المجلد السابع - ذكر مخالفة مروان بن محمد

ذكر مخالفة مروان بن محمد

 وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.

ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه

حدّثني أحمد عن عليّ، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد:

أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له.

فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غيراً فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعاً، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجل؛ ولم أشبه محمداً ولا مروان - غير أن رأيت غيراً - إن لم أشمّر للقدريّة إزاري، وأضربهم بسيفي جارحاً وطاعناً، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلاّ لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإنّ الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالباً ونصيراً.

حدّثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، عن مسلم بن ذكوان، قال: كلّمَ يزيد بن الوليد العباس بن الوليد في طفيل بن حارثة الكلبيّ، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها - وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئاً من ذلك عند العطاء - فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكلّ ما يكتب به. وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار. قال مسلم بن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلّمه في هذا الأمر. قال: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما؛ إن لكما ولمروان لقصّةً، قلنا: وما ذاك؟ قال: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزّة يكونون ألفاً؟ قلت: وأكثر، قال: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قال: كم ترى عدّة بني عامر؟ يعني بني عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرّك أصبعه، ولوى وجهه. قال مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات مواليّ؛ وهو شعب حصين، ووعاء أمين؛ إن شاشء الله. فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أنّ معه كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك شيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.

قال مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة؛ فلما صلّى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتدّ بصلاته، فلما استويت قائماً جاءني خصيّ، فلما نظر إليّ انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان؛ وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بن ذكوان مولى يزيد، قال: مولى عتقاة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قال: ذاك أفضل؛ وفي كلّ ذلك فضل؛ فاذكر ما بدا لك. قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه؛ فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصلّيت على نبيّه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامّة؛ وذكرت حاله كلها. فلما فرغت تكلم؛ فوالله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد؛ فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي؛ لا أريد بذلك إلا ما عند الله؛ والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه؛ ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب. وسألني عن أمر يزيد، فكبّرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك؛ وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم. فأقمت أياماً، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قال: الحق بصاحبك، وقل له: سدّدك الله، امض على أمر الله؛ فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ستّ ليال أو سبع خارجة؛ وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز. قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلاّ وقد أعطيتهم الرّضا حتى أخبروني بذات أنفسهم. فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله؛ إنه قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: أنّي أصبت هذا العلم؟ قال: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم؛ حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات أنفسهم. فوّدعته وخرجت. فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضاً بقتل الوليد؛ وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابّة ودليلاً، فقدمت على يزيد بن الوليد.

ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق

وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولاّها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.

ذكر الخبر عن ذلك

ذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها؛ فذكر عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله بن عمر متألّهاً متألماً، فقدّم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلاً وكتباً إلى قوّاد الشأم الذين بالعراق، وخاف ألاّ يسلّم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلّم له منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشأم، ففرق عبد الله بن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم؛ فنازعه قوّاد أهل الشأم وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدوّنا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردتُ أن أردّ فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحقّ به؛ فنازعني هؤلاء فأنكروا عليبّ.

فخرج أهل الكوفة إلى الجبّانة، وتجمّعوا، فأرسل إليهم قوّاد أهل الشأم يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئاً مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكنديّ بالكوفة؛ قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بن الغضبان بن القبعثريّ، فأتاه فنحّى الناس عنه، وسكّنهم وزجر سفهاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضاً وبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، وأحسن جائزته، وولاّه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين.

ذكر وقوع الخلاف بين اليمانية والنزارية في خراسان

وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارّية، وأظهر الكرمانيّ فيها الخلاف لنصر بن سيار، واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.

ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك:

ذكر عليّ بن محمد عن شيوخه؛ أن عبد الله بن عمر لمّا قدم العراق والياً عليها من قبل يزيد بن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان؛ قال: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرمانيّ من حبس نصر، فقال المنجّمون لنصر: إنّ خراسان سيكون بها فتنة؛ فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد؛ وكان أوّل من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نضر رجالاً من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكنديّ فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأدزد - وكان يلقب أبا الشياطين - فتكلم، وقام حمّاد الصائغ وأبو السليل البكريّ، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية؛ عليكم بالطاعة والجماعة؛ فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.

فصعد سلم بن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلّمه، فقال: ما يغني عنّا كلامك هذا شيئاً. ووثب أهل السوق إلى أسواقهم؛ فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قال: كأني بالرّجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري؛ وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شرّ لا يطاق، وكأني بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة؛ إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملّوها؛ وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدوّ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان.

قال عليّ: قال عبد الله بن المبارك، قال نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلّم؛ وعسى أن يكون ذلك خيراً لي. إنكم تغشون أمراً تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم؛ والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قال من كان قبلكم:

استمسكوا أصحابنا نحدو بكم            فقد عرفنا خيركم وشركم

فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه. يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل لقول النابغة الذبيانيّ:

فإن يغلب شقاؤكم عليكـم              فإني في صلاحكم سعيت

وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعديّ:

أبـيت أرعـى الـنـجـوم مـرتـفـقـــاً                 إذا اسـتـقـلـت تـجـري أوائلــهـــا
من فـتـنة أصـبـحـت مـجـــلـــلة                   قد عـمّ أهـل الـصـلاة شـامـلـهـــا
من بـخـراسـان والـعـــراق ومـــن                  بالـشـأم كـل شـجـاه شـاغـلـهـــا
فالـنـاس مـنـهـا فـي لـون مـظـلـمة              دهـمـاء مـلـتـجة غـياظـلــهـــا
يمـسـي الـسـفـيه الـذي يعـنـف بـال           جهـل سـواء فـيهـا وعـاقـلــهـــا
والناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في ظل مبهمة                       عمـياء تـغـتـالـهـم غـوائلــهـــا
لا ينـظـر الـنـاس فـي عـواقــهـــا                  إلا الـتـي لا يبــين قـــائلـــهـــا
كرغـوة الـبـكـر أو كـصـيحة حـــب                  لى طـرقـت حـولـهـا قـوابـلـهـــا
فجـاء فـينـا أزرى بـوجــهـــتـــه                     فيهـا خـطـوب حـمـر زلازلــهـــا

قال: فلما أتى نصراً عهده من قبل عبد الله بن عمر قال الكرمانيّ لأصحابه: الناس في فتنة؛ فانظروا لأموركم رجلاً - وإنما سمّي الكرمانيّ لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن عليّ بن شبيب بن براري بن صنيم المعنيّ - فقالوا: أنت لنا، فقالت المضريّة لنصر: الكرمانيّ يفسد عليك؛ فأرسل إليه فاقتله، أو فاحبسه، قال: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بنيّ من بناته وبنيه من بناتي؛ قالوا: لا، قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئاً، ويعلمون بها فيتفرّقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قال: فدعوه على حاله يتقينا ونتّقيه، قالوا لا، قال: فأرسل إليه فحبسه.

قال: وبلغ نصراً أن الكرمانيّ يقول: كانت غايتي في طاعة بني مروان أن يقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال له عصمة ابن عبد الله الأسديّ: إنها بدء فتنة، فتجنّ عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بن النعمان الأزديّ والفرافصة بن ظهير البكريّ، فإنه لم يزل متغضّباً على الله بتفضيله مضر على ربيعة.

وكان بخراسان. وقال جميل بن النعمان: إنك قد شرّفته وإن كرهت قتله فادفعه إليّ أقتله. وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بن فراس البهرانيّ عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرمانيّ مع أبي الزّعفران مولى أسد بن عبد الله ، فطلبه نصر فلم يقدر عليه. والذي كتب إلى الكرمانيّ بقتل الوليد وقدوم منصور بن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قوماً أتوا نصراً، فقالوا: الكرمانيّ يدعو إلى الفتنة. وقال أصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعاً لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهوّد. وكان نصر والكرمانيّ متصافيينن، وقد كان الكرمانيّ أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما وليَ نصر خراسان عزل الكرمانيّ عن الرئاسة وصيرها لحرب بن عامر بن أيثم الواشجيّ، فمات حرب فأعاد الكرمانيّ عليها، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وصيّرها لجميل بن النعمان. قال: فتباعد ما بين نصر والكرمانيّ فحبس الكرمانيّ في القهندز وكان على القهندز مقاتل بن عليّ المرئيّ - ويقال المريّ.

قال: ولما أراد نصر حبس الكرمانيّ أمر عبيد الله بن بسّام صاحب حرسه؛ فأتاه به، فقال له نصر: يا كرمانيّ، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قال: بلى، قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قال بلى، ألم أرش عليّاً ابنك على كره من قومك! قال: بلى، قال: فبدّلت ذلك إجماعاً على الفتنة! قال الكرمانيّ: لم يقل الأمير شيئاً إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بن عبد الله ما قد علم، فليستأن الأمير ويثبّت فلست أحب الفتنة. فقال عصمة بن عبد الله الأسديّ: كذبت؛ وأنت تريد الشغب، ومالا تناله. وقال سلم بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم الغامديّ: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: أرجه وأخاه، والله لا يقتلنّ الكرمانيّ بقولك يابن أحوز وعلت الأصوات، فأمر نصر سليمان بحبس الكرمانيّ، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: إنيّ حلفت أن أحبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلاً يكون معه. قال: فاختاروا يزيد النحويّ؛ فكان معه في القهندز، وصيّر حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وهجم ابني مسعود. قال: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بن شعبة الجهضميّ وخالد بن شعيب بن أبي صالح الحمدانيّ، فكلماه فيه. قال: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يوماً، فقال عليّ بن وائل أحد بني ربيعة بن حنظلة: دخلت على نصر والكرمانيّ جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان أبو الزعفران جاء! فوالله ما ورايته ولا أعلم مكانه.

وقد كانت الأزد يوم حبس الكرمانيّ أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرمانيّ ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بن حرملة اليحمديّ والمغيرة بن شعبة وعبد الجبار بن شعيب بن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرمانيّ يغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى؛ ليكفنّ عنا نصر أو لنبدأنّ بكم. وأتاهم عبد العزيز بن عباد بن جابر بن همام بن حنظلة اليحمديّ في مائة، ومحمد بن المثنى وداود بن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزّة أم ولد نصر - وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى؛ فعند ذلك صيّروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحويّ وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرمانيّ: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسّعه، وأتى ولد الكرمانيّ، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرمانيّ يزيد النحويّ وحصين بن حكم فتعشيّا معه وخرجا، ودخل الكرمانيّ السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قال فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوّامه - ويقال: بل ركب فرسه البشير - والقيد في رجله، فأتوابه قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.

قال عليّ: وقال أبو الوليد زهير بن هنيد العدويّ: كان مع الكرمانيّ غلامه بسام، فرأى خرقاً على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قال: فأرسل الكرمانيّ إلى محمد بن المثنى وعبد الملك بن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قرية حرب ابن عامر، وعليه ملحفة متقلداً سيفاً، ومعه عبد الجبار بن شعيب وابنا الكرمانيّ: عليّ وعثمان وجعفر غلامه، فأمر عمرو بن بكر أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معاً، وأمرهم أن يوافوه على باب الريّان بن سنان اليحمديّ بنوش في المرج - وكان مصلاّهم في العيد - فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بن خليفة:

أصحروا للمرج أجلي للعمى        فلقد أصحر أصحاب السرب
إن مرج الأزد مرج واسـع             تستوي الأقدام فيه والرّكـب

وقيل إن الأزد بايعت لعبد الملك بن حرملة على كتاب الله عزّ وجلّ ليلة خرج الكرمانيّ، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرمانيّ ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيّرا الأمر له، فصلى الكرمانيّ. ولما هرب الكرمانيّ أصبح نصر معسكراً بباب مرو الرّوذ بناحية إبردانة، فأقام يوماً أو يومين.

وقيل: لما هرب الكرمانيّ استخلف نصر عصمة بن عبد الله الأسديّ وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرمانيّ، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانياً، ثم سقط إلى هراة فكان هروياً، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت؛ ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت        فدلّ عليها صوتها حية البحر

ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإنّ ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق.

ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بن أحوز إلى الكرمانيّ في بشر كثير. فسفر الناس بين نصر والكرمانيّ، وسألوا نصراً أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه. فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر فأتاه القاسم بن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره - وكان رأي نصر إخراجه - فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: أخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفّه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرمانيّ نصراً، فدخل سرادقه فآمنه. ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج. وأتى نصراً عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوّال سنة ست وعشرين ومائة؛ فخطب الناس، وذكرا ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب؛ فغضب الكرمانيّ لابن جمهور، فعاد في جميع الرجال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعه في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجاً من المقصروة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءاً، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني. فقال الكرمانيّ: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر. فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره. فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسديّ، فقال: يا أبا عليّ، إني أخاف عليك عاقبة ما بدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالاً؛ فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد بذلك إلا الإنذار إليك. فقال الكرمانيّ: إنيّ أعلم أن نصراً بدلم يقل هذا لك ولكنك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلمي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجاً أعدى لطوره من الكرمانيّ، وما أعجب منه؛ ولكن من يحي بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيماً له من أصحابه. قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديداً. وقال نصر لقديد بن منيع: انطلق إلليه، فأتاه فقال له: يا أبا عليّ، لقد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعاً، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد؛ إني لا أتهمك؛ وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البكريّ أخوك ولا تثق به"؛ قال: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهناً، قال: من؟ قال: أعطه عليًّا وعثمان، قال: قمن يعطني؟ ولا خير فيه، قال يا أبا عليّ، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بن معقل الليثيّ: ما أخوفني أن يقع ييهذا الثغر بلاء، فكلم أبن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأميرح أنشدك الله أن تشأم عشيرتك؛ إن مروان بالشأم تقاتله الخوارج، والناس في فتنة والأزد سفهاء وهم جيرانك. قال: فما أصنع؟ إن علمت أمراً يصلح الناس فدونك، فقدم عزم أنه لا يثق بي. قال: فأتى عقيل الكرمانيّ، فقال: أبا عليّ، قد سننت سنة تطلببعدك من الأمراء، إني أرى أمراً أخاف أن تذهب فيه العقول، قال الكرمانيّ: إن نصراً يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتززل، ونختار رجلاً من بكر بن وائل، نرضاه جميعاً فيلي أمرنا جميعاً حتى يأتي أمر من الخليفة؛ وهو يابى هذا. قال: يا أبا عليّ، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما سئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوافيه، فقال الكرمانيّ: إني لاأتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثقبنص ؛ فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص. قال: فهل لك في أمريجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال: لا آمنه على حال، قال: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غداً بمضيعة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قال: لا؛ ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتتركب منا مالا بقيّة بعده؛ فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان.