المجلد السادس - ثم دخلت سنة اثنتين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة اثنتين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه. وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر.

ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن ا لمهلب ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر. فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشوفهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد بالبصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي. فلما انكشف أهل الشام تلك الإنكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك؛ إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث. قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف بن بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل:

تبكي على المنتوف بكر بن وائل         وتنهى عن ابن مسمع من بكاهما
غلامين شبا في الحروب وأدركا            كرام المساعي قبل وصل لحاهما
ولو كان حياً مالك وابن مـالـك              إذاً أوقدوا نارين يعلو سناهـمـا

وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان:

نبكي على المنتوف في نصر قومه         ولسنا نبكي الشـائدين أبـاهـمـا
أراد فناء الحي بـكـر بـن وائل                  فعز تميم لو أصيب فـنـاهـمـا

فلا لقيا روحاً من اللـه سـاعة               ولا رقأت عينا شجي بكاهمـا
أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما          وقد لقيا بالغش فينا رداهـمـا

وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلىأخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى -وكان الجسر بينه وبينه- ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إ ليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم. وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي وبعث على ربع مذ حج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعاً مع المفضل بن المهلب.

قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال: والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا ألف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفاً. والله لوددت أن مكانهم ا لساعة معي من بخراسان من قومي قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم، ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجراده الصفراء -يعني مسلمة بن عبد الملك-وعاقر ناقة ثمود؛ يعني العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية -والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه؛ فبلغني أن ليس همهما إلا التماس في الأرض، والله لو جاء أهل الأرض جميعاً وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم. قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن محمد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل. قال: ودخل علينا عامر بن العميشل -رجل من الأزد- قد جمع جموعاً فأتاه فبايعه؛ فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى ألا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبي جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصاداً لتجس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث عبد الحميد بعثاً من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة. فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثاً هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأرذي، فلما قدم أثنى عليه، وقال: هذا رجل لأهل بيته طاعة وبلاء، ضموا إليه من كان ها هنا من أهل الكوفة. وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة - وهو ذو الشامة - مكانه. فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثنى عشر ألف رجل، فأبعثم مع محمد ابن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس. فنناجزهم. فإني أرجوعند ذلك أن ينصرنا الله عليهم. قال السميدع: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد زعموا أنهم قايلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. قال أبو رؤبة - وكان رأس طائفة من المرجئة. ومعه أصحاب له: صدق. هكذا ينبغي. قال يزيد: ويحكم ! أتصدقون بني أمية! أنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا! إنهم يقولون لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون ألا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه؛ لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم؛ حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، إبدءوهم بها، إني قد لقيت بني مروان فوالله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غوراً من هذه الجرادة الصفراء - يعني مسلمة- قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك. حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام: أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضاً على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض؛ إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقى، فمن كان منكم خفياً فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفاً؛ وكفى له بها من الدنيا خلفاً؛ ومن كان منكم معروفاً شريفاً، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواهاً لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غداً - يعني يوم القيامة - القرير عيناً، الكريم عند الله مآباً. فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيباً كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه؛ أينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلى وعلوج فرات البصرة - قوماً ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا - أو لأنحين عليه مبرداً خشناً. فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذاً إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضاً مع غير، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضاً دوني! فبلغ ذلك مروان بن الهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا. ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب. وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع هو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل. وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب ، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل عباس على ميمنته سيف بن هاني الهمداني. وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد. قال أبو مخنف: فحدثني الغنوى - قال هشام: وأظن الغنوى العلاء ابن المنهال - أن رجلاً من الشام خرج فدعاه إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد، فبرز له محمد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه محمد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل محمد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك. قال: فذكر لأنه حيان النبطي. قال: فلما دنى الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه؛ وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل هم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا: أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال: اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فوالله إني لأرجو ألا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبداً؛ دعوهم يرحمهم الله، غنم عبدا في نواحيها الذئب، وكان يزيد لايحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بنأبي العاص- وأمه ابنت الزبرقان السعدي- آتاه وهو بواسط قبل أن يصل إلى العقر، فقال:

