المجلد السادس - غزو المفضل باذغيس وأخرون

غزو المفضل باذغيس وأخرون

وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها. ذكر الخبر عن ذلك: ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائة درهم، ثم غزا خرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس. ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء. وإن غنم شيئاً قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل:

ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر            عصائب شتى ينتوون المفـضـلا
فمن زائر يرجو فواضـل سـيبـه                   وآخر يقضى حاجة قد تـرحـلا
إذا ما انتوينا غير أرضك لم نـجـد                  بها منتوى خيراً ولا مـتـعـلـلا
إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهـى               وقد قدموا من صالح كـنـت أولا
لعمري لقد صال المفضل صـولة                  أباحت بشومان المناهل والـكـلا
ويوم ابن عباس تناولت مثـلـهـا                    فكانت لنا بين الفريقين فـيضـلا
صفت لك أخلاق المهلب كلـهـا                   وسربلت من مسعاته ما تسربـلا
أبوك الذي لم يسع ساع كسـعـيه               فأورث مجداً لم يكن متـنـحـلا

خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ

 وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها: ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا -وقد مضى ذكري خبر قتله إياهم- تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه. وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك. فأقام عند دهقان نوقان أشهراً، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصناً، فلم يأت بلداً إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم. قال علي بن محمد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يوماً، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقر به أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لأكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء معضباً، فقال: يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لو لا أني أعطيتك وأصحابك الآمان لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي، ووصله. فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى أمسوا، وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفينات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له. فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى بقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعاً ما نلت حظاً، لأن له قدراً في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر؛ قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل؛ قال: فكف عنه حتى يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجاً من الحصن و الدهقان مجانب لتر مذشاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعاماً وأرسل إليه: إني أحب أن أكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك، فانتخب موسى من أصحابه مائةً، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بيناً، خمسين في خمسين، وغدوهم، فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال: لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري، وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الأخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك. فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل أخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، فنحن لا نقاتل هؤلاء. فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج فيغير على من حوله. قال: فأرسل الترك قوماً إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه: لا بد من مكيدة لهؤلاء -قال: وذلك في أشد الحر- فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبوداً، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون. وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا: لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم، قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب أو السلم، فأحرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وإنه يكسرنا، فلم يغزهم، قال: فولى بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحداً، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيراً أقام عامة ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلاً من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم، فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي -وكان فارساً: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذراً، وأسرع فزعاً، وأجراً على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا بأولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا، قال: فاجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعامائة، وقال لعمرو بن خالد: أخرجوا بعدنا وكونوا منا قريباً؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، أخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعاً، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل وقدم عمراً بين يديه مشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل. قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضاً وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلاً، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحاً ومالاً، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة؛ إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد، فقناوله بضرب؛ ضربه خمسين سوطاً، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمناً وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب على، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه. قال: فدخل يوماً وهو خال ولم ير عنده سلاحاً، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحوال بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحاً، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمناً، فأمنه، فلم يوجه إليه أمية أحداً قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميراً، فلم يعرض لابن خازم، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة ه هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه،فإن قتل كان أول طالع عليكم أميراً على خراسان رجل من قيس، فمات المهلب ولم يوجه إليه أحداً، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له، وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما؛ الحارث بن منقذ، وقتل صهراً لهما كانت عنده أم حفص ابنه ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد. قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكل إليه ماصنع به -وكان ثابت محبباً في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهداً يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر-فعضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تعطع النهر فتخرج يزيد ين المهلب عن خراسان؛ ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل و أهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن ثابتاً وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك. فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ.

وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها. فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوى أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الإسم، فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئاً أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر، فأبى وقال: ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث. واضطرب أمرهم؛ فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفاً لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس، قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلثمائة راجل وثلاثين مجففاً، وألقي له كرسي فقعد عليه. قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى: دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزيناً بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رسم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبي فليقدم عليه. ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان. قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغنم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضي إلى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلاً منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وسليم موسى بالسرح. قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمى يومئذ حريث بنشابه في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم، فوجأ رجلاً منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلاً ذريعاً، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته. قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسفين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضاً. وبلغ الحجاج خبر الواقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا. وبلغ ثابتاً بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري -وكان في خدمة موسى بن عبد الله- وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبى الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له: تحفظ ما يقولون. وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قوماً من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلناه وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم -والغلام يسمع- فأتى ثابتاً فأخره، فخرج من ليلته في عشرين فارساً، فمضى، وأصبحوا وقد ذهب يدروا من أين أوتوا وفقدوا الغلام، فعلموا انه كان عيناً له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم باباً فسدوه. وسار إليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجثوا ثابتاً وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة. فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار؛ فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معيناً له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخاري، فصار ثابت في ثمانين ألفاً، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهراً إلى موسى بالنهار -ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يوماً رقبة -وكان صديقاً لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا- فنادى ثابتاً، فبرز له -وعلى رقبة قباء خز- فقال له: كيف حالك يارقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكى إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي - رجل من قيس من يعصر- وكان المحل شيخاً صاحب شراب- فنزل رقبة عنده. قال: فبعث ثابت إلى رقبة في خمسائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجار قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغ أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك. فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وابلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه. قال: وكان رقبة جسيماً كبيراً غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس. قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إن مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعاً، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعاً لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني إياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني لا أدري أكذلك هو أم لا. قال: فدعني أرتهن منه رهناً، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسداً! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، فما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا أبنيك قدامة والضحاك. فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير. قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على مايريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد بن ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ. قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: أتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتلهم، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره ولم يبن.

فألقاه في النهر حي فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره. فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء -وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث: لو رمت ذاك من خزاعة لا تصعب عليك. وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات. وكان يزيد بن هزيل سخياً شجاعاً شاعراً، ولى أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال:

قد كنت أدعو الله في السر مخلصاً       ليمكنني مـن جـزية ورجـال
فاترك فيها ذكرطلـحة خـامـلاً               ويحمد فيها نائلـي وفـعـالـي

قال: فقام بأمر العجل بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياماً ضعيفاً، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر.

فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائة قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعاً. قال: فصير على ربع رقبة بن الحرب وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكره من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقال له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسيه وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت. إذا أقبل محمية السلمى وهو يقول: "حم لا ينصرون"، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة. وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغني شيئاً، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره وصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو. قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان ناراً هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جواريه الفازة، وخرج الشاكرية هراباً، فقال للجواري: اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئاً، وولى نوح وأتباعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان ورجع طرخون وسيفه يقطر دماً، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة. وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق؛ وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإذا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعاً، فأتى كل قوم بلادهم، قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكاً فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين ، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى:

فما أنت موسى إذ يناجـى إلـهـه            ولا واهب القينات موسى بن خازم

قال: فلما عزل يزيد وولى المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود -وكان يزيد حبسه- فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمتي، واصطفيتم أموالهم، فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر منادياً فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس، وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال: قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلاً، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان -لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفاً- وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلاً فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم؛إما ظفرتم وإما قتلتم. وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم. وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعاً، وإن هلكنا هلكنا جميعاً. قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر في أعلاه ياقوتة اسما نجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحداً، من لقيتموه فخذوه أسيراً. قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتى بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! يأمر بقتله، وإذا أتى بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ، وكان فظاً غليظاً، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء؛ فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتى به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب وكان صديقاً لثابت، وكان مع قوم فرفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر؛ فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك. قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن قيصلة العنبري.

ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمة والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه. قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم، فقال: لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! أمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمأبه ويكتب إلي إنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم؛ قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال:

وقد عركت بالترمذ الخيل خازماً           ونوحاً وموسى عركةً بالكلاكل

قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولى قتيبة أخبر عنه فقال: ما دعاك إلى ماصنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهما فيه:

ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه. ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي -وكان أجل الناس عند عبد الملك- فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: أي والله، وأنا من أول من يجيبك إلى ذلك؛ فقال: نصيح إن شاء الله. قال: فبينى هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقاً، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابة فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خالياً أو عندي رجل واحد، وإن كنت عندي النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكان السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشوراً فيقرؤه، إعظاماً لقبيصة -فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفى؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبازرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه وكان ذلك مخالفاً لك يا أبا إسحاق، فقال: قبيصة: ماهو؟ فأخبره بما كان؛ فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمر بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيراً من التأني! خبر موت عبد العزيز بن مروان وفي هذه السنة توفى عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر. وأما المدائني فإنه قال في ذلك ما حدثنا به أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأفد وفداً في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيباً، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك وسألوه ذلك فقال عمران بن عصام:

أمير المؤمنين إليك نـهـدي               على نأي التحية والسـلامـا
أجبني في بنيك يكن جوابـي            لهم عادية ولـنـا قـوامـا
فلو أن الـولـيد أطـاع فـيه                  جعلت له الخلافة والذمامـا
شبيهك حول قبـتـه قـريش               به يستمطر الناس الغمـامـا
ومثلك في التقى لم يصب يوماً         لدن خلع القلائد والتمـامـا
فإن تأثر أخـاك بـهـا فـإن                   وجدك لا نطيق لها إتهـامـا
ولكنا نـحـاذر مـن بـنـيه بني              العلات مأثرة سمـامـا
ونخشى إن جعلت الملك فيهم          سحاباً أن تعود لهم جهـامـا
فلا يك ما حلبت غداً لـقـوم               وبعد غد بنوك هم العـيامـا
فأقسم لو تخطانـي عـصـام               بذلك ما عذرت به عصامـا
ولو أني حبوت أخاً بفـضـل                أريد به المقالة والمـقـامـا
لعقب في بني علـى بـنـيه               كذلك أو لرمـت مـرامـا
فمن يك في أقاربـه صـدوع               فصدع الملك أبطؤه التئامـا

فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين. قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه. فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر. فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً! فإن رأيت ألا تفنث على بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. وقال لابنيه: الوليد وسليمان: هل قارفتما حراماً قط؟ قالا: لا والله،

قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له. قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب محمد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلاً مأموناً فاضلاً عاقلاً وديعاً مسلماً كتوماً تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ محمد بن يزيد. فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي. فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتباً. قال محمد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئاً إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يوماً نصف النهار إذا ببرد قد قدم من مصر، فقال: الأذن على أمير المؤمنين. قلت: ليست هذه ساعة إذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا. قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي. قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سليمان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهداً للوليد وسليمان من بعده، فكتب بيعة الوليد ثم سليمانمن بعده. فغضب علي الوليد فلم يولني شيئاً حين أشرت بسليمان من بعده. قال علي، عن أبي جعدية: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حي؛ فضربه هشام ضرباً مبرحاً وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب- ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبوني فيسترني، وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشاماً! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، أو يكف عنه. بيعة عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده سليمان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب بيعته لهما البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل- وهو عامل عبد الملك على المدينة - وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطاً، وطاف به فيد تبان سعر حتى بلغ به رأس الثنية.

وأما الحارث فقد قال: حدثني ابن سعيد، عن محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس؛ فضربه ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: مالنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن محمد بن عمر أخبره قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الماك لابنيه الوليد وسليمان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن اسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أب يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطاً، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن؛ قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبداً. فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق وخلاف. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي.

وكان العامل على المشرق في هذه السنة كم العراق الحجاج بن يوسف.