ثم دخلت سنة تسع ومائة
ذكر الأحداث التي كانت فيها
فممّا كان فيها من ذلك غزوة عبد الله بن
عقبة بن نافع الفهريّ على جيش في البحر وغزوة معاوية بن هشام أرض الروم،
ففتح حصناً بها يقال له طيبة، وأصيب معه قوم من أهل أنطاكية.
خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيديّ
وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي؛ قتله مالك بن المنذر بن الجارود.
ذكر الخبر عن ذلك وكان سبب ذلك - فيما ذكر
- أن خالد بن عبد الله شهد عمر بن يزيد أيام حرب يزيد بن المهلب، فأعجب به
يزيد بن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالداً، فأمر مالك بن
المنذر وهو على شرطة البصرة أن يعظّم عمر بن يزيد، ولا يعصى له أمراً حتى
يعرّفه الناس، ثم أقبل يعتلّ عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يوماً عبد
الأعلى بن عبد الله بن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بن يزيد: تفتري
على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله.
غزو غورين
وفيها غزا أسد بن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة:
أرى أسداً في الحرب إذ نزلت به
وقارع أهل الحرب فاز وأوجبـا
تناول أرض السبل، خاقـان ردؤه
فحرق ما استعصى عليه وخربـا
أتتك وفود الترك ما بـين كـابـل
وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا
فما يغمر الأعداء من لـيث غـابة
أبي ضاريات حرشوه فعـقـبـا
أزبّ كأنّ الورس فـوق ذراعـه
كريه المحيا قد أسـن وجـربـا
ألم يك في الحصن المبارك عصمة
لجندك إذ هاب الجبان وأرهـبـا!
بنى لك عبد الله حسنـاً ورثـتـه
قديماً إذا عد القـديم وأنـجـبـا
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن خراسان وصرف أخاه أسداً عنها.
ذكر الخبر عن عزل هشام خالداً وأخاه عن خراسان:
وكان سبب ذلك أن أسداً أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد - فيما ذكر عليّ بن محمد لبعض الأزد: أدخلني علي ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه - وهو عامل لأسد على بلخ - فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول:
إن تنقض الأزد حلفاً كان أكده
في سالف الدهر عباد ومسعود
ومالك وسـويد أكـداه مـعـاً
لما تجرد فيهـا أي تـجـريد
حتى تنادوا أتاك الله ضـاحـية
وفي الجلود من الإيقاع نقصيد
قال: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول:
الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ما بيننا نكث ولا تبـديل
قال: صدقت، وضحك. وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة.
قال: وتعصب على نصر بن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعة فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والغب والفساد. اللهم فرّق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقلّ من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان.
ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه
الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتاباً من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه
ذكر نصر بن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامديّ وسورة بن الحرّ الأبانيّ -
أبان بن دارم - والبختري بن أبي درهم من بني الحارث بن عبّاد، فدعاهم
فأنّبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته
ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدوّ مبطل، وأن يجمع بينهم وبين
من قرفهم بالباطل. فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بن
نعيم، فإذا رجل عظيم البطن، أرسح؛ فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزلّ عن
موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداءاً له فيؤززره. فأومى إليه أن افعل،
فدنا منه فأزّره - ويقال بل أزّره أبو نميلة - وقال له: اتزر أبا زهير، فإن
الأمير والٍ مؤدب. ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه.
فلما فرغ قال: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه؛ وقد كان ضربه قبل -
فقال: هذا تيس بني حمان؛ وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بن مالك
بن مسلمة بن يزيد بن حجر بن خيسق بن حمسان بن كعب بن سعد. وقيل إنه خلفهم
بعد الضّرب، ودفعهم إلى عبد ربه بن أبي صالح مولى بني سليم - وكان من الحرس
- وعيسى بن أبي يريق، ووجههم إلى خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب
عليه؛ فكان ابن أبي بريق كلما نبت شعر أحدههم حلقه، وكان البختريّ بن أبي
درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهراً - يعني نصر بن سيار لما كان بينهما
بالبروقان - فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم
نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسداً وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال
عرفجة التميمي:
فكيف وأنصار الخـلـيفة كـلـهـم
عناة وأعداء الخـلـيفة تـطـلـق!
بكيت ولم أملك دموعي وحـق لـي
ونصر شهاب الحرب في الغل موثق
وقال نصر:
بعثت بالعتاب في غير ذنـب
في
كتاب تلـوم أم تـمـيم
إن أكن موثقاً أسيراً لـديهـم
في هموم وكربة وسـهـوم
رهن قسر فما وجدت بـلاء
كإسار الكرام عند الـلـئيم
أبلغ المدعين قسراً وقـسـر
أهل عود القناة ذات الوصوم
هل فطمتم عن الخيانة والغد
ر أم أنتم كالحاكر المستديم؟
وقال الفرزدق:
أخالد لولا الـلـه لـم تـعـط طـاعة
ولولا بنو
مروان لم توثقـوا نـصـرا
إذاً لـلـقـيتـم دون شـد وثـاقــه
بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا
وخطب أسد بن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقيتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم.
فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية، كتب
هشام إلى خالد بن عبد الله: اعزل أخاك، فعزله فاستأذن له في الحجّ، فقفل
أسد إلى العراق ومعه دهاقين خراسان، في شهر رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف
أسد على خراسان الحكم بن عوانة الكلبيّ، فأقام الحكم صيفية، فلم يغز.
ذكر الخبر عن دعاة بني العباس
وذكر عليّ بن محمد أنّ أوّل من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بن عبد الله الأولى، بعثه محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر. ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب؛ لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة.
ويقال: أوّل من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن عليّ حرب بن عثمان، مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ.
قال: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، ذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر؛ فكانت بينهم منازعة؛ غالب يفضّل آل أبي طالب وزياد يفضّل بني العباس. ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بن عقيل الخزاعي وإبراهيم بن الخطاب العدويّ.
قال: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بن عبد الله، فدعا به - وكان معه رجل يكنى أبا موسى - فلما نظر إليه أسد، قال له: أعرّفك؟ قال: نعم، قال له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قال: نعم، قال لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرّقت مالي على الناس، فإذا صار إليّ خرجت. قال له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسداً، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قال: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قال: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فأحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض. فازداد غضباً، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك. فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينجُ منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه.
وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يحط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبّر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه، فأعطى أبا يعقوب سيفاً، فخرج في سراويل، والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين.
وقال آخرون: عرض عليهم البراءة، فمن تبرّأ منهم مما رفع عليه خلى سبيله، فأبى البراءة ثمانية منهم، وتبرأ اثنان.
فلما كان الغد أقبل أحدههما وأسد في مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة، فقال: أليس هذا أسيرنا بالأمس! فأتاه، فقال له: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فأشرفوا به على السوق، وهو يقول: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ فدعا أسد بسيف بخاراخداه، فضرب عنقه بيده قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيراً، فنزل على أبي النجم، فكان يأتيه الذين لقوا زياداً فيحدّثهم ويدعوهم، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أمياً، فقدم عليه خدّاش، وهو في قرية تدعى مرعم، فغلب كثيراً على أمره. ويقال: كان اسمه عمار فسمّى خدّاشاً، لأنه خَدش الدين.
وكان أسد استعمل عيسى بن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجّهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسداً، فقال:
أرى كل قوم يعرفون أبـاهـم
وأبو بجيلة بينـهـم يتـذبـذب
إني وجدت أبي أباك فلا تـكـن
إلباً عليّ مع العدوّ تـجـلـب
أرمي بسهمي من رماك بسهمه
وعدو من عاديت غير مكـذب
أسد بن عبد الله جلـل عـفـوه
أهل الذنوب فكيف من لم يذنب!
أجعلتني للبرجـمـي حـقـيبة
والبرجمي هو اللئيم المحقـب
عبد إذا استبق الـكـرام رأيتـه
يأتي سكيناً حاملاً في الموكـب
إني أعوذ بقبـر كـرز أن أرى
تبعاً لعبد من تميم مـحـقـب
ولاية أشرس بن عبد الله على خراسان
وفي هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس ابن عبد الله السلميّ، فذكر عليّ بن محمد، عن أبي الذيّال العدويّ ومحمد بن حمزة، عن طرخان ومحمد بن الصلت الثقفيّ أن هشام بن عبد الملك عزل أسد بن عبد الله عن خراسان، واستعمل اشرس بن عبد الله السلميّ عليها، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسريّ - وكان أشرس فاضلاً خيّراً، وكانوا يسمونه الكامل لفضله عندهم - فسار إلى خراسان، فلما قدمها فرحوا بقدومه، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أمية اليشكريّ ثم عزله وولّى السمط، واستقضى على مرو أبا المبارك الكنديّ، فلم يكن له علم بالقضاء، فاستشار مقاتل بن حيان، فأشار عليه مقاتل بمحمد بن زيد فاستقضاه، فلم يزل قاضياً حتى عزل أشرس.
وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان واستعمل
على الرابطة عبد الملك بن دثار الباهليّ، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها
بنفسه.
قال: وكان أشرس لما قدم خراسان كبّر الناس فرحاً به، فقال رجل:
لقد سمع الرحمن تكبـير أمة
غداة أتاها من سليم إمامهـا
إمام هدى وقوى لهم أمرهم به
وكانت عجافاً ما تمخ عظامها
وركب حين قدم حماراً، فقال له حيان النبيطّ: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تكون والي خراسان فاركب الخيل، وشدّ حزام فرسك، وألزم السوط خاصرته حتى تقدم النار، وإلاّ فارجع. قال: أرجع إذن، ولا أقتحم النار يا حيّان. ثم أقام وركب الخيل.
قال عليّ: وقال يحيى بن حضين: رأيت في المنام قبل قدوم أشرس قائلاً يقول: أتاكم الوعر الصدر، العضيف الناهضة، المشئوم الطائر، فانتبهت فزعاً ورأيت في الليلة الثانية: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، الخائن قومه؛ غر، ثم قال:
لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم
فهل من تلاف قبل دوس القبائل!
فإن صرفت عنهم به فلـعـلـه
وإلا يكونوا من أحـاديث قـائل
وكان أشرس يلقب جغراً بخراسان.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وقال الواقديّ: خطب الناس إبراهيم بن هشام بمنىً في هذه السنة الغد من يوم النحر بعد الظهر. فقال سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحداً أعلم مني. فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية؛ أواجبة هي أم لا؟ فما درى أيّ شيء يقول له! فنزل.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هسام، وعلى البصرة والكوفة خالد بن عبد الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة اليزني، وعلى شرطتها بلال بن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله الأنصاريّ؛ من قبل خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله.