المجلد السادس - ثم دخلت سنة سبع وتسعين: ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث

ثم دخلت سنة سبع وتسعين

ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث

فمن ذلك ما كان من تجهيز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعماله ابنه داود بن سليمان على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا -فيما ذكر الواقدي- مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن أبي عبيد الفهري. ولاية يزيد بن المهلب على خراسان وفيها ولى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان: وكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها. فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سليمان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخر بها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق. وحدثني عمر بن شيبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطاً. قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناي يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعه ودبوسية صفراء صغيرة، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الديار-فأشار له إلى دار- فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله، قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئاً، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها على، واشتري متاعاً كثيراً، وصك صكاكاً إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكاً بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالاً للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه. قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن على، قال: لا قال علي بن محمد: حدثنا مسلمة بن محارب وأبو العلاء التيمي والطفيل بن مرداس العمى وأبو حفص الأزدي عمن حدثه عن جهم ابن زحر بن قيس، والحسن بن رشيد عن سليمان بن كثير، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، وعامر بن حفص وأبو مخنف عن عثمان ابن عمرو بن محصن الأزددي وزهير بن هنيد وغيرهم -وفي خبر بعضهم ما ليس في خبر بعض، فألفت ذلك - أن سليمان بن عبد الملك ولى يزيد ابن المهلب العراق ولم يوله خراسان، فقال سليمان بن عبد الملك لعبد الملك ابن المهلب وهو بالشام ويزيد بالعراق: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك قال: وكتب عبد الملك بن المهلب إلى جرير بن يزيد الجهضمي وإلى رجال من خاصته: إن أمير المؤمنين عرض على ولاية خراسان فبلغ الخبر يزيد ين المهلب، وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح ابن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال: إني أريدك لأمر قد أهمني، فأحب أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق، وقد أضجرني ذلك. وخراسان شاغرة برجلها، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين، فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به. وكتب إلى سليمان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق. وأثنى فيه علي ابن الأهتم وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفاً. فسار سبعاً، فقدم بكتاب يزيد على سليمان، فدخل عليه وهو يتغذى، فجلس ناحية، فأتى بدجاجتين فأكلهما قال: فدخل ابن الأهتم فقال له سليمان: لك مجلس غير هذا تعودا إليه. ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سليمان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان، ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها؛ بها ولدت، وبها نشأت، فلي بها وبأصلها خبر وعلم. قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها! فأشر على برجل أوليه خراسان؛ قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه، هل يصلح لها أو لا؛ قال: فسمى سليمان رجلاً من قريش؛ قال: يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلب، قال: لا، حتى عدد رجالاً، فكان في آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم بئيس مقدام، وليس بصاحبها مع هذا، إنه لم يقد ثلثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة. قال: صدقت ويحك، فمن لها! قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرني منه إن علم؛ قال: نعم، سمه من هو؟ قال: يزيد بن المهلب؛ قال: ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلا ويسير؛ قال: أصبت الرأي فكتب عهد يزيد على خراسان، وكتب إليه كتاباً: إن ابن الأهتم كما ذكرت في عقله ودينه وفضله ورأيه. ودفع الكتاب وعهد يزيد إلى ابن الأهتم، فسار سبعاً، فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك؟ قال: فأعطاه الكتاب، فقال: ويحك! أعندك خير؟ فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته، ودعا ابنه مخلداً فقدمه إلى خراسان، قال: فسار من يومه، ثم سار يزيد واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابي، وصير مروان ابن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، ولمروان يقول أبو البهاء الإبادي:

رأيت أبا قـبـيصة كـل يوم                   على العلات أكرمهم طباعـا
إذا ما هم أبوا أن يستطـيعـوا             جسيم الأمر يحمل ما استطاعا
وإن ضاقت صدورهم بأمـر                  فضلتهم بذاك نـدى وبـاعـا

وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سليمان، فوقع ذلك من سليمان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعاً عنده، فقال:أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد  أوجب شكراً، ولا أعظم عندي يداً من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوى، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب على حقاً، وإن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين؛ إن وكيعاً لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة؛ خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذاً ممن نستعين به- وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع- فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يداً من طاعة، أن يقيد وكيعاً به. فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع، رجع الحديث إلى حديث علي. قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلداً إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفاً جافياً، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلداً نزل الناس كلهم غير وكيع ومحمد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعاً فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه. قال علي عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال: لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟ قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم، إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: إنك أحمق، فكتب كتباً عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة، أن الوليد بن عبد الملك قد مات، وسليمان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه. فقلت: يا بن الأهتم تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها. وفي هذه السنة شخص يزيد بن المهلب إلى خراسان أميراً عليها، فذكر علي بن محمد، عن أبي السري المروزي الأزدي، عن عمه، قال: ولى وكيع سنة سبع وتسعين. قال علي: فذكر المفضل بن محمد عن أبيه، قال: أدنى يزيد أهل الشام وقوماً من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة:

وما كنا نؤمل مـن أمـير              كما كنا نؤمل مـن يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقـدمـا            زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفـاً أمـير           مشينا نحوه مثل الأسـود
فمهلاً يا يزيد أنب إلـينـا           ودعنا من معاشرة العبيد
نجيئ فلا نرى إلا صدودا           على أنا نسلم من بـعـيد
ونرجع خائبين بلا نـوال             فما بال التجهم والصدود!

قال علي: أخبرنا زياد بن الربيع، عن غالب القطان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز واقفاً بعرفات من خلافة سليمان، وقد حج سليمان عامئذ وهو يقول لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: العجب لأمير المؤمنين، استعمل رجلا على أفضل ثغر للمسلمين! فقد بلغني عمن يقدم من التجار من ذلك الوجه أنه يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل. أما والله ما الله أراد بولايته -فعرفت أنه يعني يزيد والجهنية- فقلت: يشكر بلاءهم أيام الأزارقة.

قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال:

ما زال سيبك يا يزيد بحوبتـي          حتى ارتويت وجودكم لا ينكر
أنت الربيع إذا تكون خصاصة             عاش السقيم به وعاش المقتر
عمت سحابته جميع بـلادكـم           فرووا وأغدقهم سحاب ممطر
فسقاك ربك حيث كنت مخيلةً          ريا سحائبها تروح وتبـكـر

وفي هذه السنة حج بالناس سليمان بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكرهم، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وفيها عزل سليمان طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي مليكة. قال: لما صدر سليمان ابن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستتة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها إلا خراسان، فإن عاملها الحرب والخراج والصلاة يزيد بن المهلب. وكان خليفته على الكوفة -فيما قيل - حرملة بن عمير اللخمي أشهراً، ثم عزله وولاها بشير بن حسان النهدي.