ثم دخلت سنة عشر ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك التّرك؛ سار إليهم نحو باب اللاّن حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريباً من شهر، وأصابهم مطر شديد، فهزم الله خاقان، فانصرف، فرجع مسلمة فسلك على مسجد ذي القرنين.
وفيها غزا - فيما ذكر - معاوية بن هشام
أرض الروم، ففتح صماله وفيها غزا الصائفة عبدالله بن عقبة الفهريّ. وكان
على جيش البحر - فيما ذكر الواقديّ - عبد الرحمن بن معاوية بن حديج.وفي هذه
السنة دعا الأشرس أهل الذّمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام،
على أن موضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية،
وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب.
ذكر الخبر عمّا كان من أمر أشرس
وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك
ذكر أن الأشرس قال في عمله بخرسان: ابغوني رجلاً له ورع وفضل أوجهّه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام. فأشاروا عليه بأبي الصّيداء صالح بن طريف، مولى بني ضبّة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بن عمران التميميّ، فقال أبو الصيداء: أخرج على شريطة أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال، فقال أشرس: نعم قال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم.
فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبي العمرّطة الكنديّ على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر؛ فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين؛ وقد بلغني أن أهل السُّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام بعوّذاً من الجزية؛ فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه. ثم عزل أشرس ابن أبي العمرّطة عن الخراج، وصيره إلى هانئ بن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئاً ولأشحيذ؛ فقام أبوا الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فجاء دهاقين بخارى إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عرباً؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا؛ واعتزل من أهل السُّغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميميّ والقاسم الشيبانيّ وأبو فاطمة الأزديّ وبشر بن جرموز الضِّبيّ وخالد بن عبد الله النحويّ وبشر بن زنبور الأزديّ وعامر بن قشير - أو بشير الخجنديّ وبيان العنبريّ وإسماعيل بن عقبة، لينصروهم.
قال: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب،
واستعمل مكانه المجشرّ بن مزاحم السلميّ، وضم إليه عميرة بن سعد الشيبانيّ.
قال: فلما قدم المجشَّر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو
وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم
ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر ما كان فبه حقن الدماء. وحمل أبا
الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده؛ فلما أبو الصيداء اجتمع أصحابه
وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقتاوا هانئاً، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس
فيأتينا رأيه فنعمل بأمره. فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج،
فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبِّع الرّؤساء منهم فأخذوا، وحملوا
إلى مرو، وبقي ثابت محبوساً، وأشرك أشرس مع هانئ بن هانئ سليمان بن أبي
السريّ مولى بني عوافة في الخراج، فألحّ هانئ والعمال في جباية الخراج،
واستخفّوا بعظماء العجم، وسلّط المجشر عميررة بن سعد على الدّهاقين،
فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم
من الضعفاء، فكفرت السُّغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة
فيحبس المجشر، حتى قدم نصر بن سيّار والياً على المجسر، فحمل ثابتاً إلى
أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثيّ فحبسه. وكان نصر بن سيّار ألطفه،
وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال:
ما هاج شوقك من نؤي وأحـجـار
ومن رسوم عفاها صوب أمطـار!
لم يبق منـهـا ألام عـرصـتـهـا
ألا شـجـيج وإلا مـوقـد الـنـار
ومائل في ديار الـحـيّ بـعـدهـم
مثل الربيئة في أهدامـه الـعـارى
ديار ليلى قـفـار لا أنـيس بـهـا
دون الحجون وأين الحجن من دارى!
بدلت منها وقد شطّ المـزار بـهـا
وادى المخافة لا يسرى بها السارى
بين السماوة فـي حـزم مـشـرقة
ومـعـنـق دونـنـا آذيه جــار
نقارع الترك مـا تـنـفـك نـائحةٌ
منا ومنهم على ذي نـجـدة شـار
إن كان ظني بنصر صـادقـاً أبـداً
فيما أدبّر من نقـضـي وإمـراري
يصرف الجند حتى يستـفـئ بـهـم
نبهاً عظيماً ويحوي ملـك جـبّـار
وتعثـر الـخـيل فـي الأقـياد آونةً
تحوي النّهاب إلـى طـلاّب أوتـار
حتى يروها دوين الـسـرح بـارقة
فيها لواء كظل الأجدل الـضـاري
لا يمنع الثغـر إلا ذو مـحـافـظة
من الخضـارم سـبّـاق بـأوتـار
إني وإن كنت من جذم الذي نضـرت
منه الفروع وزندي الثاقب الـوارى
لذاكر منك أمراً قد سـبـقـت بـه من
كان قبلك يا نصـر بـن سـيّار
ناضلت عني نضال الحرِّ إذ قصرت
دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديق كـنـت آمـلـه
ألباً على ورثَّ الحبل من جـاري
وما تلَّبست بالأمر الـذي وقـعـوا
به علىّ ولا دنسـت أطـمـاري
ولاعصيت إماماً كـان طـاعـتـه
حقّاً عليَّ ولا قارفت مـن عـار
قال عليّ: وخرج أشرس غازياً فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر، وقّدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل السُّغد وأهل بخارى؛ معهم خاقان والترك، فحصروا قطن بن قتيبة في خندقه، وجعل خاقان ينتخب كل يوم فارساً، فيعبر في قطعة من الترك النهر. وقال قوم: أقحموا دوابّهم عرياً، فعبروا وأغاروا على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر فوجّهه مع عبد الله بن بسطام في الخيل فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنفذوا ما بأيديهم؛ ثم قطع الترك النهر إليهم راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلاً يقال له مسعود - أحد بني حيّان - في سريّة، فلقيهم العدو، فقاتلوهم، فأصيب رجال من المسلمين وهزم مسعود؛ حتى رجع إلى أشرس، فقال بعض شعرائهم:
خابت سريّة مسعود وما غنمت
إلا
أفانين من شدٍّ وتـقـريب
حلُّوا بأرض قفار لا أنيس بها
وهن بالسًّفح أمثال اليعاسـيب
وأقبل العدو، فلما كانوا بالقرب لقيهم المسلمون فقاتلوهم، فجالوا جولة، فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين، ثم كرّ المسلمون وصبروا لهم، فانهزم المشركون. ومضى أشرس بالناس؛ حتى نزل بيكند، فقطع العدوّ عنهم الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومهم ذلك وليلتهم، فأصبحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا، وعطشوا فارتحلوا إلى المدينة التي قطعواعنهم المياه منها، وعلى مقدمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، ولم يبق في صف الرّباب إلا سبعة فكاد ضرار بن حصين يؤسر من الجهد الذي كان به، فحضّ الحارث بن سريج الناس فقال: أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجراً عند الله من الموت عطشاً. فتقدّم الحارث بن سريج وقطن بن قتيبة وإسحاق بن محمد، ابن أخي وكيع، في فوارس من بني تميم وقيس، فقالوا حتى أزالوا الترك عن الماء، فابتدره الناس فشربوا وارتووا.
قال: فمر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهليّ، فقال له: يا عبد الملك، هل لك في أثار الجهاد؟ فقال: أنظرني ريثما أغتسل وأتحنّط، فوقف له حتى خرج ومضيا، فقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت في عدّة من المسلمين؛ منهم صخر بن مسلم بن النعمان العبديّ وعبد الملك بن دثار الباهليّ والوجيه الخراسانيّ والعقار بن عقبة العوديّ. فضم قطن بن قتيبه وإسحاق بن محمد بن حسان خيلاً من بني تميم وقيس؛ تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم فكشفوهم؛ وركبهم المسلمون يقاتلونهم؛ حتى حجزهم الليل، وتفرق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحصر أهلها.
قال عليّ بن محمد، عن عبد الله بن المبارك: حدّثني هشام بن عمارة ابن القعقاع الضبيّ عن فضيل بن غزوان، قال: حدثّني وجيه البنانيّ ونحن نطوف بالبيت، قال: لقينا الترك، فقتلوا منّا قوماً، وصرعت وأنا أنظر إليهم، يجلسون فيستقون حتى انتهوا إلىّ، فقال رجل منهم: دعوه فإن له أثراً هو واطئه، وأجلاً هو بالغه؛ فهذا أثر قد وطئته، وأنا أرجو الشهادة. فرجع إلى خرسان؛ فاستشهد مع ثابت.
قال: فقال الوزاع بن مائق: مرّ بي الوجيه في بلغين يوم أشرس، فقلت: كيف أصبحت يا أبا أسماء؟ قال: أصبحت بين حائر وحائز؛ اللهم لف بين الصفين؛ فخالطا القوم وهو منتكب قوسه وسيفه، مشتمل في طيلسان واستشهد واستشهد الهيثم بن المنخل العبديّ.
قال عليّ عن عبد الله بن المبارك، قال: لما التقى أشرس والترك، قال ثابت قطنة: اللهم إنّي كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة؛ والله لا ينظر إلى بنو أمية مشدوداً في الحديد؛ فحمل وحمل أصحابه؛ فكذب أصحابه ثبت؛ فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم، وضرب فارتثّ؛ فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحتُ ضيفاً لابن بسطام؛ وأمسيت ضيفك؛ فاجعل قراي من ثوابك الجنة.
قال عليّ: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند؛ فلم يجد بها ماء؛ فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه - وكان منزله منهم على ميل - تلقّاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرّجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه. قال فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى؛ فلم يلتقواإلا بعد يومين، ولحق غزوك في تلك الواقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلاً،فصاحوا برسول قطن؛ ولحق بالترك.
قال: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بداً من اللحاق بهم. ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاساً، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معي شيء أتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه. فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلى بالطاس، ففارقه.
قال: وكان على سمرقند نصر بن سيار، وعلى
خراجها عميرة بن سعيد الشيبانيّ، وهم محصورون وكان عميرة ممن قدم مع أشرس
وأقبل قريش لبن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس؛ فام
يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر؛ وكان بينهم ميل.
ذكر وقعة كمرجة
قال: ويقال إن أشرس نزل قريباً من مدينة بخارى على قدر فرسخ؛ وذلك المنزل يقال له المسجد؛ ثم تحول منه إلى مرج يقال له بوادرة، فأتاهم سبابة - أو شبابة - مولى قيس بن عبد الله الباهلي، وهم نزول بكمرجة - وكانت كمرجة من أشرف مدن خراسان وأعظمها أيام أشرس في ولايته - فقال لهم: إن خاقان مار بكم غداً، فأرى لكم أن تظهروا عدتكم، فيرى جداً واحتشاداً، فينقطع طعمه منكم. فقال له رجل منهم: استوثقوا من هذا فإنه جاء ليفتّ في أعضادكم، قالوا: لا نفعل، هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة، فلم يقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به المولى، وصبّحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى كأنه يريدها، فتحدر بجنوده من وراء تل بينهم وبينه، فنزلوا وتأهبوا وهم لا يشعرون بهم، فلما كان ذلك ما فاجأهم أن طلعوا على التلّ، فإذا جبل حديد: أهل فرغانة والطار بند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى. قال فأسقط في أيدي القوم، فقال لهم كليب بن قنان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم فسربوا دوابكم المجففة في طريق النهر، كأنكم تريدون أن تسقوها، فإذا جردتموها فخذوا طريق الباب، وتسربوا الأول فالأول؛ فلما رآهم الترك يتسربون شدٌّوا عليهم في مضايق؛ وكانوا هم أعلم بالطريق من الترك، وسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده، فقتلوا رجلاً كان يقال له المهلب، كان حاميتهم، وهو رجل من العرب، فقاتلوهم فغلبوهم عل الباب الخارج من الخندق فدخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجلٌ من العرب بحزمة قصب قد أشعلها فرمى بها وجوههم قال: فتنحوا، وأخلوا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوا انصرف الترك وأحرق العرب القنطرة، فأتاهم خسرو بن يزد جرد في ثلاثين رجلاً، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد على مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف.
قال: وجاءهم بازغرى في مائتين - وكان داهية - من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمنونا حتى ندنو منكم، وأشرفوا عليه ومعه أسراء من العرب، فقال بازغرى: يا معشر العرب، أحدروا إليّ رجلاً منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيباً مولى مهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم فقال: أحدروا إليّ رجلاً يعقل عني، فأحدروا يزيد بن سعيد الباهليّ، وكان يشدو شدواً من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء. وقال: إن خاقان أرسلني إليكم؛ وهو يقول لكم: إني أجعل من كان عطاؤه منكم ستمائة ألفاً، ومَن كان عطاؤه ثلثمائة ستمائة؛ وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم؛ كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغرى، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قال: لا، نزل إلينا بأمان. وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغرى إلاّ أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النصف معه؛ فإن ظفر خاقان فنحن معه؛ وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السغد، فرضي بازغري والتركيان بما قال، فقال له: أعرض على القوم ما تراضينا به، وأقبل فأخذ بطرف الحبل فجذبوه حتى صار على سور المدينة، فنادى: يا أهل كمرجة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين، قالوا: نموت جميعاً قبل ذلك. قال: فأعلموهم.
