلٌّ غير غالب، فأصبحوا من الغد، فصلى بهم عليٌّ غداة الخميس، فغلس بالصلاة اشد التغليس، ثم بدأ أهل الشأم بالخروج، فلما رأوه قد أقبل إليهم خرجوا إليه بوجوههم، وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، وقراء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار ابن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل؛ والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليٌّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وعظم من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه من خزاعة عدد حسن، ومن كنانة وغيرهم من أهل المدينة.
ثم زحف إليهم بالناس، ورفع معاوية قبةً عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس وبايعه عظم الناس من أهل الشأم على الموت، وبعث خيل أهل دمشق فاحتاطت بقبته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه، ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن ابن بديل قام في أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وبرهان مبين. فقاتلوا الطغاة الجفاة، ولا تخشوهم، فكيف تخشوهم وفي أيديكم كتاب الله عز وجل طاهراً مبروراً! "أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين"، وقد قاتلناهم مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وهذه ثانية، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكى ولا أرشد، قوموا إلى عدوكم بارك الله عليكم! فقاتل قتالاً شديداً هو وأصحابه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عن أبيه ومولىً له، أن علياً حرض الناس يوم صفين، فقال: إن الله عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تشفي بكم على الخير: الإيمان بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن. ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص؛ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة. وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عند نزول الحقائق، هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكنفونها؛ يضربون حفافيها خلفها وأمامها، ولا يضعونها أجزأ امرؤٌ وقذ قرنه - رحمكم الله - وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب بذلك لائمةً، ويأتي به دناءة. وأنى لا يكون هذا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هارباً منه، أو قائماً ينظر إليه! من يفعل هذا يمقته الله عز وجل، فلا تعرضوا لمقت الله سبحانه فإنما مردكم إلى الله، قال الله عز من قائل لقوم: "لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً". وايم الله لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل الله النصر.