المجلد السادس - ذكر خبر قتل مصعب المختار بن أبي عبيد

ذكر خبر قتل مصعب المختار بن أبي عبيد

وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار: قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال: لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغله له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلاً ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن قيس-ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ- فلما بلغه هزيمة الناس تهيأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في ماء، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه. قال: وبعث المختار إلى دار محمد بن الأشعث فهدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمحمد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتني المهلب بن أبي صفرة. فكتب المصعب إلى المهلب -وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة. فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب؛ فذهب محمد بن الأشعث بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يامحمد من يأتي بريداً! أما وجد المصعب بريداً غيرك! قال محمد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. فخرج المهلب، وأقبل بجموع كثيرة وموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دماً، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلى جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سراً، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مستراً لايظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس الهيثم على خمس أهل العالية؛ وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفرى على الله و اللعن لأهل بيت نبيه. انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموه لقد قتلتموه إنا شاء الله قتل عاد وإرم. فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع أبي الأشتر، فإنهم إنما فارقوا بن الأشتر؛ لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشاً كثيفاً، فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريباً. ثم إن كل واحد منهما عبى جنده. ثم تزاحقا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين بن عبد السلولي. وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي - وكان يوم خازر مع ابن الأشتر- وجعل كيسان أبا عمرة -وكان مولى لعرينة- على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالاً كثيراً على الخيل. وأنت تمشي. فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوةً. فإني أتخوف إن طوردوا ساعةً وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على منزلها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بداً، وإنما كان هذا منه غشاً للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالاً لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلو، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله ابن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحداً ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم، فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعةً ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطعموكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم: أنا الغلام الشاكري، أنا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله ابن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخشعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم. ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي. ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء. فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. سرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونك ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزماً إلا قتلوه. ولا يأخذون أسيراً فيعفون عنه. قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل؛ وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا. فال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال: نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم؛ وكان معاوية بن قرة قاضياً لأهل البصرة، ففي ذلك يقول الأعشى:

ألا هل أتاك والأنباء تنـمـى               بما لاقت بجـلة بـالـمـذار
أتيح لهم بها ضرب طلحـف               وطعن صائب وجه النـهـار
كأن سحابة صعقت علـيهـم             فعمتهم هنالـك بـالـدمـار
فبشر شيعة المخـتـار إمـا                مررت على الكويفة بالصغار
أقر العين صرعـاهـم وفـل                  لهم جم يقتل بالـصـحـارى
وما إن سرني إهلاك قومـي              وإن كانوا وجدك في خـيار
ولكني سررت بـمـا يلاقـي                أبو إسحاق من خزي وعـار

وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان؛ ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي، أن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون:

عودنا المصعب جر القلس          والزنبريات الطوال القعس

قال: فلما بفغ من مع المختار من تلك الأعاجم مالقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: "ابن بارد روغ كفت" يقولون: هذا المرة كذب. قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: و الله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم ومالقوا، قال: فأصغى إلى، فقال: قتلت و الله العبيد قتلةً ما سمعت بمثلها قط. ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالاً من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيراً من فئام من الناس. قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن شميط،حبذامصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت. ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحينن، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حروراء، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخشعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي. وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطي، وعلىالرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكباً قوساً له. قال: وجعل على أهل الكوفة محمد بن الأشعث، فجاء محمد حتى نزل بين المصعب والمختار مغرباً ميامنا. قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من أصحابه، فبعث إلى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث إلى أهل العالية وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر؛ فقاتلتهم ربيعة قتالاً شديداً، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعاً؛ قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: إي لعمري ماكنت لأجزر الأزد وتميماً خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي. قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العلية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فبحثا المصعب على ركبتيه -ولم يكن فراراً- فرمى بأسهمه. ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعةً، ثم تحاجزوا. قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه: قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقى ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملةً منكرةً، فحطموا أصحاب المختار حطمةً منكرة، فكشوفهم. وقال عبد الله ابن عمرو النهدي -وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء- يعني أصحاب المصعب- ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو على الرجالة بفرسه فركبه، وانقصف أصحاب المختار انقصافةً شديدة كأنهم أجمة فيها حريق. فقال مالك حين ركب: ما أصنع بالركوب! والله لأن أقتل ها هنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي؛ أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فئاب إليه نحو من خمسين رجلاً، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب محمد بن الأشعث، فقتل محمد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل محمد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلاً إلى جانبه - و كندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله- فلما مر المختار في أصحابه على محمد بن الأشعث قتيلاً قال: يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل؛ فخشعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله. قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر. كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلاً فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلاً من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكة شبث، ونزل وهو يريد ألا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري. وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ: يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال؛ فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا أريد أن آتى القصر، فأما إذ انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله؛ فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل محمد بن الأشعث:

تأوب عـينـك عـوارهـا                وعاد لنفسـك تـذكـارهـا
وإحدى لياليك راجعـتـهـا            أرقت ولـوم سـمـارهـا
وما ذاقت العين طعم الرقـا          د حتى تبلـج إسـفـارهـا
وقام نـعـاة أبـي قـاسـم              فأسبل بالدمع تـحـدارهـا
فحق العيون على ابن الأشج       ألا يفتـر تـقـطـارهـا
و ألا تـزال تـبـكـي لـه                  وتبتل بالدمـع أشـفـاهـا
عليك محمـد لـمـا ثـوي               ت تبكي البلاد وأشجارهـا
وما يذكـرونـك إلا بـكـوا                 إذا ذمة خانـهـا جـارهـا
وعارية من ليالي الـشـتـا            ء لا يتمـنـح أيسـارهـا
ولا ينبح الكلب فيها العـقـو           ر إلا الهرير وتختـارهـا
ولا ينفع الثوب فيها الفـتـى          ولا ربة الخدر تخـدارهـا
فأنت محمد في مـثـلـهـا               مهين الجزائر نـحـارهـا
تظل جفانـك مـوضـوعة                 تسيل من الشحم أصبارهـا
وما في سقائك مستنـطـف            إذا الشول روح أغبـارهـا
فيا واهب الوصفاء الصـبـا               ح إن شبرت تم إشبـارهـا
ويا واهب الجرد مثل القـدا             ح قد يعجب الصف شوارها
ويا واهب البكرات الهـجـا               ن عوذا تجاوب أبكـارهـا
وكنت كدجلة إذ تـرتـمـي               فيقذف في البحر تـيارهـا
وكنـت جـلـيداً وذا مـرة                  إذا يبتغي منك إمـرارهـا
وكنت إذا بلدة أصـفـقـت                وآذان بالحرب جـبـارهـا
بعثت عليها ذواكي الـعـيو               ن حتى تواصل أخبـارهـا
بإذن من الله والـخـيل قـد                أعد لذلك مـضـمـارهـا
وقد تطعم الخيل منك الوجي            ف حتى تنبذ أمـهـارهـا
وقد تعلم البازل العيسـجـو             ر أنك بالخبث حسـارهـا
فيا أسفـي يوم لاقـيتـهـم              وخانت رجالك فـرارهـا

وأقبلت الخيل مهـزومة             عثاراً تضرب أدبارهـا
بشط حروراء واستجمعت         عليك الموالي وسحارها
فأخطرت نفسك من دونهم       قحاز الرزيئة أخطارها
فلا تبعدان أبـا قـاسـم               فقد يبلغ النفس مقدارها
وأفني الحوادث ساداتـنـا            ومر الليالي وتكرارهـا

قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعي من وهيبل، فقال ورقاء:

من مبلغ عني عبيداً بـأنـنـي            علوت أخاه بالحسام المهـنـد
فإن كنت تبغي العلم عنه فإنـه          صريع لدى الديرين غير موسد
وعمداً علوت الرأس منه بصارم            فأثكلته سفيان بعـد مـحـمـد

قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن هنداً بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة ابن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصداً، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي و البطين الليثي وأبي الحارث الكندي. قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم: من محمد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسراً ولاتتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء، فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وكل نفس بما كسبت رهينة، و لا تزر وازرة وزر أخرى، و الله قائم على كل نفس بما كسبت؛ فاعملوا صالحاً، وقدموا لأنفسكم حسناً، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء. فخرج ، فلما التقى للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: ألم تزعم لنا يا بن نوف أن سنهزمهم! قال: أو ما قرأت في كتاب الله: "يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب. فقال له المهلب: يا له فتحاً ما أهناه لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله محمداً. ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير؛ قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: " إنا لله و إنا إليه راجعون" قال: المصعب: أما إنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشئ مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا؛ قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه. قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف:

ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت الناس صنفين؛ أما من كان له فيك هوى فخرج إليك. وأما من كان يرى رأى المخار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحداً عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت؛ قال: صدقت؛ وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة. وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائدين قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله ابن الحر؛ وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائدين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعاً هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائدين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء أنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينار من الجهد. وكان المختار ربما خرج هو و أصحابه فقاتلوا قتالاً ضعيفاً، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحقت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه. وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب -وكان مجرباً: اجعل عليهم دروباً حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم و أبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه لغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضاً مما يروي أكثرهم. ثم إن مصعباً أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريباً من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند عند زقاق البصريين عند فم سكة بين جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل جهار سوج خنيس، وجاء عيد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمارها ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون -وليس لهم أمير: يابن دومة، يابن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيماً ما عيرني بها. وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحواً من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضاً، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي. ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شئ للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يشبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتاً، ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كراماً إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلاً ولا نهاراً حتى تنقضي هذه المدة. تفسير الخطبة: قوله : "أنا ابن جلا" فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة. والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ. أوينع الثمر: بلغ إدراكه.

وقوله: "فاشتد زيم" فهى اسم للحرب. والحطم: الذي يحطم كل شئ يمر به. والوضم: ما وقى به اللحم من الأرض. والعصلبي: الشديد. والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. و الأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها. أنشد أبو زيد الأصمعي:

واعرورت العلط العرضي تركضه           أم الفوارس بالـديداء والـربـعة

والشنان، جمع شنة: القرية البالية اليابسة، قال الشاعر:

كأنك من جمال بني أقيش        يقعقع خلف رجليه بشن

وقوله: "فعجم عيدانها" أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم وقوله: "أمرها عوداً" أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل. وقوله:"لأعصبنكم عصب السلمة" فالعصب القطع، والسلمة؛ شجرة من العضاه. وقوله:" لا أخلق إلا فريت" فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: " من مضغة مخلقة وغير مخلقة" أي مقدرة وغير مقدرة. يعني ما يتم وما يكون سقطاً، قال الكميت يصف قربة:

لم تجثم الخالقات فـريتـهـا       ولم يفض من نطاقها السرب

وإنما وصف حواصل الطير، يقول: لبست كهذه. وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:

وبهو هواء فـوق مـور كـأنـه             من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب

ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته. والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:

وذاب للشمس لعاب فنـزل          وقام ميزان الزمان فاعتدل

والزرقات: الجماعات. تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامي، ألا يرجع رجل منكم على ظلعه. ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكونون نكالاً لما قبلها، وأدباً لما بعدها. قوله: "تحتها قصف"، فهو شدة الريح. واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء. والظلع: الضعف والوهن من شدة السير. وقوله: "تهوي هوي سابق الغطاط"، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وأنشد لحسان ابن ثابت:

يغشون حتى ما تهر كلابهـم           لايسألون عن الغطاط المقبل

بقتح الغين. قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز:

قام إلى أدماء في الغطاط          يمشي بمثل قائم الفسطاط

تم التفسير. قال: فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني، وهو أشب مني؛ قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابىء التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخاً كبيراً، قال: آوليس يقول:

هممت ولم أفعل وكدت وليتنـي      تركت على عثمان تبكي حلائله

إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه ؛ فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان؛ فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر منادياً فنادى: ألا إن عمير بن ضابىء أتى بعد ثالثة؛ وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.

فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برا مهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذجح؛ فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر.

قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليه كتاب عبد الملك قال القارىء: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله. فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: "أما بعد سلام عليكم"، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمى، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابىء البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني- وكذب عليه. فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابىء، فأتي به شيخاً كبيراً، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلاً فهو أجلد مني جلداً، وأحدث مني سناً، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقاً وإلا فعاقبني. قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلاً؛ فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه. قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزاً مضرياً، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابىء فضرب عنقه.

ولما قتل الحجاج عمير بن ضابىء لقى إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر. فقال ابن الزبير:

أقول لإبراهـيم لـمـا لـقـيتـه                 أرى الأمر أمسى منصباً متشعبـاً
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى        سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضـابـىء               عميراً وإما أن تزور المهـلـبـا
هما خطتا كره نجاؤك منـهـمـا               ركوبك حولياً من الثلج أشـهـبـا
فحال ولو كانت خـراسـان دونـه              رآها مكان السوق أو هي أقربـا
فكائن ترى من مكره العدو ممسـن         تحمم حنو السرج حتى تحـنـبـا

وكان قدوم الحجاج الكوفة- فيما قيل- في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أبي الشقفي على البصرة أميراً، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالداً الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة. وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف. وعلى خراسان أمية بن عبد الله. وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى. وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ.