المجلد السابع - ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة

ذكر بقية أخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد ابن يزيد.

ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل: قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولي الخلافة وأفضت إليه، لم يزدد في الدي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساّق إلاتمادياً وحداً تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها - فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره.

وكان من أعظم ما جنىعلى نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه إفساده على نفسه بني عمّيه بني هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشأم. ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عمّيه هشام والوليد: حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عليّ عن المنهال بن عبد الملك، قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذّات؛ فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتدّ على بني هشام؛ فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها؛ فلم يزل بها محبوساًحتى قتل الوليد. قال: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بن الوليد، فيها فقال: لا أردّها، فقال: إذن تكثير الصّواهل حول عسكر. قال: وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بن بيهس بن صهيب، فقال: لا تفعل؛ فإنهما غلامان لم يحتلما؛ ولكن بايع لعتيق بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس. وأراد خالد بن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال: ويحكم! كيف أبايع من لا أصلّي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قال: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقيناً؛ إنما هي أخبار الناس؛ فغضب الوليد على خالد.

قال: وقال عمرو بن سعيد الثققفيّ: أوفدني يوسف بن عمر إلى الوليد فلما قدمت قال لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد - ثم قال: إياك أن نسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بن جبير طلق إن سمعته إذنى ما دمت حياً؛ فضحك. فقال: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: ققد أتخذ مائة جامعة؛ زكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها. ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولاً يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسمعنا الرضا بالوليد؛ حتى حمل الناس على الفتك به.

حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثّنا عليّ، عن يزيد بن مصاد الكلبيّ، عن عمرو بن شراحيل، قال: سيرنا هشام بن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال: والله ما عمل هشام عملاً أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييرة إياهم. وكان الوالي علينا الحجاج بن بشر بن فيروز الديلميّ، وكان يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهراً حتى يقتل؛ ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته. قال: فأجمع على قتل الوليد جماعة من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغسانيّ ومنصور بن جمهور ويعقوب بن عبد الرحمن وحبال بن عمرو؛ ابن عمّ منصور، وحميد بن نصر اللخميّ والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسّريّ بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمّي أحداً منكم. وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخّر الحجّ العام، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق.

وقال عليّ عن الحكم بن النعمان، قال: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانيّة البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه؛ فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك؛ لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من قرابة؛ فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشأم وغيرهم من الزّيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضرّ ذلك ببيوت الأموال. قال: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية مالم يحمل من العراق مثله. فقدم - وخالد بن عبد الله محبوس - فلقيه حسان النبطيّ ليلاً، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بدّ ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت. قال: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة منى، ففرقها على قدر علمك فيهم؛ ففعل. وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له: حسان:لا تغد على الوليد؛ ولكن رح إليه رواحاً؛ واكتب على لسان خليفتك كتاباً إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازناً، فأقرئه الكتاب، ومر أبان ابن عبد الرحمن النميريّ يشتري خالداً منه بأربعين ألف ألف. ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلى خالداً وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم،قال: ومن يضمن عنك؟ قال: يوسف، قال: أتضمن عنه؟ ذقال: بل ادفعه إليّ، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء.

قال محمد بن محمد بن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافاً كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفّلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان - يعني أن أخي الفيض ان على عمان، فبعث إليّ بمال جسيم - فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: أحسنت، هو أسير؛ ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذىً.

وقدم الكوفة فقتله في العذاب؛ فقال الوليد بن يزيد - فيما زعم الهيثم بن عديّ - شعراً يوبّخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بن عبد الله.

وأما أحمد بن زهير، فإنه حدّثه عن عليّ بن محمد؛ عن محمد بن سعيد العامريّ، عامر كلب، أنّ هذا الشعر قاله بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية:

ألم تهتج فتذّكـر الـوصـالا                   وحبلاً كان متصـلاً فـزالا
بلى فالدمع منك له سـجـام               كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك ادّكارك آل سعدى                 فنحن الأكثرون حصىً ومالا
ونحن المالكون الناس قسـراً                نسومهم المذلّة والـنـكـالا
وطئنا الأشعرين بعزّ قـيس                   فيا لك وطأة لن تستـقـالا!
وهذا خالـد فـينـا أسـيراً                      ألا منعوه إن كانوا رجـالا!
عظيمهم وسيدهـم قـديمـاً                  جعلنا المخزيات له ظـلالا
فلو كانت قبـائل ذات عـز                       لما ذهبت صنائعه ضـلالا
ولا تركوه مسلوبـاً أسـيراً                   &nnbsp;  يسامر من سلاسلنا الثقـالا

ورواه المدائنيّ: "يعالج من سلاسلنا"

وكندة والسكون فما استقالوا               ولا برحت خيولهم الرحالا
بها سمنا البريّة كل خسف                  وهدمنا السهولة والجبـالا
ولكن الوقائع ضعضعتهـم                      وجذتهم وردتهـم شـلالا
فما زالوا لنا أبداً عـبـيداً                         نسومهم المذلة والسفـالا
فأصبحت الغداة عليّ تـاج                     لملك الناس ما يبغي انتقالا

فقال عمران بن هلباء الكلبيّ يجيبه:

قفي صدر المطية يا حـلالا         وجذي حبل من قطع الوصالا

ألـــم يحـــزنـــك أن ذوي يمـــــان               يرى مـن حـاذ قـــيلـــهـــم جـــلالا
جعـلـنـا لـلـقــبـــائل مـــن نـــزار               غداة الـــمـــرج أيامـــاً طـــــوالا
بنـا مـلـك الـمـمـلــك مـــن قـــريش           وأودى جـــدّ مـــن أودى فـــــــزالا
متـى تـلـق الـسـكـون وتـلـق كـلـبـــاً        بعـبـس تـخـش مـــن مـــلـــك زوالا
كذاك المرء ما لم يلف عدلاً يكون عليه منطقه وبالا
أعدوا آل حمير إذ دعيتم                         سيوف الـهـنـد والأسـل الـــنـــهـــالا
وكـل مـقـلـص نـهـد الـقـــصـــيري              وذا فـودين والـقـــب الـــجـــبـــالا
يذرن بـكـلّ مـعـــتـــرك قـــتـــيلا                 علـيه الـطـير قـد مـــذل الـــســـؤالا
لئن عـيرتـمـونـا مـا فــعـــلـــنـــا                 لقـد قـلـتـم وجـــدّكـــم مـــقـــالا
لإخـوان الأشـاعـث قــتـــلـــوهـــم              فمـا وطـــئوا ولا لاقـــوا نـــكـــالا
وأبـنـاء الـمـهـلـب نـحـن صـلــنـــا                وقـائعـهـم ومـا صـلـتـم مـــصـــالا
وقـد كـانـت جـذام عـلــى أخـــيهـــم            ولـخـم يقـتـلـــونـــهـــم شـــلالا
هربـنـا أن تـسـاعـدكـم عــلـــيهـــم             وقـد أخـطـا مـسـاعـــدكـــم وفـــالا
فإن عـدتـم فـإنّ لـــنـــا ســـيوفـــاً               صوارم نـسـتـجـد لـهـا الـصـــقـــالا
سنـبـكـي خـالـداً بــمـــهـــنـــدات               ولا تـذهـب صــنـــائعـــه ضـــلالا
ألـم يك خـالـد غــيث الـــيتـــامـــى              إذا حـضـروا وكـنـت لـهـــم هـــزالا!
يكـفـن خــالـــد مـــوتـــى نـــزار                   ويثـرى حـيّهـم نـــشـــبـــاً ومـــالا
لو أنّ الـجـائرين عـــلـــيه كـــانـــوا                بسـاحة قـومـه كــانـــوا نـــكـــالا
ستـلـقـى إن بـقـيت مـــســـومـــات            عوابـــس لا يزايلـــن الـــحـــــلالا

فحدثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، قال: فازداد الناس على الوليد حنقاً لما روى هذا الشعر، فقال ابن بيض:

وصلت سماء الضر بالضر بعد ما                 زعمت سماء الضر عنا ستقلـع
فليت هشاماً كان حياً يسـوسـنـا              وكنا كما كنا نرجى ونـطـمـع

وكان هشام استعمل الوليد بن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط؛ فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان على قنسرين - فعذّبهم، فمات في العذاب الوليد بن القعقاع وعبد الملك بن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بن عبد الله. فأتت اليمانية يزيد بن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بن يزيد الحكميّ، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بن الوليد؛ فإنه سيّد بني مروان؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضيّ على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك. وكانت الشأم تلك الأيام وبيّة، فخرجوا إلى البوادي؛ وكان يزيد بن الوليد متبدّياً، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة.

فحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عليّ، قال: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العبّاس: مهلاً يا يزيد؛ فإنّ في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا. فرجع يزيد إلى منزله، ودبّ في الناس فبايعوه سراً، ودسّ الأحنف الكلبيّ ويزيد بن عنبسة السكسكي وقوماً من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم؛ فدعوا الناس سراً، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره أن قوماً يأتونه يريدونه على البيعة، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنّك وثاقاً، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جاداً! قال: جعلت فداك! ما أظن ذاك؛ ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعاً. قال: أما والله إني لأظنّه أشأم سخلة في بني مروان؛ ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقاً، وحملته إليه؛ فازجره عن أمره؛ فإنه يسمع إليك. فقال يزيد لقطن: ما قال لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكفّ.

وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس؛ فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالأنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحاً، أو أسكت مطيعاً؟ قال: كل مقبول منك؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك.

وبلغ مروان بن محمد بأمرينية أنّ يزيد يؤلّب الناس، ويدعو إلى خلع الوليد؛ فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم - وكان سعيد يتألّه: إنّ الله جعل لكل أهل بيت أركاناً يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربّك ركنٌ من أركان أهل بيتك؛ وقد بلغني أن قوماً من سفهاء أهل بيتك قد استنّوا أمراً - إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم - استفتحوا باباً لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم؛ وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجاً، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك؛ لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا؛ وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط إلا بتشتيت كلمتهم؛ وإنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوهم. وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك وإظهار المتابعة لهم؛ فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب؛ لعلّ الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم؛ فإنّ فيما سعوا فيه تغير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود، والناس سكون، والثّغور محفوظة؛ فإنّ للجماعة دولة من الفرقة وللسعة دافعاً من الفقر، وللعدد منتقصاً، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلّب مع الزيادة والنقصان؛ وقد امتدّت بنا - أهل البيت - متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها؛ وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة. وقد أمّل القوم في الفتنة أملاً؛ لعل أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا، ولكلّ أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم - فأعاذك الله من ذلك - فاجعلني من أمرهم على علم. حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك.

فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه إلى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدّده، فحذّره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدوّنا أراد أن يغري بيننا؛ وحلف له أنه لم يفعل. فصدّقه.

حدّثني أحمد، قال: حدثنا عليّ، قال: قال ابن بشر بن الوليد بن عبد الملك: دخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس، فكلّمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يرادّه، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترىء أن يكلم عمي ويردّ عليه قوله! وكنت أرى أنّ الصواب فيما يقول أبي، وكان الصّواب فيما يقول عمّي، فقال العباس: يا بني مروان؛ إني أظنّ الله قد أذن في هلاككم؛ وتمثّل قائلاً:

إني أعيذكم بالـلـه مـن فـتـن            مثل الجبال تسامى ثم تـنـدفـع
إن البرية قد ملت سياسـتـكـم          فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسـكـم        إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعـوا
لا تبقرن بأيديكـم بـطـونـكـم              فثم لا حسرة تغنـى ولا جـزع

قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو مبتدّ، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكراً في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرلحة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام. وقال القوم لمولّى لعباد بن زياد: أما عندك طعام فنشتريه؟ قال: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم. فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا. ثم سار فدخل دمشق ليلاً، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سراً، وبايع أهل المزة غير معاوية بن مصاد الكلبيّ - وهو سيد أهل المزّة - فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بن مصاد ماشياً في نفير من أصحابه - وبين دمشق وبين المزّة ميل أو أكثر - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية بن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قال: إن في رجلي طيناً، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد. فكلمه يزيد فبايعه معاوية - ويقال هشام بن مصاد - ورجع يزيد إلى دمشق؛ فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود؛ فنزل دار ثابت بن سليمان بن سعد الخشنيّ، وخرج الوليد بن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلاّ في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب - وهو على فرس أبلق - حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطناً، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إنّ يزيد خارج، فلم يصدّق. وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا - وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل - فلمّا صلّى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضاً فأعنّي عليه وسددني له؛ وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي بموت.

وأقبل في اثني عشر رجلاً، فلمّا كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلاً من أصحابهم، فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم؛ فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذ. وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيدة - مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك - فأخذه، وأرسل يزيد من ليلته إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه ووجّه إلى الثنيّة إلى أصحابه ليأتوه. وقال للبوّابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا. فتركوا الأبواب بالسلاسل. وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحاً كثيراً، فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النّابغة:

إذا استنزلوا عنهن للطعـن أرقـلـوا        إلى الموت إرقال اعلجمال المصاعب

فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا؛ هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر!

حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ، قال: حدثنا عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني رزين بن ماجد، قال: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء ألف وخمسمائة؛ فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقاً، ووجدنا عليه رسولاً للوليد، قال: ما هذه الهيئة وهذه العدّة! أما والله لأعلمنّ أمير المؤمنين. فقتله رجل من أهل المزّة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق اعلكلبيّين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح؛ ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه؛ حتى جاءت السكاسك في نحو ثلثمائة، فدخلوا من باب الشرقيّ حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بن هانىء العبسيّ في أهل داريّا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبيّ في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب توما، وأقبل حميد بن حبيب اللخميّ في أهل دبر المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، وأقبل النضر بن الجرشيّ في أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعيّ بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بن سعيد، فقال بعض شعرائهم:

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا             سكاسكها أهل البيوت الصنـادد
وكلب فجاءوهم بخـيل وعـدة                 من البيض والأبدان ثم السواعد
فأكرم بها أحياء أنصـار سـنة                  هم منعوا حرماتها كل جاحـد
وجاءتهم شعبان والأزد شرعـاً                وعبس ولخم بـين حـام وذائد
وغسان والحيان قيس وتغـلـب               وأحجم عنها كـل وان وزاهـد
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها                قد استوثقوا من كل عات ومارد

حدّثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني قسيم بن يعقوب ورزين بن ماجد وغيرهما، قالوا: وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن؛ ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف، وقد تحصّن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار. قال: فلما انتهينا إلى المزّة قلت لعبد الرحمن بن مصاد: اصرف أحد هذين الحرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبداً، فقال: لقد عجلت إذاً بالخيانة، لا والله لا يتحدّث العرب أنى أوّل من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بن الوليد. وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة. وقال لبني الوليد بن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرّقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بن روح بن الوليد: أنزل الرّاهب، ففعل.

وحدّثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني دكين بن الشّماخ الكلبيّ وأبو علاقة بن صالح السلامانيّ أن يزيد بن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقلّ من ألف رجل، فأمر رجلاً فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب إليه يومئذ ألف وخمسمائة، فعقد لمنصور بن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي على طائفة أخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بن حبيب اللخميّ على طائفة أخرى، وعليهم جميعاً عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة.

وحدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم بن الوليد أنّ مولىً للوليد لما خرج يزيد بن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية فأجازه، ووجّهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجّه يزيد بن الوليد إليه عبد الرحمن بن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف - والأغدف من عمّان - فقال بيهس بن زميل الكلابيّ - ويقال قاله يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجّه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره. فقال يزيد بن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وهو ابن عمهنّ، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقال: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر؛ وهم الذين خرجوا عليّ؛ ولكن دلني على منزل حصين، فقال: أرى أن تنزل القرية، قال: أكرهها، قال: فهذا الهزيم، قال: أكره اسمه، قال: فهذا البخراء، قصر النعمان بن بشير، قال: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الرّيف، وهو في مائتين، فقال:

إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد          نصيحاً ولا ذا حاجة حين تفزع
إذا ما هم هموا بإحدى هناتهـم           حسرت لهم رأسي فلا أتقنـع

فمر بشبكة الضحاك بن قيس الفهريّ؛ وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلاً، فساروا معه وقالوا: إنا عزل؛ فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفاً ولا رمحاً، فقال له بيهس بن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قال: إني أخاف الطاعون، قال: الذي يراد بك أشدّ من الطاعون؛ فنزل حصن البخراء.

قال: فندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين، وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بن الوليد بالبرّيّة، فواافاه ثمانمائة، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريباً من الوليد، فأتاه رسول العباس بن الوليد: إني آتيك، فقال الوليد: أخرجوا سريراً، فأخرجوا سريراً فجلس عليه وقال: أعليّ توثّب الرجال، وأنا أثبُ على الأسد وأتخصّر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس، فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بن حويّ السكسكي وعلى المقدّمة منصور بن جمهور وعلى الرّجالة عمارة بن أبي كلثم الأزديّ، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بن حصين الكلبيّ يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيّه، فقتله قطريّ مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجّل عبد العزيز، فكرّ أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدّة، وحملت رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بن يزيد عثمان الخشبيّ، قتله جناح بن نعيم الكلبيّ، وكان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار.

وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، فأرسل منصور بن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم. فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدّمت لأنفذن حصينك - يعني درعك - وقال نوح بن عمرو بن حويّ السكسكي: الذي لقي العباس بن الوليد يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي - فعدل به إلى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين؛ لئن أبيت لأضربنّ الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بن عبد الله بن دحية، فقال: من هذا؟ قال: يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم، قال: أما والله إن كان لبغيضاً إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف؛ وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدّمهم مع بنيه، فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية. وقالوا: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الاشيطان! هلك بنو مروان. فتفرق النّاس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيْه: السنديّ والزّائد، فقاتلهم قتالاً شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.

فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال. أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! فقال له يزيد بن عنبسة السكسكيّ: كلمني، قال له: من أنت؟ قال: أنا يزيد بن عنبسة، قال: يا أخا السكاسكك؛ ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤمن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله؛ قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت؛ وإن فيما أحلّ لي لسعة عمّا ذكرت. ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفاً، وقال: يوم كيوم عثمان؛ ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة السكسكي، فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة فيهم غير هذه، فأخذ بيد الوليد؛ وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه. فنزل من الحائط عشرة: منصور بن جمهور وحبال بن عمرو الكلبيّ وعبد الرحمن بن عجلان مولى يزيد بن عبد الملك وحميد بن نصر اللخميّ والسريّ بن زياد بن أبي كبشة وعبد السلام اللخميّ، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السريّ على وجهه، وجرّوه بين خمسة ليخرجوه. فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفّوا عنه ولم يخرجوه، واحتزّ أبو علاقة القضاعيّ رأسه، فأخذ عقباً فخاط الضّربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بن مقبل، وقال أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس - ويزيد يتغدّى - فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بن عنبسة السّكسكيّ، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفّه، وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضاً فسدّدني، وقال ليزيد بن عنبسة: هل كلّمكم الوليد؟ قال: نعم. كلّمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلّمه! فكلمته ووبّخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.

حدّثني أحمد عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: قال نوح ابن عمرو بن حويّ السكسكيّ: خرجنا إلى قتال الوليد في ليالٍ ليس فيها قمر؛ فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه. قال: وكان على ميسرة الوليد بن يزيد الوليد بن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبيّ في بني عامر - وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز - فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعاُ إلى عبد العزيز بن الحجاج. قال: وقال نوح بن عمرو: رأيت خدم الوليد بن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخاونهم عليه.

وحدّثني أحمد عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدّثني المثنّى بن معاوية، قال: أقبل الوليد فنزل اللؤلؤة، وأمر ابنه الحكم والمؤمّل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين ديناراً في العطاء، فأقبلتُ أنا وابن عمتي سليمان بن محمد بن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقرّبني المؤمّل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلّمه حتى يفرض لك في مائة دينار.

قال المثنىّ: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بن قيس من حمص يخبره أن عمراً قد وجّه إليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بن أبي الجنوب البهرانيّ، فدعا الوليد الضحّاك بن أيمن من بني عوف بن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب - وهو بالغوير - فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة. فلما أصبح أمر الناس بالرّحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خزّ، محتزماً بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بن كيسان في ستة عشر فارساً، ثم سار قليلاً، فتلقّاه بنو النعمان بن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص. ثم أتى البخراء، فضجّ أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلاً فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا؛ وإنما أرادوا الدراهم.

قال المثنّى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخّر الفسسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أمّ كلثوم بنت عبد الله بن يزيد بن عبد الملك يقال له عمرو بن مرة، فأخبره أنّ عبد العزيز بن الحجاج؛ قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بن عثمان المخراش - وان على شرطه - برجل من بني حارثة بن جناب، فقال له: إنّي كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد أتيتك بالخبر؛ وهذه ألف وخمسمائة قد أخذتها - وحل همياناً من وسطه، وأراه - وقد نزل اللؤلؤة؛ وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قال، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجّه منصور بن جمهور، فأخذ شرقيّ القرى - وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء - وكان العباس بن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلاً من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيّره بين أن يأتيه فيكون معه؛ أو يسير إلى يزيد بن الوليد. فاتّهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بن جمهور الرّسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنّك ومن معك؛ فإذا أصبح فليأخذ حيث أحبّ. فأقام العباس يتهيّأ؛ فلما كان في السّحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بن عثمان المخراش، فعبّأ الناس؛ فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس؛ وكان مع أصحاب يزيد بن الوليد كتاب معلّق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يصير الأمر شورى. فاقتتلوا فتقل عثمان الخشبيّ، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلاً، وأقبل منصور بن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل إلى الوليد وهو في فسطاطه؛ ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بن هبيرة المعافريّ خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سميّ بن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز. وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين؛ قد شدّها تحت لحيته؛ فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدّم رايتك، فقال له: لا أجد متقدّماً، إنها بنو عامر. وأقبل العباس بن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشدّ مولى لسليمان بن عبد الله بن دحية - يقال له التركيّ - على الحارث بن العباس بن الوليد، فطعنه طعنة أذراه عن فرسه؛ فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا. فبعث الوليد بن يزيد الوليد بن خالد إلى عبد العزيز بن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف؛ فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضاً، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد؛ حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة ألاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخصّ رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟ فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد؛ ففعل. وكان على ميمنة الوليد معاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردنّ والشركة في الأمر على أن أصير معكم؟ قال: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد. وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرّجل بعد الرّجل يدخل من تحت السلسلة. وأتى عبد العزيز عبد السلام بن بكير بن شمّاخ اللخميّ، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قال: فليخرج؛ فلما ولّى قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس. فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض عليّ، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر. قال: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشى، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بن شيبان مولى كنانة بن عمير؛ وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب - أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز - وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسريّ فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوساً في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليميّ أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتيّ، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له.

قال أحمد: قال عليّ: قال عمرو بن مروان الكلبيّ: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بن الوليد، فسبقت الرأس؛ قدم بها ليلة الجمعة، وأتى برأسه من الغد، فنصبه للناس بعد الصلاة. وكان أهل دمشق قد أجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفّوا. قال: وأمر يزيد بنصب الرأس ، فقال له يزيد بن فروة مولى بني مروان: إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك؛ وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس؛ ويغضب له أهل بيته؛ فقال: والله لأنصبنّه، فنصبه على رمح، ثم قال له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق؛ وأدخله دار أبيه. ففعل، فصاح الناس وأهل الدار ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك؛ فمكث عنده قريباً من شهر، ثم قال له: ادفعه إلى أخيه سليمان - وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه - فغسل ابن فروة الرّأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً؛ ولقد أرادني على نفسي الفاسق. فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل؛ وما كان ليقدر على الامتناع منه.

وحدثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكابيّ، قال: حدثني يزيد بن مصاد عن عبد الرحمن بن مصاد، قال: بعثني يزيد بن الوليد إلى أبي محمد السيفانيّ - وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد والياً على دمشق وأتى ذنبة؛ وبلغ يزيد خبره، فوجّهني إليه - فاتيته، فسالم وبايع ليزيد. قال: فلم نرم حتى رفع لنا شحص مقبل من ناحية البريّة ، فبعث إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيّل أبو كمال المغنّي، على بلغة للوليد تدعى مريم، فأخبر أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه.

حدثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، قال: حدثني دكين بن شماخ الكلبي ثم العامريّ، قال: رأيت بشر بن هلباء العامريّ يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول:

سنبكي حالداً بمهـنّـداتٍ           ولا تذهب صنائعه ضلالا

وحدثني أحمد عن عليّ، عن أبي عاصم الزيّاديّ، قال: ادّعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته؛ وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتزّ رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي. واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قال: وقال الحكم بن النعمان مولى الوليد بن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بن جمهور في عشرة؛ فيهم روح بن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين؛ أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس؛ وكان فيمن قدم برأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب؛ فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف. قال: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فجاء قوم بأرؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين؛ ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة!

قال: وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغنيّ وعمرو الوادي؛ فلما تفرق عن الوليد أصحابه، وحصر، قال مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء؛ ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا يقتل أحد قبلي وقبلك؛ فيوضع رأسه بين رأسينا؛ ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال؛ فلا يعيبونه بشيء أشدّ من هذا فهربا.
وقتل الوليد بن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.

وكذلك قال هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقديّ وعليّ بن محمد المدائنيّ.

واختلفوا في قدر المده التي كان فيها خليفةً؛ فقال أبو معشر: كانت خلافته سنه وثلاثة أشهر، كذلك حدثني بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.

وقال هشام بن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً.

واختلفوا أيضاً في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بن محمد الكلبيّ: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتي وأربعين سنة. وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة.

وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفيّ؛وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجالين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمسّ الدابة بيده.

وكان شاعراً مشروباً للخمر؛ حدثني أحمد؛ قال: حدثنا عليّ، عن ابن أبي الزناد، قال: قال أبي: كنت عند هشام وعنده الزهريّ، فذكر الوليد، فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً، ولم أعرض في شيء مما كنا فيه؛ فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلاً، ثم قام. فلما مات هشام كتب فيّ فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يابن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قال: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهريّ، وهما يعيبانني؟ قلت أذكر ذلك؛ فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائماً على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فإنه نمّ إليّ بما قالا؛ وايم الله لو بقي الفاسق - يعني الزهّريّ - لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. ثم قال يابن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك؛ فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني؛ فجاءوا بلإناء مغطّى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا؛ قال: فما زال علىذلك يتحدّث ويستسقى وصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحاً.