ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد
فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بن
سيار من الصّلح.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
ذكر عليّ بن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرّقت الترك في غارة بعضها على بعض؛ فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كلّ ما أرادوا.
قال: وكانوا سألوا شروطاً أنكرها أمراء خراسان؛ منها ألاّ يعاقب من كان مسلماً وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدّى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضيّة قاض وشهادة العدول؛ فعاب الناس ذلك على نصر، وكلّموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك? فأرسل رسولاً إلى هشام في ذلك؛ فلما قدم الرّسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جُرّبت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك. فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبيّ: يا أمير المؤمنين، تألّف القوم واحمل لهم؛ فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام بن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بن سيّار.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه:
ذكر عليّ عن شيوخه، قال: لما طالت ولاية نصر بن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بن عمر إلى هشام حسداً له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرّح إليها الحكم بن الصلت؛ فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودّتنا أهلَ البيت.
فلما أتى هشاماً كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن عليّ السغديّ، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قال: نعم، وأنا صاحب الترك - قال: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك - فقال: أتعرف الحكم بن الصلت؟ قال: نعم، قال: فما وليَ بخراسان؟ قال: وليَ قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفاً، فأسره الحارث بن سريج، قال: ويحك? وكيف أفلت منه? قال: عرك أذنه، وقفده وخلّى سبيله. قال: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالاً وبياناً، فكتب إلى يوسف: إنّ الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخلّ الكنانيّ وعمله.
وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، وأوفد مغراء بن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام.
ذكر الخبر عن ذلك وما كان من هشام ويوسف بن عمر فيه: ذكر أن نصراً وجّه مغراء بن أحمر إلى العراق وافداً، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بن عمر: يا بن أحمر؛ يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم? فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير? قال: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه. فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك? أخبرني عن خراسان، قال: ليس لك جند يا أمير المؤمنين أحدّ ولا أنجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيلة؛ وعدّة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قال: ويحك? فما فعل الكنانيّ؟ قال: لا يعرف ولده من الكبر. فردّ عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتيَ بشبيل بن عبد الرحمن المازنيّ، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قال: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشابّ يخشى سفهه، المجرِّب المجرَّب، قد ولي عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته. فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكأّدوا حتى قدموا بيهق - وقد كتب إلى نصر بقول شبيل - وكان إبراهيم بن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصراً، وأخبره أنه قد وليَ الحكم بن الصّلت بن أبي عقيل خراسان. فقسم له إبراهيم أمر خراسان كله؛ حتى قدم عليه إبراهيم بن زياد رسول نصر؛ فعرف أنّ يوسف قد مكرَ به وقال: أهلكني يوسف.
وقيل: إن نصراً أوفد مغراء، وأوفد معه
حملة بن نعيم الكلبيّ، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، إن هو تنقّص
نصراً عند هشام أن يوليه السند. فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته
ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قال: لو كان الله متعنا منه ببقيّة? فاستوى هشام
جالساً، ثم قال: ببقيّة ماذا؟ قال: لا يعرف الرّجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه
حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضّعف لأجل كبره. فقام حملة الكلبيّ،
فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قال؛ هو هو. فقال هشام: إن
نصراً ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر؛ وقد كان يوسف كتب إلى
هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بن قتيبة. فكتب إليه هشام: اله عن
ذكر الكنانيّ، فلما قدم مغراء على يوسف، قال له: قد علمت بلاء نصر عندي،
وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام؛ فأمره
بالمقام. وكتب إلى نصر: إني قد حوّلت اسمه، فأشخص إليّ من قبلك من أهله.
وقيل: إنّ يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره
الجميلة عندي وعند قومي! فلم يزل به، فقال: فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم
طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قال: عبه بالكبر. فلما دخل على هشام تكلم
مغراء، فذكر نصراً بأحسن ما يكون، ثم قال في آخر كلامه: لولا...، فاستوى
هشام جالساً، فقال: ما لولا! قال: لولا أنّ الدهر قد غلب عليه، قال: ما بلغ
به ويحك الدهرّ قال: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد
ضعف عن الغزو والركوب. فشقّ ذلك على هشام. فتكلّم حملة بن نعيم. فلما بلغ
نصراً قول مغراء بعث هارون بن السياوش إلى الحكم بن نميلة، وهو في
السرّاجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه،
وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر عليّ بن محمد،
عن الحارث بن أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة: لما وليَ نصر خراسان أدنى
مغراء بن أحمر بن مالك بن سارية النميريّ والحكم ابن نميلة بن مالك والحجاج
بن هارون بن مالك؛ وكان مغراء بن أحمر النميريّ رأس أهل قنسرين، فآثر نصر
مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على
الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم؛ وكان
بعده عكابة بن نميلة، ثم أوفد نصر وفداً من أهل الشأم وأهل خراسان، وصيّر
عليهم مغراء؛ وكان في الوفد حملة بن نعيم الكلبيّ، فقال عثمان بن صدقة بن
وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
خيرني مسلـم مـراكـبـه
فقلت حسبي من مسلم حكما
هذا فتى عامـر وسـيدهـا
كفى بمن ساد عامراً كرما
يعني الحكم بن نميلة.
قال: فتغيّر نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء. قال: وكان أبو نميلة صالح الأبّار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بن زيد بن عليّ بن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان. وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فقال:
قد كنت في همة حيران مكتئباً
حتى كفاني عبيد الله تهمامـي
ناديته فسما للمجد مبتـهـجـاً
كغرة البدر جلّى وجه إظـلام
فاسم برأى أبي ليث وصولتـه
إن كنت يوم حفاظ بامرىء سام
تظفر يداك بمن تمت مـروتـه
واختصه ربه منـه بـإكـرام
ماضي العزائم ليثي مضاربـه
على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مـذل
فيه ولا مسكت إسكات إفحـام
له من الحلم ثوباه ومجـلـسـه
إذا المجالس شانت أهل أحلام
قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف؛ فإن رأيت أن تأذن لراويتي! فأذن له، فأنشده:
فاز قـدح الـكـلـبـيّ فـاعـتـقــدت مـــغ
راء فــي ســـعـــيه عـــروق لـــئيم
فأبـينــي نـــمـــير ثـــم أبـــينـــي
ألـعـبـد مـغـــراء أم لـــصـــمـــيم
فلـئن كـان مـنــكـــم مـــا يكـــون ال
غدر والـكـفـر مـن خـصـال الـــكـــريم
ولئن كان أصله كان عبداً ما عليكم من غدره من شتيم
وليته ليث وأي ولاة
بأياد بـــيض وأمـــر عـــظــــــيم!
أسـمـنـتـه حـتـى إذا راح مــغـــبـــو
طاً بـخـير مـن سـيبـهـا الـمـقــســـوم
كاد سـاداتــه بـــأهـــون مـــن نـــه
قة عـير بـــقـــفـــرة مـــرقـــوم
فضـربـنـا لـغـيرنـا مـثــل الـــكـــل
ب ذمـيمـاً والــذمّ لـــلـــمـــذمـــوم
وحـمـدنـا لـيثـاً ويأخـذ بـــالـــفـــض
ل ذوو الـجـود والـنـدى والـــحـــلـــوم
فاعـلـمـن يا بـنـي الـقـسـاورة الــغـــل
ب وأهـل الـصـفـا وأهـل الـحـــطـــيم
أن فـي شـكـر صـالـحـينــا لـــمـــا يد
حض قـول الـمـرهـق الــمـــوصـــوم
قد رأى الــلـــه مـــا أتـــيت ولـــن ين
قص نـبـح الـكـلاب زهـر الـنـــجـــوم
فلما فرغ قال نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا. قال: وأهان نصر قيساً وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
لقد بغض الله الـكـرام إلـيكـم
كما بغض الرحمن قيساً إلى نصر
رأيت أبا ليث يهـين سـراتـهـم
ويدنى إليه كل ذي والث غـمـر
وحجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكذلك قال الواقديّ أيضاً.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.