قال: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قال لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أ،تم عندنا إلاّ بمنزلة مَن في أيدينا منكم - وكان في أيديهم الحجاج بن حميد النضريّ - فقالوا له: يا حجاج، ألا تكلَّم؟ قال: عليّ رقباء، وأمر خاقان بقطع الشجر، فجعلوا يلقون الحطب الرطب، ويلقى أهل كمرجة الحطب اليابس، حتى سوّى الخندق، ليقطعوا إليهم، فأشعلوا فيه النيران، فهاجت ريح شديدة - صنعاً من الله عزّ وجلّ - قال: فاشتعلت النار في الحطب، فاحترق ما عملوا في ستة أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغلناهم بالجراحات. قال: وأصابت بازغرى نشابة في سرّته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه آذانهم، وأصبحوا بشرّ، منكّسين رءوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم. فلما امتدّ النهار جاءوا بالأسرى وهم مائة؛ فيهم أبو العوجاء العتكيّ وأصحابه، فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجاج ابن حميد النضريّ. وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين كانوا رهائن في أيديهم، فقتلوهم واستماتوا، واشتدّ القتال، وقاموا على باب الخندق فسار على السور خمسة أعلام، فقال كليب: من لي بهؤلاء؟ فقال ظهير بن مقاتل الطفاويّ: أنا لك بهم؛ فذهب يسعى. وقال لفتيان: امشوا خلفي، وهو جريح، قال: فقتل يومئذ من الأعلام اثنان، ونجا ثلاثة. قال: فقال ملك من الملوك لمحمد بن وساج: العجب أنه لم يبق ملك فيما وراء النهر إلاّ قاتل بكمرجة غيري، وعزّ عليّ ألا أقاتل مع أكفائي ولم ير مكاني. فلم يزل أهل كمرجة بذلك؛ حتى أقبلت جنود العرب، فنزلت فرغانة. فعير خاقان أهل السغد وفرغانة والشاش والدهاقين، وقال لهم: زعمتم أن في هذه خمسين حماراً، وأنّا نفتحها في خمسة أيام؛ فصارت الخمسة الأيام شهرين. وشتمهم وأمرهم بالرحلة، فقالوا: ما ندع جهداً، ولكن أحضرنا غداً فانظر؛ فلما كان من الغد جاء خاقان فوقف، فقام إليه ملك الطاربند؛ فاستأذنه في القتال والدّحول عليهم، قال: لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع - وكان خاقان يعظّمه - فقال: اجعل لي جاريتين من جواري العرب، وأنا أخرج عليهم؛ فأذن له، فقاتل فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة وإلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل من بني تميم مريض، فرماه بكلوب فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه فسقط لوجهه وركبته؛ ورماه رجل يحجر؛ فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه رجل فقتله. وجاء شاب أمرد من الترك، فقتله وأخذ سلبه وسيفه، فغلبناهم على جسده - قال: ويقال: إنّ الذي انتدب لهذا فارس أهل الشاش - فكانوا قد اتخذوا صناعاً، وألصقوها بحائط الخندق، فنصبوا قبالة ما اتخذوا أبواباً له؛ فأقعدوا الرماة وراءها؛ وفيهم غالب بن المهاجر الطائيّ عمّ أبي العباس الطوسيّ ورجلان، أحدهما شيبانيّ والآخر ناجيّ، فجاء فاطلع في الخندق، فرماه الناجيّ فلم يخطىء قصبة أنفه، وعليه كاشخودة تبتية، فلم تضرّه الرمية، ورماه الشيبانيّ وليس يرى منه غير عينيه؛ فرماه غالب ابن المهاجر، فدخلت النشابة في صدره، فنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه.
قال: فيقال: إنه إنما قتل الحجاج وأصحابه يومئذ لما دخله من الجزع، وأرسل إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة ننزلها دون افتتاحها، أو ترحلهم عنها. فقال له كليب بن قنان: وليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم؛ فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فأعطوهم الأمان على أن يرحل هو وهم عنهم بأهاليهم وأموالهم إلى سمرقند أو الدبوسية، فقال لهم: اختاروا لأنفسكم في خروجكم من هذه المدينة.
قال: ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدّة، فقالوا: نشاور أهل سمرقند، فبعثوا غالب بن المهاجر الطائيّ، فانحدر في موضع من الوادي، فمضى إلى قصر يسمى فرزاونة، والدّهقان الذي بها صديق له، فقال له: إنّي بعثت إلى سمرقند؛ فاحملني، فقال: ما أجد دابة إلا بعض دواب خاقان، فإن له في روضة خمسين دابة؛ فخرجا جميعاً إلى تلك الروضة، فأخذ برذوناً فركبه، وكان إلفه برذون آخر، فتبعه فأتى سمرقند من ليلته، فأخبرهم بأمرهم، فأشاروا عليه بالدبوسية، وقالوا: هي أقرب، فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من الترك رهائن ألاّ يعرضوا لهم، وسألوهم رجلاً من الترك يتقوّون به مع رجال منهم، فقال لهم الترك: اختاروا من شئتم، فاختاروا كورصول يكون معهم، فكان معهم حتى وصلوا إلى حيث أرادوا. ويقال: إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وأمرهم بالارتحال عنهم؛ وكلمه المختار بن غوزك وملوك السغد وقالوا: لا تفعل أيها الملك؛ ولكن أعطهم أماناً يخرجون عنها، ويرون أنك إنما فعلت ذلك بهم من أجل غوزك أنه مع العرب في طاعتها، وأن ابنه المختار طلب إليك في ذلك مخافة على أبيه؛ فأجابهم إلى ذلك، فسرّح إليهم كورصول يكون معهم، يمنعهم ممن أرادهم.
قال: فصار الرهن من الترك في أيديهم، وارتحل خاقان، وأظهر أنه يريد سمرقند - وكان الرهن الذي في أيديهم من ملوكهم - فلما ارتحل خاقان - قال كورصول للعرب: ارتحلوا، قالوا: نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، ولا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فتحمى العرب فنصير إلى مثل ما كنا فيه من الحرب.
قال: فكفّ عنهم؛ حتى مضى خاقان والترك، فلما صلوا الظهر أمرهم كورصول بالرحلة، وقال: إنما الشدة والموت والخوف حتى تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة؛ فارتحلوا وفي يد الترك من الرّهن من العرب نفر، منهم شعيب البكريّ أو النصريّ، وسباع بن النعمان وسعيد بن عطية، وفي أيدي العرب من الترك خمسة، قد أردفوا خلف كل رجل من الترك رجلاً من العرب معه خنجر، وليس على التركيّ غير قباء، فساروا بهم.
ثم قال العجم لكورصول: إنّ الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل؛ فلا نأمن أن يخرجوا علينا، فقال لهم العرب: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم. فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوّسية قدر فرسخ أو أقلّ نظر أهلها إلى فرسان وبياذقة وجمع. فظنوا أن كمرجة قد فتحت. وأن خاقان قصد لهم. قال: وقرينا منهم وقد تأهبوا للحرب؛ فوجه كليب بن قنان رجلاً من بني ناجية يقال له الضّحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بن ورّاد السغذي، فأتاهم الضّحاك وهم صفوف؛ فرسان ورجّالة، فأخبرهم الخبر، فأقبل أهل الدبوسية يركضون، فحمل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحاً.
ثم إن كليباً أرسل إلى محمد بن كرّاز ومحمد بن درهم ليعلما سباع ابن النعمان وسعيد بن عطية أنهم قد بلغوا مأمنهم، ثم خلّوا عن الرهن؛ فجعلت العرب ترسل رجلاً من الرهن الذين في أيديهم من الترك، وترسل الترك رجلاً من الرهن الذين في أيديهم من العرب؛ حتى بقي سباع بن النعمان في أيدي الترك، ورجل من الترك في أيدي العرب، وجعل كلّ فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلّوه وبقي سباع في أيديهم، فقال له كورصول: لمَ فعلت هذا؟ قال: وثقت برأيك فيّ، وقلت: ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا؛ فوصله وسلّحه وحمله على برذون، وردوه إلى أصحابه.
قال: وكان حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوماً، فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوماً.
قال: وكان خاقان قسم في أصحابه الغنم، فقال: كلوا لحومها واملئوا جلودها تراباً، واكبسوا خندقكم؛ ففعلوا فكبسوه، فبعث الله عليهم سحابة فمطرت، فاحتمل المطر ما ألقوا، فألقاه في النهر الأعظم.
وكان مع أهل كمرجة قوم من الخوارج، فيهم
ابن شنجٍ مولى بني ناجية.
ذكر ردّة أهل كردر
وفي هذه السنة ارتدّ أهل كردر، فقاتلهم المسلمون وظفروا بهم؛ وقد كان الترك أعانوا أهل كردر؛ فوجّه أشرس إلى من قرب من كردر من المسلمين ألف رجل ردءاً لهم؛ فصاروا إليهم، وقد هزم المسلمون الترك، فظفروا بأهل كردر. وقال عرفجة الدارميّ:
نحن كفينا أهل مرو وغـيرهـم
ونحن نفينا الترك عن أهل كردر
فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغـيرنـا
فقد يظلم المرء الكريم فيصبـر
وفي هذه السنة جعل خالد بن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة؛ والأحداث والقضاء إلى بلال بن أبي بردة؛ فجمع ذلك كله له، وعزل به ثمامة بن عبد الله بن أنس عن القضاء.
وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك قال أبو معشر والواقديّ وغيرهما؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هشام، وعلى الكوفة والبصرة والعراق كلها خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله.