المجلد السادس - خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان

خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان

وفيها ولى يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمد؛ ولما ولى الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها-فيما زعم الواقدي- يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمى بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وذكر محمد بن عمر أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك ا لمدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل على، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأمصار، فرجعت إلى منزلي وخفته -وكان شاباً مقداماً فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته؛ فجاءني ماكنت أحذر وما استيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت أثارهم أحاديث إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم أو حاسد على نعمة. فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهرو أخر من بني النجار -وكان أبو بكر قضى للنجار على الفهر في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجار- فأرسل الفهري إلى النجار وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفراً! أما رأيتني سألت أياماً في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي علي اخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى، وليس يلزمني قولهما. فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، إذهب فلاحق لك؛ فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن نقيده من أبي بكر؛ فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا أفعل، رجل اصتنعه أهل بيتي؛ ولكني أوليك المدينة. قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قوداً. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتاباً: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم بن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه. فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن: ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه ! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء. فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومي هذا، واليوم أقرب النساء! مقتل شوذب الخارجي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله: قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب -فيما ذكر معمر بن المثنى- عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلي محمد بن جيرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسول شوذب، ولم يعلم بموت عمر،فلما رأوا أن محمد بن جرير يستعد للحرب،أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسول شوذب! فأرسل إليهم محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة - قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح. قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في أهل القبلة القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح محمد بن جرير في أستة، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صار عليه عمر، وأن قد مات. فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه كم قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفراً فيهم هدبة اليشكري؛ ابن عم بسطام - وكان عابداً -وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان - وكان فاضلاً عندهم - فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولى يرثيهم:

تركنا تميماً في الغبار ملحـبـاً             تبكى عليه عرسه وقراشـبـه
وقد أسلمت قيس تميماً ومالكـاً         كما أسلم الشحاج أمس أقاربه
وأقبل من حران يحـمـل راية               يغالب أمر الله والله غالـبـه
فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى       ويا هدب للخصم الألد يحاربه!

ويا هدب كم من ملحم قد أجبـتـه              وقد أسلمت للـرياح جـوالـبـه
وكان أبو شيبان خـير مـقـاتـل                   يرجى ويخشى بأسه من يحاربـه
ففاز ولاقى الله بالـخـير كـلـه                    وخذمه بالسيف في الـلـه اربـه
تزود من دنياه درعـاً ومـغـفـراً                    وعصباً حساماً لم تخنه مضاربـه
واجرد محبوك الـسـراة كـأنـه                     إذا انقضوا في الريش حجن مخالبه

فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي - وكان فارساً - فعقد لع على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة؛ فكسروا أغماد السيوف وحملوا. فكشفوا سعيداً وأصحابه مراراً؛ حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبالكم تفرون! يا أهل الشام يوماً كأيامكم! قال: فحملوا عليهم فطحنوهم طحناً لم يبقوا منهم أحداً، وقتلوا بسطاماً وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخو شمر بن عبد الله يرثيه:

ولقد فجعت بسادة وفـوارس              للحرب سعر من بني شيبان
أعتاقهم ريب الزمان فغالهـم             وتركت فرداً غير ذي إخوان
كمدا تجلجل في فؤادي حسره           كالنار من وجد على الريان
وفوارس باعوا الإله نفوسهم              من يشكر عند الوغى فرسان

وقال حسان بن جعدة يرثيهم:

يا عين أذري دموعاً منك تسجاما            وأبكي صحابة بسطام وبسطامـا
فلن ترى أبداً ماعشت مثـلـهـم              أتقي وأكمل في الأحلام أحلاما
بسيهم قد تأسوا عنـد شـدتـهـم           ولم يريدوا من الأعداء إحجامـا
حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا           فأورثونا منـارات وأعـلامـا
إني لأعلم أن قد أنزلوا غـرفـاً               من الحنان ونالوا ثـم خـدامـا
أسقى الإله بلاداً كان مصرعهـم           فيها سحاباً من الوسمى سجامـا

خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك.

ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك

وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة

قد مضى ذكرى خبر يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة. ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلب ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته.

فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال لأصحابه: لا بل امض بنا ودعه.وأقبل يسير حتى ارتفعفوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن محرمة بن عبد العزيز بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب. فمشى هشام قليلاً، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال: أجيئك به أسيراً أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر:

وسار ابن المهلب لم يعـرج      وعرس ذو القطيفة من كنانه
وياسر والتياسر كان حزمـاً       ولم يقرب قصور القطقطانة

ذو القطيفة هو محمد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن  أبي معيط، وهو أبو قطيفة؛ وإنما سما ذا القطيفة، لنه كان كثير شعر اللحي والوجه والصدر. ومحمد يقال له ذو الشامة. فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي. وكان عدي بن أرطاة رجلاً من بني فزارة. وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميداً فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمد بن المهلب - ولم يكن ممن حبس - رجالاً وفتية من أهل بيته وناساً من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلاً، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو التكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة. فقال أبو منقر - رجل من قيس بن ثعلبة -: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، فدعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية - والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة - وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماساً، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعاً. قال هشام عب أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه محمد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، واخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن أدفع إلى إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك إياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بم عبيد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطاً على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس؛ فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول: لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهماً إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك:

أظن رجال الدرهمين يسوقهـم            إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان في قعر بيته            وأيقن أن الأمر لا شك واقـع

وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس؛ فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك:

تفرقت الحمـراء إذ صـاح دارس           ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيساً عن عـدى مـلامة       ألا صبروا حتى تكـون مـلاحـم

وخرج بزبد بن المهلب حين أجمع الناس له الناس حتى نزل جبانة بني يشكر - وهو المنصف فيما بينه وبين القصر - وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة من بني نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه فوقع؛ فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك. وانهزموا، وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر، فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث نب مصرف الأودي- وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج - وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك: إني أرى النشاب يقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم أغلقوا عليه ثياباً. ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي - فجاء يشتد إلى الباب هو واصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعاً على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، وأتى بعدي ابن أرطاة، فهنئ وهو يبتسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فوالله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، الأخرى أني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقائك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم يمنعوك شيئاً طلبت الأمان على نفسك وأهلك ومالك. فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي؛ فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور أن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك؛ وأما قولك: إن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ فوالله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دمائهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، ولن يجوزن لي عظيماً من سلطانهم، على أن أضع الحرب بيني وبينهم لفعلوا؛ فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخبارنا إليهم. وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك. وأم قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل؛ فوالله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح؛ فما كان ذلك منك إلا عجزاً وفضلاً؛ فانطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما حبسي ليس إياك لحبسك بني المهلب ويضييقك عليهم فيما منا نسألك التسهيل فيع عليهم، فلم تكن تألوا ما عسرت وضيقت وخالفت؛ فكأنه لهذا القول حين سمعه امن على نفسه، واخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه. وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد عدى مصطفون فاعتزل ومعه الناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع. ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رؤوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق:

فداء لقوم من تمـيم تـتـابـعـوا               إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع
أحكم حرورى من الـدين مـارق              أضل وأغوى من حمار مـجـدع
فأجابه خليفة الأقطع.

وما وجوهها نحوه عـن وفـادة                  ولا نهزة يرجى بها خير مطمع
ولكنهم راحوا إليهـا وأدلـجـوا                   بأقرع أستاه ترى يوم مـقـرع
وهم من حذار اقوم أن يلحقوا بهم           لهم نزلة في كل خميس وأربع

وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هارباً من يزيد بن المهلب، فلقي خالد عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء أراده، فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر فخلا بهما حين رأى معها حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟ فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئاً، ولا يصنعه بكما؛ قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عدياً، فارجعا أيها الرجلان. ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: غربه عنك، واملا لينصرف. ومضى الحواري إلى بزبد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثما به! فإن يزيد قابل منكما؛ وإن هذا واهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته؛ فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملاً عليها. فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: إن جهاد من خالفك أحب إلي من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن يوجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعاً، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه. وبعث يزيد بن عبد الملك رجالاً من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب:

لعل عينـي أن تـرى يزيدا             يقود جيشاً حجفـلا شـديدا
تسمع لـلأرض بـه وئيدا               لا برماً هدا ولا حـسـودا
ولا جباناً في الوغى رعديدا          ترى ذوي التاج له سجودا
مكفرين خاشـعـين قـودا              وآخرين رحـبـوا وفـودا
لا ينقض العهد ولا المعهودا            من نفر كانوا هجاناً صـيدا
ترى لهم في كل يوم عـيدا            من الأعادي جزرا مقصودا

ثم إن القطاني سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس؛ جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عد الله الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة. واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلاً يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟ وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فقال لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وهاهو ذا قريب؛ فما شئتم. ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت وأحقه بذلك؛ وإن تكن الأخرى فوالله مالك في أن يغشانا ما يعيرنا من البلاء راحة. فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك:

أم تر دوسراً منعت أخـاهـا             وقد حشدت لتقتلـه تـمـيم
رأوا من دونه الزرق العوالي           وحياً ما يباح لـهـم حـريم
شنوعتها وعمران بن حـزم          هناك المجد والحسب الصميم
فما حملوا ولكن نهنهـتـهـم           رماح الأزد والعز الـقـديم
رددنا مدركاً بمـرد صـدق                وليس بوجهه منكم كـلـوم
وخيل كالقداح مـسـومـات             لدى أرض مغانيها الجمـيم
عليها كـل أصـيد دوسـري              عزيز لا يفـــر ولا يريم
بهم تستعتب السفهاء حـتـى          ترى السفهاء تردعها الحلوم

قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويحث على الحهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم.

قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر. قال: فسمعته يذكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك والياً ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك. قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه وأجلسناه؛ فوالله ما نشك أنه سمعه؛ ولكنه لم يلتفت أليه ومضى في خطبته.

قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن أنس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! فوالله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضاً. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خرو يزيد، وهم يقولون: يدعون يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم. فلما غضب غضبة نصب قصباً، ثم وضع عليها خرقاً، ثم قال: أني قد خالفتهم فخالفوهم. قال هؤلاء: نعم. وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من أصحابه ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتى نزل واسطاً، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضاً فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنوا من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينفضون إليك وفي يديك القلاع والحصون. فقال: ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا؛ إنما تريدون أن تجعلوني طائراً على رأس جبل. فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلاً عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلاً فعجز عنك؛ فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلى عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي؛ سرح مع أهل بيتك خيلاً من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصناً من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جنداً من جنودك بالجزيزة؛ ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في أرض رفيغة السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك، فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي، فلما نزل واسطاً أقام بها أياماً يسيرة. قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك ابن قيس الفهري، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال محمد بن عمر. وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.