إن بني مروان قد باد مهلكهـم         فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر

قال يزيد: ما شعرت. قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي:

فعش ملكاً أو مت كريماً وإن تمت          وسيفك مشهور بكفـك تـعـذر

قال: أما هذا فعسى. ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، وأناذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك؛ قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيباً قد قتل قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمى الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك: قال: لا خبر في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة؛ فوالله ما ازددت له إلا بغضاً، امضوا قدماً. فعلمنا والله أن قد استقتل ؛ فأخذ من يكره القتال ينقص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه، فجاء أبو رؤبة المرجئ، فقال: ذهب الناس - وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه - فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط؛ فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقاً؟ فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها؛ جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالاً معنا. قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني - قال أبو جعفر أخطأ هذا؛ هو للأعشى -:

أبالموت خشتنى عباد وإنـمـا          رأيت منايا الناس يشقى ذليلها
فما ميتة إن متها غير عاجـز             بعار إذا ما غالت النفس غولها

وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره؛ حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه محمد بن المهلب. وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناساً، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق. فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد؛ يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه إنه هو قتلني. ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعاً إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني. وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟ فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس؛ وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتاً إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم.

قال: ثم اقتتلنا ساعة؛ فكأني أنظر إلى عامر بن العميشل الأرذي وهو يضرب بسيفه، ويقول:

 قد علمت أم الصبي المولـود         أني بنصل السيف غير رعديد  

قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة؛ والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولا لئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يأتين أهل العراق اليوم من قبلكم. أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار. قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك. قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له: ما تصنع ها هنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ وأخبر الناس بعضهم بعضاً، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلاً من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه. قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنل مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شئ أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي. وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحواً من ثلثمائة رجل، فسرحهم مسلمة إلى محمد بن عمرو بن الوليد فحبسهم. وكان على شرطه العريان بن الهيثم. وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو: أن اضرب رقاب الأسراء، فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين. قال: فقام نحو من ثلاثين رجلاً من بني تميم، فقالوا: نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى محمد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم. قال أبو مخنف: فحدثني نجيج أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله إني لأنظر إليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمةفيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم. فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم:

لعمري لقد خاضت معيط دماءنا              بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل
وما حمل الأقوام أعظم مـن دم               حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل
حقنتم دماء المصلتين علـيكـم                وجر على فرسان شيعتك القتل
وقى بهم العريان فرسان قومـه                 فيا عجباً أين الأمان والعـدل!

وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: أبعد بنا، أخرجنا ، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل. ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لا ئمتهم، ولا تكبر عليه.

وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيراً، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أ قبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيراً كانوا في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومحمد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عذرة البصري، وعبد الله بن وائل وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! إنا لا نراك إلا تقتلنا؛ إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة؛ فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن أنس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: مانسيته؛ ولكن لم أكن لأقتله؛ وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه. فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن أرطاة:

ماسرني قتـل الـفـزاري وابـنـه             عديً ولا أحببت قتل ابن مسـمـع
ولـكـنـهـا مــعـــاوي زلة                        وضعت بها أمري على غير موضع

ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأسدي على قندابيل أميراً، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولوقد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيلحتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أماناً، أما إني قد اخترتك لأهل بيتي من بين قومي؛ فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيماناً غلاظاً ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي - وكان يزيد استعمله على البحرين - فقال لهم: أشير عليكم ألا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن أن يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان. فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب. وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال؛ فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع أهل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وأنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيلن أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمو بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي أثر الفل. فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي ومحمد بن إسحاق ابن محمد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيراً، وأخذت سرية المفضل العلية، وجرح عثمان بن إسحاق بن محمد بن الاشعث جراحة شديدة وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا؛ منهم مالك بن إبراهيم بن الاشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن محمد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الامان محمد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته - فأمنه، فلما آتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائماً، فقال: صاحب خلاف شقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد؛ ما كنت بأهل أن تؤمن؛ قال: ثم انطلق. وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل - وشراحيل يلقب رستم الحضرمي - فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن: أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه ! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طوعا. قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشف أباً وجداً، وأسوأ أثراً من أهل الشام من الورد بن عبد الله؛ فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسداً من أن يعرف صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره. ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدى، فرفع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم. فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يريد أن ينصرف إلى النساء فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهم هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهم منهم. قال: فرده عن ذلك ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا أبا عيين ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكأنه جالس معي يحدثني. وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهو في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف،قال: هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئاً وخلا سبيلهم، إلا تسعة فتية منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه:

ألا يا هند طال على لـيلـي             وعاد قصيره ليلى تمـامـا
كأني حين حلقـت الـثـريا               سقيت لعاب أسود أو سماما
أمر على حلو الـعـيش يوم              من الأيام شيبنـي غـلامـاً
مصاب بني أبيك وغبت عنهم           فلم أشهدهم ومضوا كرامـا
فلا واللـه لا أنـسـى يزيداً                ولا القتلى التي قتلت حراما
فعلي أبـو بـأخـيك يومـاً                  يزيداً أو أبوء به هـشـامـا
وعلي أن أقود الخيل شعـثـاً            جوازب ضمراً تقص الإكاما
قأصبحهن حمير من قـريب               وعكا أو أرع بهما جـذامـا
ونسقي مذحجاً والحي كلـبـاً           من الذيفان أنفاسـاً قـوامـا
عشائرنا التي تبغي عـلـينـا            تجربنا زكا عاماً فـعـامـا
ولولاهم وما جلبوا عـلـينـا             لأصبح وسطنا ملكا همامـا

وقال أيضاً يرثي يزيد بن المهلب:

أبى طول هذا الليل أن يتصرما        وهاج لك الهم الفؤاد المتيمـا
أرقت ولم تأرق معي أم خالـد         وقد أرقت عيناي حولاً مجرما

على هالك هد الـعـشـيرة فـقـده                 دعته المنايا فاستجـاب وسـلـمـا
على ملك يا صاح بالعقر جـبـنـت                  كتائبه واستورد الموت مـعـلـمـا
أصيب ولم أشهد ولو كنت شـاهـداً                تسليت إن لم يجمع الحي مـأتـمـا
وفي غير الأيام يا هند فـاعـلـمـي                 لطالب وتر نـظـرة إن تـلـومـا
فعلي إن مالـت بـي الـريح مـيلة                  على ابن أبـي ذبـان أن يتـنـدمـا
أمسلم إن يقدر عـلـيك رمـاحـنـا                  نذقك بها قئ الأسـاود مـسـلـمـا
وإن نلق للعباس في الدهر عـثـرة                 نكافئه بالـيوم الـذي كـان قـدمـا
قصاصاً ولا نعدو الذي كان قد أتـى                  إلينا وإن كان ابن مروان أظـلـمـا
ستعلم إن زلت بـك الـنـعـل زلة                 nbsp;   وأظهر أقوام حـياء مـجـمـجـا
من الظالم الجاني على أهـل بـيتـه               إذا أحصرت أسباب أمر وأبـهـمـا
وإن لعطافون بالحـلـم بـعـد مـا                     نرى الجهل من فرط اللئيم تكـرمـا
وإنا لحلالون بـالـثـغـر لا نـرى                         به ساكناً إلا الخميس العـرمـرمـا
نرى أن للجيران حـاجـاً وحـرمة                    إذا الناس لم يرعوا لذى الجار محرما
وإنا لنقري الضيف من قمع الـذرى                  إذا كان رفد الرافـدين تـجـثـمـا
وراحت بصـراد مـلـث جـلـيده                        على الطلح أرماكاً من الشهب صيما
أبونا أبو الأنصار عمرو بن عـامـر                     وهم ولدوا عوفاً وكعباً وأسـلـمـا
وقد كان في غسـان مـجـد يعـده                     وعادية كانت من المجد معـظـمـا

ولاية مسلمة بن عبد الملك على العراق وخراسان فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة محمد بم عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب- فيما قيل - شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملاه عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصناً بكويفة، وتدخل من تحتاج إليه! فوالله لو رماك أهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا؛ ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك. ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرجمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطة والأحداث. ذكر استعمال مسامة سعيد خذينة على خراسان.

