المجلد الخامس - ثم دخلت سنة تسع وثلاثين (ذكر ما كان فيها من الأحداث)

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فما كان فيها من الأحداث المذكورة: تفريق معاوية جيوشه في أطراف علي فوجه النعمان بن بشير - فيما ذكر علي بن محمد بن عوانة - في ألفي رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب مسلحةً لعلي في ألف رجل، فأذن لهم، فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان، ولم يبق معه إلا مائة رجل، فكتب مالكٌ إلى علي يخبره بأمر النعمان ومن معه، فخطب عليٌّ الناس، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، والنعمان في ألفي رجل ومالك في مائة رجل، وأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جدر القرية في ظهورهم، واقتتلوا. وكتب إلى مخنف بن سليم يسأله أن يمده وهو قريب منه، فقاتلهم مالك ابن كعب في العصابة التي معه كأشد القتال، ووجه إليه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك وأصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم، واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشأم وذلك عند المساء، ظنوا أن لهم مدداً وانهزموا، وتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم.

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني سليمان، عن عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن أبي معاوية، عن عمرو بن حسان، عن شيخ من بني فزارة، قال: بعث معاوية النعمان بن بشير في ألفين، فأتوا عين التمر، فأغاروا عليها، وبها عامل لعلي يقال له ابن فلان الأرحبي في ثلثمائة، فكتب إلى علي يستمده، فأمر الناس أن ينهضوا إليه، فتثاقلوا، فصعد المنبر، فانتهيت إليه وقد سبقيني بالتشهد وهو يقول: يا أهل الكوفة، كلما سمعتم بمنسر من مناسر أهل الشأم أظلكم وأغلق بابه انجحر كل امرىء منكم في بيته انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها؛ المغرور من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. لا أحرارٌ عند النداء، ولا إخوان ثقةٍ عند النجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم! عميٌ لا تبصرون، وبكمٌ لا تنطقون، وصمٌّ لا تستمعون إنا لله وإنا إليه راجعون.

رجع الحديث إلى حديث عوانة. قال: ووجه معاوية في هذه السنة سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل، وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، وأن يغير عليها، ثم يمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فسار حتى أتى هيت فلم يجد بها أحداً، ثم أتى الأنبار وبها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلا مائة رجل، فقاتلهم، فصبر لهم أصحاب علي مع قلتهم، ثم حملت عليهم الخيل والرجالة، فقتلوا صاحب المسلحة، وهو أشرس بن حسان البكري في ثلاثين رجلاً، واحتملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها، ورجعوا إلى معاوية. وبلغ الخبر علياً، فخرج حتى أتى النخيلة، فقال له الناس: نحن نكفيك؛ قال: ما تكفونني ولا أنفسكم؛ وسرح سعيد ابن قيس في أثر القوم، فخرج في طلبهم حتى جاز هيت، فلم يلحقهم فرجع.

قال: وفيها وجه معاوية أيضاً عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله، ثم يأتي مكة والمدينة والحجاز، يفعل ذلك، واجتمع إليه بشرٌ كثير من قومه، فلما بلغ ذلك علياً وجه المسيب ابن نجبة الفزاري، فسار حتى لحق ابن مسعدة بتيماء، فاقتتلوا ذلك اليوم حتى زالت الشمس قتالاً شديداً، وحمل المسيب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات، كل ذلك لا يلتمس قتله ويقول له: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وعامة من معه الحصن، وهرب الباقون نحو الشأم، وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره ومن كان معه المسيب ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب على الباب، وألقى النيران فيه، حتى احترق، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا على المسيب فقالوا: يا مسيب، قومك! فرق لهم، وكره هلاكهم، فأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءتني عيون فأخبروني أن جنداً قد أقبل إليكم من الشأم، فانضموا في مكان واحد. فخرج ابن مسعدة في أصحابه ليلاً حتى لحقوا بالشأم، فقال له عبد الرحمن بن شبيب: سر بنا في طلبهم، فأبى ذلك عليه، فقال له: غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم.

وفيها أيضاً وجه معاوية الضحاك بن قيس، وأمره أن يمر بأسفل واقصة، وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب، ووجه معه ثلاثة آلاف رجل، فسار فأخذ أموال الناس، وقتل من لقي من الأعراب، ومر بالثعلبية فأغار على مسالح علي، وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو بن عميس بن مسعود، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله، وهو يريد الحج، فأغار على من كان معه، وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذلك علياً سرح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف، وأعطاهم خمسين خمسين، فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه.

وفيها سار معاوية بنفسه إلى دجلة حتى شارفها، ثم نكص راجعاً، ذكر ذلك ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: لما كانت سنة تسع وثلاثين أشرف عليها معاوية.

وحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر مثله.

واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بالناس فيها عبيد الله بن عباس من قبل علي. وقال بعضهم: حج بهم عبد الله ابن عباس؛ فحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: يقال إن علياً وجه ابن عباس ليشهد الموسم ويصلي بالناس في سنة تسع وثلاثين، وبعث معاوية يزيد ابن شجرة الرهاوي.

قال: وزعم أبو الحسن أن ذلك باطل، وأن ابن عباس لم يشهد الموسم في عمل حتى قتل علي رضي الله عنه؛ قال: والذي نازعه يزيد بن شجرة قشم ابن العباس، حتى إنهما اصطلحا على شيبة بن عثمان، فصلى بالناس سنة تسع وثلاثين.
وكالذي حكيت عن أبي زيد عن أبي الحسن، قال أبو معشر في ذلك: حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى عنه.

وقال الواقدي: بعث علي على الموسم في سنة تسع وثلاثين عبيد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم للناس الحج، فلما اجتمعا بمكة تنازعا، وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه، فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة.
وكانت عمال عليٍّ في هذه السنة على الأمصار الذين ذكرنا أنهم كانوا عماله في سنة ثمان وثلاثين غير ابن عباس، كان شخص في هذه السنة عن عمله بالبصرة، واستخلف زياداً - الذي كان يقول له: زياد بن أبيه - على الخراج، وأبا الأسود الدؤلي على القضاء.
ذكر توجيه ابن عباس زياداً إلى فارس وكرمان وفي هذه السنة وجه ابن عباس زياداً عن أمر علي إلى فارس وكرمان عند منصرفه من عند علي من الكوفة إلى البصرة.

ذكر سبب توجيهه إياه إلى فارس

حدثني عمر، قال: حدثنا علي؛ قال: لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي، طمع أهل فارس وأهل كرمان في كسر الخراج، فغلب أهل كل ناحية على ما يليهم، وأخرجوا عمالهم.

حدثني عمر، قال: حدثنا أبو القاسم، عن سلمة بن عثمان، عن علي بن كثير، أن علياً استشار الناس في رجل يوليه فارس حين امتنعوا من أداء الخراج، فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي، عالم بالسياسة، كافٍ لما ولي؟ قال: من هو؟ قال: زياد؛ قال: هو لها؛ فولاه فارس وكرمان، ووجهه في أربعة آلاف، فدوخ تلك البلاد حتى استقاموا.

حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن علي بن مجاهد، قال: قال الشعبي: لما انتقض أهل الجبال وطمع أهل الخراج في كسره، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس - وكان عاملاً عليها لعلي - قال ابن عباس لعلي: أكفيك فارس؛ فقدم ابن عباس البصرة، ووجه زياداً إلى فارس في جمع كثير، فوطىء بهم أهل فارس، فأدوا الخراج.

حدثني عمر، قال: حدثني أبو الحسن، عن أيوب بن موسى، قال: حدثني شيخٌ من أهل إصطخر قال: سمعت أبي يقول: أدركت زياداً وهو أميرٌ على فارس وهي تضرم ناراً، فلم يزل بالمداراة حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقف موقفاً للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرةً أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي.

قال: ولما قدم زياد فارس بعث إلى رؤسائها، فوعد من نصره ومناه، وخوف قوماً وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضاً، وصفت له فارس، فلم يلق فيها جمعاً ولا حرباً، وفعل مثل ذلك بكرمان، ثم رجع إلى فارس، فسار في كورها ومناهم، فسكن الناس إلى ذلك، فاستقامت له البلاد، وأتى إصطخر فنزلها وحصن قلعةً بها ما بين بيضاء إصطخر وإصطخر، فكانت تسمى قلعة زياد، فحمل إليها الأموال، ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري، فهي اليوم تسمى قلعة منصور.