المجلد السابع - ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة

ذكر الخبر عمّا كان فيها من الأحداث

فممّا كان فيها غزوة معاوية بن هشام الصّائفة اليسرى وغزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصّائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرّق سراياه في أرض الروم.

وفيها بعث مروان بن محمد - وهو على أرمينية - بعثين، فافتتح أحدهما حصوناً ثلاثة من اللاّن ونزل الآخر على تومانشاه، فنزل أهلها على الصلح.

وفيها عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمها إلى خالد بن عبد الله، فولاها خالد أخاه أسد بن عبد الله.
وقال المدائنيّ: كان عزل هشام عاصماً عن خراسان وضمّ خراسان إلى خالد بن عبد الله في سنة ستّ عشرة ومائة.

ذكر الخبر عن سبب
عزل هشام عاصماً وتوليته خالداً خراسان

وكان سبب ذلك - فيما ذكر عليّ عن أشياخه - أنّ عاصم بن عبد الله كتب إلى هشام بن عبد الملك: أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنّ الرائد لا يكذب أهله؛ وقد كان من أمر أمير المؤمنين إليّ ما يحقّ به عليّ نصيحته؛ وإنّ خراسان لا تصلح إلاّ أن تضمّ إلى صاحب العراق؛ فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب؛ لتباعد أمير المؤمنين عنها وتباطؤ غياثه عنها.

فلما مضى كتابه خرج إلى أصحابه يحيى بن حضين والمجشّر بن مزاحم وأصحابهم، فأخبرهم، فقال له المجشّر بعد ما مضى الكتاب: كأنك بأسد قد طلع عليك. فقدم أشد بن عبد الله؛ بعث به هشام بعد كتاب عاصم بشهر، فبعث الكميت بن زيد الأسديّ إلى أهل مرو بهذا الشعر:

ألا أبلغ جماعة أهـل مـرو               على ما كان من نأى وبـعـد
رسالة ناصح يهدى سـلامـاً            ويأمر في الذي ركبوا بجـد
وأبلغ حارثاً عنـا اعـتـذاراً                إليه بأن من قبلي بـجـهـد
ولولا ذاك قد زارتـك خـيل               من المصرين بالفرسان تردي
فلا تهنوا ولا ترضوا بخسـف            ولا يغرركم أسـد بـعـهـد
وكونوا كالبغايا إن خـدعـتـم            وإن أقررتم ضيمـاً لـوغـد
وإلا فارفعوا الـرايات سـوداً              على أهل الضلالة والتعـدي
فكيف وأنتم سبـعـون ألـفـاً            رماكم خالد بـشـبـيه قـرد
ومن ولى بـذمـتـه رزينـاً               وشيعته ولم يوف بـعـهـد
ومن غشي قضاعة ثوب خزيٍ       بقتل أبي سلامان بن سـعـد
فمهلاً يا قضاع فلا تكـونـي           توابع لا أصول لها بـنـجـد
وكنت إذا دعوت بنـي نـزار           أتاك الدهم من سبط وجـعـد
فجدع من قضاعة كـل أنـف          ولا فازت على يوم بمـجـد

قال: ورزين الذي ذكر كان خرج على خالد بن عبد الله بالكوفة، فأعطاه الأمان ثم لم يف به.

وقال فيه نصر بن سيّار حين أقبل الحارث إلى مرو وسوّد راياته - وكان الحارث يرى رأي المرجئة:

دع عنك دنيا وأهلاً أنت تاركهـم             ما خير دنيا وأهل لا يدومونـا!
إلا بـقـية أيام إلـى أجـــل                     فاطلب من الله أهلاً لا يموتونـا
أكثر تقى الله في الإسرار مجتهداً          إن التقى خيره ما كان مكنونـا
واعلم بأنك بالأعمال مـرتـهـن                فكن لذاك كثير الهم محـزونـا
إني أرى الغبن المردي بصاحبه               من كان في هذه الأيام مغبونـا
تكون للمرء أطواراً فتمـنـحـه                   يوماً عثاراً وطوراً تمنح اللينـا
بينا الفتى في نعيم العيش حولـه           دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا
تحلو له مرة حتى يسـر بـهـا                  حيناً وتمقره طعمـاً أحـايينـا
هل غابر من بقايا الدهر تنظـره               إلا كما قد مضى فيما تقضونـا
فامنح جهادك من لم يرج آخـرةً                وكن عدواً لقوم لا يصـلـونـا
واقتل مواليهم منا وناصـرهـم                 حيناً تكفرهم والعنهـم حـينـا
والعائبين علـينـا دينـنـا وهـم                  شر العباد إذا خابرتـهـم دينـا
والقائلين سبيل اللـه بـغـيتـنـا                لبعد ما نكبوا عمـا يقـولـونـا
فاقتلهم غضباً لله مـنـتـصـراً                   منهم به ودع المرتاب مفتـونـا
إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن                فأنتم أهل إشراك ومـرجـونـا
لا يبعد الله في الأجداث غيركـم               إذ كان دينكم بالشرك مقـرونـا
ألقى به الله رعباً في نحـوركـم               والله يقضي لنا الحسنى ويعلينـا

كيما نكون الموالي عند خـائفة             عما تروم به الإسلام والدينـا
وهل تعيبون منا كـاذبـين بـه                 غال ومهتضم، حسبي الذي فينا
يأبى الذي كان يبلي الله أولكـم             على النفاق وما قد كان يبلينـا

قال: ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فلمّا بلغ عاصماً أن أسد بن عبد الله قد أقبل، وأنّه قد سيّر على مقدمته محمد بن مالك الهمدانيّ، وأنه قد نزل الدندانقان، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتاباً على أن ينزل الحارث أيّ كورخراسان شاء، وعلى أن يكتبا جميعاً إلى هشام؛ يسألانه كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن أبى اجتمعا جميعاً عليه. فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وأبى يحيى ابن حضين أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين؛ فقال خلف بن خليفة ليحيى:

أبـى هـم قـلـبـك إلا اجـتـمـــاعـــا               ويأبـى رقـادك إلا امــتـــنـــاعـــاً
بغـير سـمـاع ولـم تــلـــقـــنـــي                 أحـاول مـن ذات لـهـو ســمـــاعـــا
حفـظـنـا أمـية فـي مـلـــكـــهـــا                  ونـخـطـر مـن دونـهـا أن تــراعـــى
ندافـع عـنـهـا وعـن مـلــكـــهـــا                   إذا لـم نـجـد بـيديهـا امـتـنـــاعـــا
أبـى شـعـب مـا بـينـنـا فـي الـقـــديم          وبــين أمـــية إلا انـــصـــداعـــا
ألـم نـخـتـطـف هـامة ابـن الـزبـــير                ونـنـتـزع الـمـلـك مـنـه انـتـزاعــا
جعـلـنـا الـخـلافة فـي أهــلـــهـــا                  إذا اصطـرع الـنـاس فـيهـا اصـطـراعـا
نصـرنـا أمـية بـالـمـــشـــرفـــيّ                    إذا انخلـع الـمـلـك عـنـهـا انـخـلاعـا
ومـنـا الـذي شـد أهــل الـــعـــراق                 ولـو غـاب يحـيى عـن الـثـغـر ضـاعـا
علـى ابـن سـريج نـقـضـنــا الأمـــور               وقـد كـان أحـكـمـهـا مـا اسـتـطـاعـا
حكـيم مـقــالـــتـــه حـــكـــمة                       إذا شـتـت الـقـوم كـانـت جـمـاعـــا
عشـــية زرق وقـــد أزمـــعــــوا                      قمـعـنـا مـن الـنـاكـثـين الـزمـاعــا
ولــولا فـــتـــى وائل لـــم يكـــن                     لينـضـج فـيهـــا رئيس كـــراعـــا
فقـل لأمــية تـــرعـــى لـــنـــا                      أيادي لـم نـجـزهـا واصـطـنـــاعـــا
أتـلـهـين عـن قـتـل ســـاداتـــنـــا                   ونـأبـى لـحـقـك إلا اتـــبـــاعـــا
أمـن لـم يبـعـك مـن الـمـشــتـــرين                 كآخـر صـادف سـوقـاً فــبـــاعـــا!
أبـى ابـنُ حـضـين لـمـا تـصـــنـــع                    ين إلا اضـطـلاعـا وإلاّ اتّــبـــاعـــا
ولـو يأمـن الــحـــارث الـــوائلـــين                    لراعـك فـي بـعـض مـن كـان راعـــا
وقـد كـــان أصـــعـــر ذا نـــيرب                         أشـاع الـضـلالة فـيمــا أشـــاعـــا
كفـينـــا أمـــية مـــخـــتـــومة                        أطـاع بـهـا عـاصـم مـن أطـــاعـــا
فلـــولا مـــراكـــز راياتـــنــــا                          من الـجـنـد خـاف الـجـنـود الـضـياعـا
وصـلـنـا الـقـديم لـهـا بـالــحـــديث                وتـأبـى أمـية إلا انــقـــطـــاعـــا
ذخـائر فـي غـيرنـا نـفـــعـــهـــا                      ومـا إن عـرفـنـا لـهـن انـتـفـاعـــا
ولـو قـدمـتـهـا وبـان الــحـــجـــا                      ب لارتـعـت بـين حـشـاك ارتــياعـــا
فأين الــوفـــاء لأهـــل الـــوفـــاء                     والـشـكـر أحـسـن مـن أن يضـاعـــا!
وأين ادخـــار بـــــنـــــــي وائل                      إذا الذخـر فـي الـنـاس كـان ارتـجـاعـا!
ألـم تـعـلـمــي أن أســـيافـــنـــا                   تداوي الـعـلـيل وتـشـفـي الـصـداعــا!
إذا ابـن حـضـين غـدا بـــالـــلـــواء                   أسـلـم أهـل الـقـلاع الــقـــلاعـــا
إذا ابـن حـضـين غـدا بـــالـــلـــواء                    أشـار الـنـسـور بـه والـضـبــاعـــا
إذا ابن حضين غدا باللواء ذكى وكانت معد جداعا

قال: وكان عاصم بن سليمان بن عبد الله بن شراحيل اليشكريّ من أهل الرأي، فأشار على يحيى بنقض الصحيفة؛ وقال له: "غمراتٌ ثم ينجلين"، وهي المغمضات، فغمّض.

قال: وكان عاصم بن عبد الله في قرية بأعلى مرو لكندة، ونزل الحارث قرية لبني العنبر؛ فالتقوا بالخيل والرّجال، ومع عاصم رجل من بني عبس في خمسمائة من أهل الشام وإبراهيم بن عاصم العقيليّ في مثل ذلك؛ فنادى منادي عاصم: من جاء برأس فله ثلمائة درهم؛ فجاء رجل من عماله برأس وهو عاض على أنفه، ثم جاءه رجل من بني ليث - يقال له ليث بن عبد الله - برأس، ثم جاء آخر برأس، فقيل لعاصم: إن طمع الناس في هذا لم يدعوا ملاّحاً ولا علجاً إلا أتوك برأسه؛ فنادى مناديه: لا يأتنا أحد برأس؛ فمن أتانا به فليس له عندنا شيء؛ وانهزم أصحاب الحارث فأسروا منهم أسارى، وأسروا عبد الله بن عمرو المازنيّ رأس أهل مرو الروذ، وكان الأسراء ثمانين؛ أكثرهم من بني تميم، فقتلهم عاصم بن عبد الله على نهر الداندانقان. وكانت اليمانية بعثت من الشام رجلاً يعدل بألف يكنى أبا داود، أيّام العصبية في خمسمائة؛ فكان لا يمرّ بقرية من قرى خراسان إلا قال: كأنكم بي قد مررت راجعاً حاملاً رأس الحارث بن سريج؛ فلما التقوا دعا إلى البراز، فبرز له الحارث بن سريج؛ فضربه فوق منكبه الأيسر فصرعه، وحامى عليه أصحابه فحملوه فخولط؛ فكان يقول: يا أبرشهر الحارث بن سريجاه! يا أصحاب المعموراه! ورمي فرس الحارس بن سريج في لبانه، فنزع النشابة؛ واستحضره وألحّ عليه بالضّرب حتى نزّقه وعرّقه، وشغله عن ألم الجراحة.

قال: وحمل عليه رجل من أهل الشام؛ فلما ظنّ أن الرمح مخالطه؛ مال عن فرسه واتّبع الشأميّ، فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! قال: انزل عن فرسك؛ فنزل وركبه الحارث، فقال الشأميّ: خذ السرج؛ فوالله إنه خير من الفرس، فقال رجل من عبد القيس:

تولت قريش لذة العيش واتـقـت         بنا كل فج من خراسان أغـبـرا
فليت قريشاً أصبحـوا ذات لـيلة          يعومون في لج من البحر أخضرا

قال: وعظم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم، وكتبوا كتاباً، وبعثوا مع محمد بن مسلم العنبريّ ورجل من أهل الشام، فلقوا أسد بن عبد الله بالرّيّ - ويقال: لقوه بيهق - فقال: ارجعوا فإني أصلح هذا الأمر، فقال له محمد بن مسلم: هدمت داري، فقال: أبنيها لك، وأردّ عليكم كل مظلمة.

قال: وكتب أسد إلى خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى. قال: فأجاز خالد يحيى بن حضين بعشرة آلاف دينار وكساه مائة حلة. قال: وكانت ولاية عاصم أقل من سنة - قيل كانت سبعة أشهر - وقدم أسد بن عبد الله وقد انصرف الحارث، فحبس عاصماً وسأله عمّا أنفق، وحاسبه فأخذه بمائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز ولم تخرج من مرو، ووافق عمارة بن حريم وعمّال الجنيد محبوسين عنده؛ فقال لهم: أسير فيكم بسيرتنا أم بسيرة قومكم؟ قالوا: بسيرتك، فخلى سبيلهم.

قال عليّ عن شيوخه: قالوا: لما بلغ هشام بن عبد الملك أمر الحارث ابن سريج، كتب إلى خالد بن عبد الله: ابعث أخاك يصلح ما أفسد؛ فإن كانت رجية فلتكن به. قال: فوجّه أخاه أسداً إلى خراسان، فقدم أسد وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بن سريح بمرو الروذ وخالد بن عبيد الله الهجري بآمل، ويخاف إن قصد للحارث بمرو الروذ دخل خالد بن عبيد الله مرو من قبل آمل، وإن قصد لخالد دخلها الحارث من قبل مرو الروذ، فأجمع على أن يوجه عبد الرحمن بن نعيم الغامديّ في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث إلى ناحية مرو الروذ. وسار أسد بالناس إلى آمل، عليهم زياد القرشيّ مولى حيان النبطي عند ركايا عثمان، فهزمهم حتى انتهوا إلى باب المدينة، ثم كروا على الناس، فقتل غلام لأسد بن عبد الله يقال له جبلة؛ وهو صاحب علمه، وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم.

قال: فنزل عليهم أسد وحصرهم، ونصب عليهم المجانيق، وعليهم خالد ابن عبيد الله الهجريّ من أصحاب الحارث، فطلبوا الأمان، فخرج إليهم رويد ابن طارق القطعيّ ومولى لهم، فقال: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: فلكم ذلك، قالوا: على ألاّ تأخذ أهل هذه المدن بجنايتنا. فأعطاهم ذلك، واستعمل عليهم يحيى ين نعيم الشيبانيّ أحد بني ثعلبة بن شيبان، ابن أخي مصقلة بن هبيرة. ثم أقبل أسد في طريق زمّ يريد مدينة بلخ؛ فتلقاه مولى لمسلم بن عبد الرحمن، فأخبره أنّ أهل بلخ قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم. فقدم بلخ، واتّخذ سفناً وسار منها إلى التّرمذ، فوجد الحارث محاصراً سناناً الأعرابيّ السُّلميّ، ومعه بنو الحجّاج بن هارون النميريّ، وبنو زرعة وآل عطية الأعور النضري في أهل التّرمذ، والسل مع الحارث، فنزل أسد دون النّهر، ولم يطق القطوع إليهم ولا أن يمدّهم، وخرج أهل الترمذ من المدينة، فقاتلوا الحارث قتالاً شديداً، وكان الحارث استطرد لهم، ثم كرّ عليهم، فانهزموا فقتل يزيد بن الهيثم بن المنخّل وعاصم بن معوّل النّجليّ في خمسين ومائة من أهل الشام وغيرهم؛ وكان بشر بن جرموز وأبو فاطمة الأياديّ ومن كان مع الحارث من القرى يأتون أبواب التّرمذ، فيبكون ويشكون بني مروان وجورهم؛ ويسألونهم النزول إليهم على أن يمالئوهم على حرب بني مروان فيأبون عليهم؛ فقال السبل وأتى بلاده.

قال: وكان أسد حين مرّ بأرض زمّ تعرض للقاسم الشيبانيّ وهو في حصن بزم يقال له باذكر؛ ومضى حتى أتى الترمذ، فنزل دون النهر، ووضع سريره على شاطىء النهر؛ وجعل الناس يعبرون؛ فمن سفلت سفينته عن سفن المدينة قاتلهم الحارث في سفينة؛ فالتقوا في سفينة فيها أصحاب أسد، فيهم أصغر بن عيناء الحميريّ، وسفينة أصحاب الحارث فيها داود الأعسر، فرمى أصغر فصكّ السفينة، وقال: أنا الغلام الأحمريّ، فقال داود الأعسر: لأمرٍ ما انتميت إليه، لا أرض لك! وألزق سفينته بسفينة أصغر فاقتتلوا؛ وأقبل الأشكند - وقد أراد الحارث الانصراف - فقال له: إنما جئتك ناصراً لك؛ وكمن الأشكند وراء دير؛ وأقبل الحارث بأصحابه؛ وخرج إليه أهل الترمذ، فاستطرد لهم فاتّبعوه، ونصر مع أسد جالس ينظر؛ فأظهر الكراهية، وعرف أنّ الحارث قد كادهم، فظنّ أسد أنه إنما فعل ذلك شفقة على الحارث حين ولّى؛ وفأراد أسد معاتبة نصر؛ فإذا الأشكند قد خرج عليهم؛ فحمل على أهل الترمذ فهربوا. وقتل في المعركة يزيد بن الهيثم بن المنخّل الجرموزي من الأزد وعاصم بن معوّل - وكان من فرسان أهل الشأم - ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث فهزموه؛ وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وقوماً من أهل البصائر، ثم سار أسد إلى سمرقند في طريق زم؛ فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيبانيّ - وهو في باذكر؛ وهو من أصحاب الحارث - فقال: إنكم إنما أنكرتم على قومكم ما كان من سوء سيرتهم؛ ولم يبلغ ذلك النّساء ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند؛ وأنا أريد سمرقند، وعليّ عهد الله وذمته ألاّ يبدأك مني شر؛ ولك المؤاساة واللطف والكرامة والأمان ولمن معك؛ وأنت إن غمصت ما دعوتك إليه فعليّ عهد الله وذمة أمير المؤمنين وذمّة الأمير خالد إن أنت رميت بسهم ألاّ أؤمنك بعده؛ وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به. فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فآمنه، وسار معه إلى سمرقند فأعطاهم عطاءين، وحملهم على ما كان من دواب ساقها معه، وحمل معه طعاماً من بخارى، وساق معه شاء كثيرة من شاء الأكراد قسمها فيهم؛ ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند؛ وكان يحمل الحجارة بيديه حتى يطرحها في السكر، ثم قفل من سمرقند حتى نزل بلخ.

وقد زعم بعضهم أن الذي ذكرت من أمر أسد وأمر أصحاب الحارث كان في سنة ثمان عشرة.

وحجّ بالناس في هذه السنة خالد بن عبد الملك.

وكان العامل فيها على المدينة، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد.

وفيها توفّيت فاطمة بنت عليّ وسكينة ابنة الحسين بن عليّ.

أمر أسد بن عبد الله مع دعاة بني العباس

وفي هذه السنة أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم، ومثّل ببعضهم، وحبس بعضهم؛ وكان فيمن أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة بن رزيق؛ فأتى بهم، فقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: "عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام"! فذكر أن سليمان بن كثير قال: أتكلم أم أسكت؟ قال: بل تكلم، قال: نحن والله كما قال الشاعر:

لو بغير الماء حـلـقـي شـرق            كنت كالغصان؛ بالماء اعتصاري

تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيّها الأمير؛ إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشدّ الناس على قتيبة بن مسلم؛ وإنما طلبوا بثأرهم. فتكلم ابن شريك بن الصامت الباهلي، وقال: إنّ هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بن الهيثم: أصلح الله الأمير! ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره؛ فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشدّ الناس عليه؛ فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بن نعيم فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تمنّ بهم على عشائرهم؛ قال: فالتميميان اللذان معهم؟ قال: تخلّي سبيلهما، قال: أنا إذاً من عبد الله بن يزيد نفي، قال: فكيف تصنع بالرّبعيّ؟ قال: أخلّي والله سبيله. ثم دعا بموسى بن كعب وأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قال: اكسروا وجهه، فدق أنفه، ووجأ لحيته، فندر ضرس له. ثم دعا بلاهز بن قريط، فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلثمائة سوط، ثم قال: اصلبوه، فقال الحسن بن زيد الأزديّ: هو لي جار وهو برىء مما قذف به؛ قال: فالآخرون؟ قال: أعرفهم بالبراءة، فخلى سبيلهم.