قال أبو حعفر: وفي هذه السنة وحه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز اب الحارث بن الحكم بن أبي العاص وهو الذي يقام له خذينة - وإنما لقب بذلك - فيما ذكر - أنه كان رجلاً ليناً يهلاً متنعماً، قدم خراسان على بختيه معلقاً سكيناً في منطقته، فدخل عليه ملك أبغل، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة فلما خر من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينية، لمته سكينية؛ فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجاً بابنة مسلمة. ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سورة ابن الحر من بني دار، فقدمها قبل سعيد - فيما ذكر - بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في وخمسة وعشرين رجلاً من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهراً، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحاً،ولا أسمع فيكم أنة. فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكانت على الحرب. ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله  القشيري، فقال له سعيد: قد رفع علهم أن عندهم أموالاً من الخوارج. قال: فأنا أضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها. ثم إن سعيداً رفع إليه - فيما ذكر علي بن محمد - أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد أختانوها من فئ المسلمين. فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم. فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمرو به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حداً! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتى سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانواط في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه. وقال عبد الحميد بن دثار - أو عبد الملك بن دثار- والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا من العذاب جهماً، وعبد العزيز بن عمر والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقوماً حتى أشرفوا على الموت قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد بإخراج من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي. وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند.

ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبى وسبب هذه الوقعة وكيف كانت: ذكر علي بن محمد عن الذي تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قوماً من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يوماً وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي. فأثنى عليهم القوم خيراً، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فأما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم.

قال: فاتكأ سعيد ثم جلس، فقال:" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قوموا.

قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها. وضعف الناس سعيداً وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك، ووجههم إلى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي. وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها. فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفاً، وأعطوهم سبعة عشر رجلاً رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير: لو كان ها هنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم. قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف - وهو عميرة الثريد - وغالب بن المهاجر الطائي - وهو أبي العباس الطوسي - وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة وأبو المهاجر بن دارة من غطفان، وحليس الشيباني، والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان. فقال المسيب بن بشر لما عسكروا: إنكم تقدمون على حلبة الترك، حلبة خاقان وغيرهم، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فانصرف عنه ألف وثلثمائة، وسار في الباقين، فلما سار فرسخاً قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخاً آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف. ثم سار - وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي - حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فآتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: إنه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلثمائة مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفاً؛ فأعطوهم سبعة عشر رجلاً؛ ليكونوا رهناً في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم؛ فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن. قال: وكان فيهم نهشاً بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي وميعادهم أن يقاتلوهم غداً أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلاً من العرب ورجلاً من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم. فأقبلا في ليلة مظلمة؛ وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر؛ فليس يصل إليه أحد. ودنوا من القصر؛ فصاح بهما الربيئة، فقلا: لا تصح وادعوا لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد آتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين؛ فهل عندكم امتناع ليلتك وغداً؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا؛ حتى نموت جميعاً غداً فرجعا إلى المسيب، فأخبراه، فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب فلم يفارقه أحد؛ وبايعوه على الموت. فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصيناً، فلما كان بينهم وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم؛ فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الأحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: أكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا محمد؛ ولا تتبعوا مولياً، وعيكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، القليل الصابر خير من الكثير الفشل؛ وليست بكم قلة، فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وأن كثر أهله. قال: وعبأهم وجعل على الميمنة كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلاً من ربيعة يقال له ثابت قطنة وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومحمد بن قيس الغنوة- ويقال: محمد بن قيس العنبري - وزياد الأصبهاني، ومهاوية بن الحجاج، وثابت قطنة. فقات البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيده حتى استشهد. واتشهد أيضاً محمد بن قيس العنبري أو الغنوة وشبيب بن الحجاج الطائي. قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيماً من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم؛ فأنهم لا يدرون من الرعب، اتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئاً من المتاع إلا المال، ولا تحملوا من يقدر على المشي. وقال المسيب: من حمل امرأة او صبية أو ضعيفأ حسبة فأجره على الله، ومن أبي فلة أربعون درهماً، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فاقصدوا جميعاً القصر فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة. فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس؛ فإذا هي أفرس من رجل، فتناول فقيمي بيد أبنها، غلاماً صغيراً، فوضعه بين يديه، وآتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وآتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم. فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟ قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه فآتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشغب مع الجنيد. قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحداً، رأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاؤوا من الإنس، فقال ثابت قطنة:

فددت نفسي فوارس من تميم         غداة الروع في ضنك المقام
فددت نفسي فوارس أكنفوني          على الأعداء في رهج القتام
بقصر الباهلي وقـد رأونـي               أحامي حيث ضمن به المحام
بسيفي بعد حطم الرمح قدمـاً          أذودهم بذي شطب جـسـام
أكر عليهم اليحـمـوم كـرا ككر            الشرب آنية الـمـدام
أكر به لدى الغمرات حتـى               تجلت لا يضيق بها مقامـي
فلولا الله لـيس لـه شـريك            وضربى قونس الملك الهمام
إذاً لسعت النساء بنـي دثـار         أما الترك بـادية الـخـدام!
فمن مثل المسيب في تـمـيم       أبى بشر كقدامة الحـمـام

وقال جرير يذكر المسيب:

لولا حماية يربـوع نـسـاءكـم                كانت لغيركم منهـن أطـهـار
حامى المسيب والخيلان في رهج        إذ مازن ثم لا يحمى لهـا جـار
إذ لا عقال يحامى عن ذماركـم           ولا زرارة يحـمـيهـا ووزار

قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر؛ فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه. قال: وقال عبد الله بن محمد عن الرجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل. ذكر الخبرعن غزو سعيد خذينة السغد وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وعزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين. ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة: وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة - فيما ذكر - إن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيداً وقالوا: تركت الغزو فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقي الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم؛ فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم؛ أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم! وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم. فعبروا، ورأيهم الترك فأكمنوا كميناً، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فاتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإن أن قطعتم أبادوكم. فاصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم فلم يتبعوهم، فقال قوم: قتل يومئذ شعبة بن زهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم من أهل السغد. فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين- والمسلحة يومئذ من بني تميم فما شعروا إلا بالترك معهم خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن زهير، فقاتلهم شعبة فقتل؛ أعجلوه عن الركوب. وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهو تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخطاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير فأبكت أهل العسكر. وقتل نحو من خمسين رجلاً وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من آتاهم لما آتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب؛ وقد قتل وركب الخليل بن أوس العبشري أحد بني ظالم وهو شاب- ونادى: يا بني تميم أنا الخليل؛ إلي! فانضمت إليه جماعة - فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ حتى ولى نصر بن سيار؛ ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس. وذكر علي بن محمد، عن شيوخه؛ أنسورة بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وأنصرف قال: يا نبطي قال: أمبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنف الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر:

أن أبا الهياج أريحـى       للريح في أثوابه دوي

قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإيزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير ناجذ أهل السغد فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخاناً ساطعاً، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك. قال: فناوشهم، فانهزموا فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم؛ إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالاً من بني تميم إلى ورغسر، فقال: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم - وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا ردذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعراً:

سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة           وأيرك مسلول وسيفك مغمد
وأنت لمن عاديت عرس خفية          وأنت علينا كالحسام المهنـد
فلله در السغد لما تحـزبـوا              ويا عجباً من كيدك المتردد!

قال: فقال سورة بن الحر لعيد - وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك -: إن هذا العبد أعد الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان؛ ثم يتحصن في بعض هذه القلاع. فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحداً. قم مكث أياماً ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، والقى في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس أربعة فراسخ إلى باركث؛ كأنه يطلب عدواً، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعاً إلى مروان بن محمد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال:

زعمت خزيمة أنني ملط         لخذينة المرآة والمشـط
ومجامر ومكاحل جعلت           ومعازف وبخدها نقـط
أفذاك أم زغف مضاعفة            ومهند من شانه الـقـط
لمقرس ذكر أخي ثـقة             لم يغذه التأنيث واللقـط
أغبضت أن بات ابن أمكم           بهم وأن أباكم سـقـط
إني رأيت نبالهم كسـيت          ريش اللؤام ونبلكم مرط
ورأيتهم جعلوا مكاسرهم           عند الندى وأنتم خـلـط