المجلد الخامس - ثم دخلت سنة خمسين (ذكر ما كان فيها من الأحداث)

ثم دخلت سنة خمسين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

ففيها كانت غزوة بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم.

وقيل: كانت فيها غزوة فضالة بن عبيد الأنصاري البحر.

ذكر وفاة المغيرة بن شعبة وولاية زياد الكوفة وفيها - في قول الواقدي والمدائني - كانت وفاة المغيرة بن شعبة. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن أبي موسى الثقفي، عن أبيه، قال: كان المغيرة بن شعبة رجلاً طوالاً، مصاب العين، أصيب باليرموك، توفي في شعبان سنة خمسين وهو ابن سبعين سنة.

وأما عوانة فإنه قال - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عنه: هلك المغيرة سنة إحدى وخمسين.

وقال بعضهم: بل هلك سنة تسع وأربعين.

حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: كان زيادٌ على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة.

حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب، قال: لما مات المغيرة جمعت العراق لزياد، فأتى الكوفة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي، فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا... حتى فرغ من الخطبة، فصحب على المنبر، فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قوماً من خاصته، وأمرهم، فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: ليأخذ لك رجل منكم جليسه، ولا يقولن: لا أدري من جليسي؟ ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعةً أربعةً يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال: بل كانوا ثمانين، فقطع أيديهم على المكان.

قال الشعبي: فوالله ما تعلقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيراً ولا شراً إلا أنفذه.

حدثني عمر قال: حدثنا علي، عن سلمة بن عثمان، قال: بلغني عن الشعبي أنه قال: أول رجل قتله زيادٌ بالكوفة أوفى بن حصن، بلغه عنه شيء فطلبه فهرب، فعرض الناس زياد، فمر به، فقال: من هذا؟ قالوا أوفى بن حصن الطائي؛ فقال زياد: أتتك بحائن رجلاه، فقال أوفى:

إن زياداً أبـا الـمـغـيرة لا                   يعجل والناس فيهم عـجـلـه
خفتك والله فاعلمن حـلـفـي            خوف الحفافيث صولة الأصلة
فجئت إذ ضاقت البلاد فـلـم              يكن عليهـا لـخـائفٍ وألـه

قال: ما رأيك في عثمان؟ قال ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ولم أنكره، ولي محصور رأي، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: جواد حليم؛ قال: فما تقول في؟ قال: بلغني أنك قلت بالبصرة: والله لآخذن البريء بالسقيم، والمقبل بالمدبر؛ قال: قد قلت ذاك، قال: خبطتها عشواء؛ قال زياد: ليس النافخ بشر الزمرة، فقتله؛ فقال عبد الله بن همام السلولي:

خيب الله سعي أوفى بن حصنٍ         حين أضحى فروجة الرقـاء
قاده الحين والشقاء إلـى لـي            ث عرينٍ وحـيةٍ صـمـاء

قال: ولما قدم زياد الكوفة أتاه عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فقال: إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه من شيعة أبي تراب، فقال له عمرو بن حريث: ما يدعوك إلى رفع ما لا تيقنه ولا تدري ما عاقبته! فقال زياد: كلاكما لم يصب، أنت حيث تكلمني في هذا علانيةً وعمرو حين يردك عن كلامك، قوما إلى عمرو بن الحمق فقولا له: ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد.

قال: ويقال: إن الذي رفع على عمرو بن الحمق وقال له: قد أنغل المصرين، يزيد بن رويم، فقال عمرو بن الحريث: ما كان قط أقبل على ما ينفعه منه اليوم؛ فقال زياد ليزيد بن رويم: أما أنت فقد أشطت بدمه، وأما عرمو فقد حقن دمه، ولو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ماهجته حتى يخرج علي.

واتخذ زيادٌ المقصورة حين حصبه أهل الكوفة.

وولى زياد حين شخص من البصرة إلى الكوفة سمرة بن جندب. فحدثني عمر، قال: حدثني إسحاق بن إدريس، قال: حدثني محمد ابن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب! استخلفه زيادٌ على البصرة، وأتى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلافٍ من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت - أو كما قال.

حدثني عمر، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا نوح بن قيس، عن أشعث الحداني، عن أبي سوار العدوي، قال: قتل سمرة من قومي في غداةٍ سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن.

حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، عن جعفر الصدفي، عن عوف، قال: أقبل سمرة من المدينة، فلما كان عند دور بني أسد خرج رجل من بعض أزقتهم، ففجأ أوائل الخيل، فحمل عليه رجلٌ من القوم فأوجره الحربة. قال: ثم مضت الخيل، فأتى عليه سمرة بن جندب، وهو متشحط في دمه، فقال: ما هذا؟ قيل: اصابته أوائل خيل الأمير؛ قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا.

خروج قريب وزحاف حدثني عمر قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا غسان بن مضر، عن سعيد بن زيد، قال: خرج قريب وزحاف، وزياد بالكوفة، وسمرة بالبصرة، فخرجا ليلاً، فنزلا بني يشكر، وهم سبعون رجلاً، وذلك في رمضان، فأتوا بني ضبيعة وهم سبعون رجلاً، فمروا بشيخ منهم يقال له حكام، فقال حين رآهم: مرحباً بأبي الشعثاء! فرآه ابن حصين فقتلوه، وتفرقوا في مساجد الأزد، وأتت فرقةٌ منهم رحبة بني علي، وفرقة مسجد المعادل، فخرج عليهم سيف بن وهب في أصحاب له، فقتل من أتاه، وخرج على قريب وزحاف شبابٌ من بني علي وشبابٌ من بني راسب، فرموهم بالنبل. قال قريب: هل في القوم عبد الله بن أوس الطاحي؟ وكان يناضله؛ قيل: نعم؛ قال: فهلم إلى البراز؛ فقتله عبد الله وجاء برأسه، وأقبل زيادٌ من الكوفة فجعل يؤنبه، ثم قال: يا معشر طاحية، لولا أنكم أصبتم في القوم لنفيتكم إلى السجن. قال: وكان قريب من إياد، وزحاف من طيىء، وكانا ابني خالة، وكانا أول من خرج بعد أهل النهر.

قال غسان: سمعت سعيداً يقول: إن أبا بلال قال: قريب لا قربه الله، وايم الله لأن أقع من السماء أحب إلي من أن أصنع ما صنع - يعني الاستعراض.

حدثني عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثني وهب، قال: حدثني أبي أن زياداً اشتد في أمر الحرورية بعد قريب وزحاف، فقتلهم وأمر سمرة بذلك، وكان يستخلفه على البصرة إذا خرج إلى الكوفة، فقتل سمرة منهم بشراً كثيراً.

حدثني عمر، قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: قال زياد يومئذ على المنبر: يا أهل البصرة، والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأن بكم، والله لئن أفلت منهم رجلٌ لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، قال: فثار الناس بهم فقتلوهم.

ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة قال محمد بن عمر: وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشأم، فحرك، فكسفت الشمس حتى رئيت النجوم باديةً يومئذ، فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرض، فنظرت إليه. ثم كساه يومئذ.

وذكر محمد بن عمر، أنه حدثه بذلك خالد بن القاسم، عن شعيب بن عمرو الأموي.

قال محمد بن عمر: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: قال معاوية: إني رأيت أن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصاه لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وهي عند سعد القرظ، فجاءه أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين؛ نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتخرج عصاه إلى الشأم؛ فانقل المسجد؛ فأقصر وزاد فيه ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إلى الناس مما صنع.

قال محمد بن عمر: وحدثني سويد بن عبد العزيز، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: كان عبد الملك قد هم بالمنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، وأن تحوله! إن أمير المؤمنين معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على منبري آثماً فليتبوأ مقعده من النار"، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة! فأقصر عبد الملك عن ذلك، وكف عن أن يذكره. فلما كان الوليد وحج هم بذلك وقال: خبراني عنه، وما أراني إلا سأفعل: فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: كلم صاحبك يتق الله عز وجل ولا يتعرض لله سبحانه ولسخطه، فكلمه عمر بن عبد العزيز، فأقصر وكف عن ذكره، فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان الوليد هم به وإرسال سعيد بن المسيب إليه، فقال سليمان: ما كنت أحب أن يذكر هذا عن أمير المؤمنين عبد الملك ولا عن الوليد، هذا مكابرة، وما لنا ولهذا! أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه، فنحمله إلى ما قبلنا! هذا ما لا يصلح.

وفيها عزل معاوية بن حديج عن مصر وولى مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية، وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية، فافتتحها، واختط قيروانها، وكان موضعه غيضةً - فيما زعم محمد بن عمر - لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الداب. فدعا الله عز وجل عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هارباً، حتى إن السباع كانت تحمل أولادها.

قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن علي، عن أبيه، قال: نادى عقبة بن نافع:

إنا نازلـونـا            فاظعنوا عزينا

فخرجن من جحرتهن هوارب.

قال: وحدثني المفضل بن فضالة، عن زيد بن أبي حبيب، عن رجل من جند مصر، قال: قدمنا مع عقبة بن نافع، وهو أول الناس اختطها وأقطعها للناس مساكن ودوراً، وبنى مسجدها. فأقمنا معه حتى عزل، وهو خير والٍ وخير أمير.

ثم عزل معاوية في هذه السنة - أعني سنة خمسين - معاوية بن حديج عن مصر، وعقبة بن نافع عن إفريقية، وولى مسلمة بن مخلد مصر والمغرب كله، فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس، فولى مسلمة بن مخلد مولىً له يقال له: أبو المهاجر أفريقية، وعزل عقبة ابن نافع، وكشفه عن أشياء، فلم يزل والياً على مصر والمغرب، وأبو المهاجر على إفريقية من قبله حتى هلك معاوية بن أبي سفيان.

وفي هذه السنة مات أبو موسى الأشعري، وقد قيل: كانت وفاة أبي موسى سنة اثنتين وخمسين.

واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم معاوية، وقال بعضهم: بل حج بهم ابنه يزيد، وكان الوالي في هذه السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى البصرة والكوفة والمشرق وسجستان وفارس والسند والهند زياد.
ذكر هرب الفرزدق من زياد وفي هذه السنة طلب زيادٌ الفرزدق، واستعدت عليه بنو نهشل وفقيم، فهرب منه إلى سعيد بن العاص - وهو يومئذ والي المدينة من قبل معاوية - مستجيراً به، فأجاره.

ذكر الخبر عن ذلك

حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو عبيدة وأبو الحسن المدائني وغيرهما، أن الفرزدق لما هجا بني نهشل وبني فقيم. لم يزد أبو زيد في إسناد خبره على ما ذكرت؛ وأما محمد بن علي فإنه حدثني عن محمد بن سعد، عن أبي عبيدة، قال: حدثني أعين بن لبطة بن الفرزدق، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا، استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبي سفيان. وزعم غيره أن يزيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل بن نهشل استعدى أيضاً عليه. فقال أعين: فلم يعرفه زياد حتى قيل له: الغلام الأعرابي الذي أنهب ورقه وألقى ثيابه؛ فعرفه.

قال أبو عبيدة: أخبرني أعين بن لبطة، قال: أخبرني أبي، عن أبيه، قال: بعثني أبي غالبٌ في عير له وجلبٍ أبيعه وأمتار له وأشتري لأهله كساً، فقدمت البصرة، فبعت الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته في ثوبي أزاوله، إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان، فقال: لشد ما تستوثق منها! فقلت: وما يمنعني! قال: أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صبر عليها؛ فقلت: وما هو؟ قال: غالب بن صعصعة؛ قال: فدعوت أهل المربد فقلت: دونكموها - ونثرتها عليهم - فقال لي قائل: ألق رداءك يابن غالب، فألقيته. وقال آخر: ألق قميصك؛ فألقيته، وقال آخر: ألق عمامتك فألقيتها حتى بقيت في إزارٍ، فقالوا: ألق إزارك، فقلت: لن ألقيه وأمشي مجرداً، إني لست بمجنون. فبلغ الخبر زياداً، فأرسل خيلاً إلى المربد ليأتوه بي، فجاء رجل من بني الهجيم على فرس؛ قال: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه، وركض حتى تغيب، وجاءت الخيل وقد سبقت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة - وكانا في الديوان على ألفين ألفين، وكانا معه - فحبسهما فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد! وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنباً! فمكثا أياماً. ثم كلم زياد فيهما، فقالوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية؛ فخلى عنهما؛ فقالا لي: أخبرنا بجميع ما أمرك أبوك من ميرةٍ أو كسوة؛ فخبرتهما به أجمع، فاشترياه وانطلقت حتى لحقت بغالب، وحملت ذلك معي أجمع، فأتيته وقد بلغه خبري، فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بما كان؛ قال: وإنك لتحسن مثل هذا! ومسح رأسي. ولم يكن يومئذ يقول الشعر، وإنما قال الشعر بعد ذلك، فكانت في نفس زياد عليه.

ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة، من بني ربيعة بن كعب ابن سعد والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل، أحد بني حوى بن سفيان بن مجاشع إلى معاوية بن أبي سفيان، فأعطى كل رجل منهم مائة ألف، وأعطى الحتات سبعين ألفاً، فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضاً، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحتان أخذ سبعين ألفاً، فرجع إلى معاوية، فقال: ما ردك يا أبا منازل؟ قال: فضحتني في بني تميم، أما حسبي بصحيح! أو لست ذا سن! أو لست مطاعاً في عشيرتي! فقال معاوية: بلى؛ قال: فما بالك خسست بي دون القوم! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانياً - فقال: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم. وطعن في جائزته، فحبسها معاوية، فقال الفرزدق في ذلك:

أبوك وعمي يا مـعـاوي أورثـا                تراثاً فيحتاز التـراث أقـاربـه
فما بال ميراث الحتـات أخـذتـه            وميراث حربٍ جامدٌ لك ذائبـه!
فلو كان هذا الأمر في جاهـلـيةٍ           علمت من المرء القليل حلائبـه
ولو كان في دينس سوى ذا شنئتـم     لنا حقنا أو غص بالماء شـاربـه
ولو كان إذ كنا وفي الكف بسـطةٌ          لصممٌ غضبٌ فيك ماضٍ مضاربه

- وأنشد محمد بن علي وفي الكف مبسط -

وقد رمت شـيئاً يا مـعـاوي دونـه                     خياطف علودٍّ صعـاب مـراتـبـه
وما كنت أعطي النصف من غير قدرةٍ               سواك، ولو مالت علـي كـتـائبـه
ألست أعز النـاس قـومـاً وأسـرةً                     وأمنعهم جـاراً إذا ضـيم جـانـبـه
وما ولـدت بـعـد الـنـبـي وآلـه                          كمثلي حصانٌ في الرجال يقـاربـه
أبى غالبٌ والـمـرء نـاجـية الـذي                      إلى صعصعٍ ينمى، فمن ذا يناسبـه!
وبيتي إلى جـنـب الـثـريا فـنـاؤه                      ومن دونه البدر المضيء كواكـبـه
أنا ابن الجبال الصم في عدد الحصـى              وعرق الثرى عرقي، فمن ذا يحاسبه!
أنا ابن الذي أحـيا الـوئيد وضـامـنٌ                    على الدهر إذ عزت لدهرٍ مكاسبـه
وكم من أبٍ لي يا مـعـاوي لـم يزل                    أغر يباري الريح ما ازور جانـبـه
نمته فروع المـالـكـين ولـم يكـن                       أبوك الذي من عبد شمـسٍ يقـاربـه
تراه كنصل السيف يهتـز لـلـنـدى                      كريماً يلاقي المجد ما طر شـاربـه
طويل نجاد السيف مذ كان لـم يكـن                 قصيٌّ وعبد الشمس ممن يخاطـبـه

فرد ثلاثين ألفاً على أهله، وكانت أيضاً قد أغضبت زياداً عليه. قال: فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضباً، فطلبه فهرب، فأتى عيسى بن خصيلة بن معتب بن نصر بن خالد البهزي، ثم أحد بني سليم، والحجاج بن علاط بن خالد السلمي.

قال ابن سعد: قال أبو عبيدة: فحدثني أبو موسى الفضل بن موسى ابن خصيلة، قال: لما طرد زياد الفرزدق جاء إلى عمي عيسى بن خصيلة ليلاً فقال: يا أبا خصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني، وإن صديقي وجميع من كنت أرجو قد لفظوني، وإني قد أتيتك لتغيبني عندك؛ قال: مرحباً بك! فكان عنده ثلاث ليالٍ، ثم قال: إنه قد بدا لي أن ألحق بالشام، فقال: ما أحببت؛ إن أقمت معي ففي الرحب والسعة؛ وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها. قال: فركب بعد ليل، وبعث عيسى معه حتى جاوز البيوت، فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال الفرزدق في ذلك:

حباني بها البهزي حملان من أبـي           من الناس والجاني تخاف جرائمـه
ومن كان يا عيسى يونـب ضـيفـه             فضيفك محبورٌ هنيٌّ مطـاعـمـه
وقال تـعـلـم أنـهـا أرحـبـيةٌ                        وأن لها الليل الذي أنت جاشـمـه
فأصبحت والملقى ورائي وحنـبـلٌ              وما صدرت حتى علا النجم عاتمه
تزاور عن أهل الحفـير كـأنـهـا                    ظليمٌ تبارى جنح لـيلٍ نـعـائمـه
رأت بين عينيهـا دوية وانـجـلـى                 لها الصبح عن صعلٍ أسيلٍ مخاطمه
كأن شراعاً فيه مجرى زمـامـهـا                  بدجلة إلا خطـمـه ومـلاغـمـه
إذا أنت جاوزت الغريين فاسلـمـي                وأعرض من فلجٍ ورائي مخارمـه

وقال أيضاً:

تداركني أسباب عيسى من الردى         ومن يك مولاه فليس بـواحـد

وهي قصيدة طويلة.

قال: وبلغ زياداً أنه قد شخص، فأرسل علي بن زهدم، أحد بني نولة بن فقيم في طلبه.

قال أعين: فطلبه في بيت نصرانية يقال لها ابنة مرار، من بني قيس ابن ثعلبة تنزل قصيمة كاظمة؛ قال: فسلته من كسر بيتها، فلم يقدر عليه؛ فقال في ذلك الفرزدق:

أتيت ابنة المرار أهبلت تبتـغـي             وما يبتغى تحت السوية أمثالـي
ولكن بغائي لو أردت لـقـاءنـا                 فضاء الصحارى لا ابتغاءٌ بأدغال

وقيل: إنها ربيعة بنت المرار بن سلامة العجلي أم أبي النجم الراجز.
قال أبو عبيدة: قال مسمع بن عبد الملك: فأتى الروحاء، فنزل في بكر بن وائل، فأمن، فقال يمدحهم:

وقد مثلت أين المسير فلم تجد        لفورتها كالحي بكر بن وائل
أعف وأوفى ذمةً يعقدونـهـا               إذا وازنت شم الذرا بالكواهل

وهي قصيدة طويلة. ومدحهم بقصائد أخر غيرها.

قال: فكان الفرزدق إذا نزل زياد البصرة نزل الكوفة، وإذا نزل زيادٌ الكوفة نزل الفرزدق البصرة، وكان زياد ينزل البصرة ستة أشهر والكوفة ستة أشهر، فبلغ زياداً ما صنع الفرزدق، فكتب إلى عامله على الكوفة عبد الرحمن ابن عبيد: إنما الفرزدق فحل الوحوش يرعى القفار، فإذا ورد عليه الناس ذعر ففارقهم إلى أرض أخرى فرتع؛ فاطلبه حتى تظفر به. قال الفرزدق: فطلبت أشد طلب، حتى جعل من كان يؤويني يخرجني من عنده، فضاقت علي الأرض، فبينا أنا ملفف رأسي في كسائي على ظهر الطريق، إذ مر بي الذي جاء في طلبي، فلما كان الليل أتيت بعض أخوالي من بني ضبة وعندهم عرس - ولم أكن طعمت قبل ذلك طعاماً، فقلت: آتيهم فأصيب من الطعام - قال: فبينا أنا قاعد إذ نظرت إلى هادي فرسٍ وصدر رمح قد جاوز باب الدار داخلاً إلينا، فقاموا إلى حائط قصب فرفعوه، فخرجت منه، وألقوا الحائط فعاد مكانه، ثم قالوا: ما رأيناه، وبحثوا ساعةً ثم خرجوا، فلما أصبحنا جاءوني فقالوا: اخرج إلى الحجاز عن جوار زياد لا يظفر بك، فلو ظفر بك البارحة أهلكتنا؛ وجمعوا ثمن راحلتين، وكلموا لي مقاعساً أحد بني تيم الله ابن ثعلبة - وكان دليلاً يسافر للتجار - قال: فخرجنا إلى بانقيا حتى انتهينا إلى بعض القصور التي تنزل، فلم يفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا إلى جنب الحائط والليلة مقمرة، فقلت: يا مقاعس، أرأيت إن بعث زياد بعد ما نصبح إلى العتيق رجالاً، أيقدرون علينا؟ قال: نعم، يرصدوننا - ولم يكونوا جاوزوا العتيق وهو خندق كان للعجم - قال: فقلت: ما تقول العرب؟ قال: يقولون: أمهله يوماً وليلة ثم خذه. فارتحل؛ فقال إني أخاف السباع، فقلت: السباع أهون من زياد، فارتحلنا لا نرى شيئاً إلا خلفناه، ولزمنا شخصٌ لا يفارقنا، فقلت: يا مقاعس، أترى هذا الشخص! لم نمرر بشيء إلا جاوزناه غيره، فإنه يسايرنا منذ الليلة. قال: هذا السبع، قال: فكأنه فهم كلامنا، فنقدم حتى ربض على متن الطريق، فلما رأينا ذلك نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا بثنايين وأخذت قوسي. وقال مقاعس: يا ثعلب، أتدري ممن فررنا إليك؟ من زياد، فأحصب بذنبه حتى غشينا غباره وغشي ناقتينا، قال: فقلت: أرميه، فقال: لا تهجه، فإنه إذا أصبح ذهب؛ قال: فجعل يرعد ويبرق ويزئر، ومقاعس يتوعده حتى انشق الصبح، فلما رآه ولى، وأنشا الفرزدق يقول:

ما كنت أحسبني جباناً بـعـد مـا             لاقيت لـيلة جـانـب الأنـهـار
ليثـاً كـأن عـلـى يديه رحـالةً                   شئن البراثن مؤجـد الأظـفـار
لما سمعت له زمازم أجهـشـت               نفسي إلي وقلـت أين فـراري!
وربطت جروتها وقلت لها اصبري               وشددت في ضيق المقـام إزاري
فلأنت أهون مـن زيادٍ جـانـبـاً                  اذهب إليك مـخـرم الأسـفـار

قال ابن سعد: قال أبو عبيدة: فحدثني أعين بن لبطة، قال: حدثني أبي، عن شبث بن ربعي الرياحي، قال: فأنشدت زياداً هذه الأبيات فكأنه رق له، وقال: لو أتاني لآمنته وأعطيته، فبلغ ذلك الفرزدق؛ فقال:

تذكر هذا القلب من شوقـه ذكـرا             تذكر شوقاً ليس ناسيه عـصـرا
تذكر ظمياء التـي لـيس نـاسـيا              وإن كان أدنى عهدها حججاً عشرا
وما مغزلٌ بالغور غور تـهـامةٍ                     ترعى أراكاً في منابته نـضـرا
من الأدم حواء المدامع تـرعـوي                إلى رشإٍ طفلٍ تخال بـه فـتـرا
أصابت بوادي الولـولان حـبـالةً                  فما استمسكت حتى حسبن بها نفرا
بأحسن من ظمياء يوم تعـرضـت               ولا مزنةٌ راحت غمامتها قصـرا
وكم دونها من عاطفٍ في صريمة                وأعداء قومٍ ينذرون دمـي نـذرا!
إذا أوعدوني عند ظمياء سـاءهـا                وعيدي وقالت لا تقولوا له هجرا
دعاني زيادٌ للعـطـاء ولـم أكـن                   لآتيه ما ساق ذو حـسـبٍ وفـرا
وعند زيادٍ لـو يريد عـطـاءهـم                   رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهم فـقـرا
قعودٌ لدى الأبواب طـلاب حـاجةٍ               غوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا

فلما خشـيت أن يكـون عـطـاؤه                أداهم سوداً أو محـدرجةً سـمـرا
نميت إلى حرفٍ أضـر بـنـيهـا                    سرى الليل واستعراضها البلد القفرا
تنفس في بهوٍ من الجـوف واسـعٍ             إذا مد حيزوما شراسيفها الضفـرا
تراها إذا صام النـهـار كـأنـمـا                    تسامى فنيقاً أو تخالسـه خـطـرا
تخوض إذا صاح الصدى بعد هجعةٍ              من الليل ملتجاً غياطله خـضـرا
فإن أعرضت زوراء أو شمرت بها                 فلاةٌ ترى منها مخارمهـا غـبـرا
تعاودين عن صهب الحصى وكأنمـا              طحن به من كل رضراضةٍ جمرا
وكم من عدوٍّ كاشحٍ قد تـجـاوزت               مخافته حتى تكون لهـا جـسـرا
يؤم بها المومـاة مـن لا يرى لـه                 إلى ابن أبي سفيان جاهاً ولا عذرا
ولا تعجلاني صاحبـي فـربـمـا                   سبقت بورد المـاء غـاديةً كـدرا
وحضنين من ظلماء لـيلٍ سـريتـه                بأغيد قد كان النعاس لـه سـكـرا
رماه الكرى في الرأس حتى كأنـه                أميم جلاميدٍ تـركـن بـه وقـرا
من السير والإدلاج تحسـب أنـمـا               سقاه الكرى في كل منزلة خمـرا
جررنا وفدينـاه حـتـى كـأنـمـا                     يرى بهوادي الصبح قنبلةً شـقـرا

قال: فمضينا وقدمنا المدينة وسعيد بن العاص بن أمية عليها، فكان في جنازة، فتبعته فوجدته قاعداً والميت يدفن حتى قمت بين يديه، فقلت: هذا مقام العائذ من رجل لم يصب دماً ولا مالاً! فقال: قد أجرت إن لم تكن أصبت دماً ولا مالاً؛ وقال: من أنت؟ قلت: أنا همام بن غالب بن صعصعة، وقد أثنيت على الأمير، فإن رأي أن يأذن في فأسمعه فليفعل؛ قال: هات، فأنشدته:

وكومٍ تنعم الأضياف عيناً           وتصبح في مباركها ثقالا

حتى أتيت إلى آخرها؛ قال: فقال مروان:

قعوداً ينظرون إلى سعيد

قلت: والله إنك لقائم يا أبا عبد الملك.

قال: وقال كعب بن جعيل: هذه والله الرؤيا التي رأيت البارحة؛ قال سعيد: وما رأيت؟ قال: رأيت كأني أمشي في سكة من سكك المدينة، فإذا أنا بابن قترة في جحر، فكأنه أراد أن يتناولني، فاتقيته، قال: فقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوز إلي، فقال: قل ما شئت فقد أدركت من مضى، ولا يدركك من بقي. وقال لسعيد: هذا والله الشعر، لا يعلل به منذ اليوم. قال: فلم نزل بالمدينة مرة وبمكة مرة. وقال الفرزدق في ذلك:

 ألا من مبـلـغٌ عـنـي زياداً             مغلغلةً يخب بهـا الـبـريد
بأني قد فررت إلـى سـعـيدٍ           ولا يسطاع ما يحمي سـعـيد
فررت إليه من ليثٍ هـزبـرٍ              تفادي عن فريستـه الأسـود
فإن شئت انتسبت إلى النصارى   وإن شئت انتسبت إلى اليهـود
وإن شئت انتسبت إلى فـقـيمٍ       وناسبني وناسبـت الـقـرود

ويروى: وناسبني وناسبت اليهود

وأبغضهم إلي بنو فقيمٍ           ولكن سوف آتي ما تريد

وقال أيضاً:

أتاني وعيدٌ مـن زيادٍ فـلـم أنـم             وسيل اللوى دوني فهضب التهـائم
فبت كأني مـشـعـرٌ خـيبـريةً                سرت في عظامي أو سمام الأراقم
زياد بن حربٍ لن أظنك تـاركـي            وذا الضغن قد خشمته غير ظالـم

قال: وأنشدنيه عمرو:

 وبالضغن قد خشمتني غير ظالـم
وقد كافحت مني العراق قصيدةٌ               رجومٌ مع الماضي رءوس المخارم
خفـيفة أفـواه الـرواة ثـقــيلة                   على قرنها نزالةٌ بـالـمـواسـم

وهي طويلة. فلم نزل بين مكة والمدينة حتى هلك زياد.

وفي هذه السنة كانت وفاة الحكم بن عمرو الغفاري بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل.