المجلد السابع - ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة: ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان

فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بن سريج بخراسان.

ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك قد مضى ذكر كتاب يزيد بن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له. فذكر عليّ بن محمد عن شيوخه، أنّ ابن هبيرة لما وليَ العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه. فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم وقطن بن محمد وعبّاد بن الأبرد بن قرّة وحمّاد بن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصيّر نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترىء عليك عدوّك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، وأطمعت فيهم عدوّهم، فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا! فقال الحارث: إنّي لأرى في يدي الكرمانيّ ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بن أبي صالح السلميّ بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر. فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بن داود، وأمر جهم بن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتاباً سيّر فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبّرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بن بسطام البرجميّ، فوقع بينه وبين مغلّس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم، فعزله. واستعمل إبراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالاً يسمون لهم قوماً يعملون بكتاب الله. فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضميّ ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيولّيهم الثغرين؛ ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن. فاستأذن سلم بن أحوز نصراً في الفتك بالحارث، فأبى وولّى إبراهيم الصائغ، وكان يوجّه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أ،ه صاحب الرّايات السود؛ فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني أميّة، فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر؛ فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك؛ وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فأذكرك الله في عشرين ألفاً من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم. وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ما وراء النهر، ويعطيه ثلثمائة ألف؛ فلم يقبل؛ فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرمانيّ فإن قتلته فأنا في طاعتك، وإن شئت فخلّ بيني وبينه؛ فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك؛ فإذا جزت الرّيّ فأنا في طاعتك.

قال: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بن حيان وجهم بن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى. فلم يقبل نصر. وكان جهم يقصّ في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصراً، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصيّر سلماً في المدينة في منزل ابن سوّار، وضمّ إليه الرّابطة وإلى هدبة بن عامر الشعراويّ فرساً، وصيّره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بن يزيد بن حيّان السلميّ، وحوّل السلاح والدّواوين إلى القهندز، واتّهم قوماً من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتّهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولاّهم واصطنعهم عن يمينه؛ ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم؛ كيف أظفر الله به؛ ثم قال: أحمد الله وأذم من على يساري؛ وليت خراسان فكنت يا يونس بن عبد ربّه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرّجالة، فوليتكم إذ ووليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ، ثم ملأتم الحارث عليّ، فهلاّ نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه. فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم.
وقدم على نصر من كورخراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة؛ منهم عاصم بن عمير الصريميّ وأبو الذّيال الناجيّ وعمرو الفادوسبان السغديّ البخاريّ وحسان بن خالد الأسديّ من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثيّ ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسعد الصّغير في فرسان.

وكتب الحارث بن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير؛ فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه الحارث، فأتى نصراً هبيرة بن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بن سريج عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وأرسل من ليلته عاصم بن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بن عبد الرحمن: ما نفعل شعارَنا غدا؟ فقال مقاتل بن سليمان: إن الله بعث نبياً فقاتل عدواً له، فكان شعاره "حم لا ينصرون"، فكان شعارهم "حم لا ينصرون"، وعلامتهم عليّ الرّماح الصوف.

وكان سلم بن أحوز وعاصم بن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بن مالك والجماعة في طرف الطخارّية ويحيى بن حضين وربيعة في البخاريّين. ودلّ رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور - بشعار الحارث - وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بن مسعود الناجيّ، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بن أحوز فقاتلهم عصمة بن عبد الله الأسديّ وخضر بن خالد والأبرد بن داود من آل الأبرد بن قرّة، وعلى باب بالين حازم بن حاتم، فقتلوا كلّ من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع؛ ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلميّ إلاّ الدوابّ والسلاح؛ وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.

قال: وأتى نصراً رسول سلم يخبره دنوّ الحارث منه، وأرسل إليه: أخّره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضاً محمد بنم قطن بن عمران الأسديّ، أنه قد خرج عليه عامّة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم.

وكان الذي أهاج القتال، أنّ غلاماً للنضر بن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب اعلحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمى غلاماً لعاصم في عينه فمات؛ فقاتلهم ومعه عقيل بن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم؛ فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخاريّة، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه؛ فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيّان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بن عامر الحمانيّ ومحمد بن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم؛ فلما دنا منه رمى به فرسه؛ فدخل حانوتاً، وضرب برذونه على مؤخره فنفق. قال: وركب سلم حين أصبح إلى باب نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر منادياً، فنادى: من جاء برأس فله ثلثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بن مجّاعة بن سعد، فقتلوه. وانتهى سلم إلى عسكر الحارث؛ وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهياً حتى أدخل المدينة على هذا الدبّوسيّ؛ فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بن بسام إلى باب درسنكان - وهو القهندز - فوجده مردوماً، فصعد عبد الله بن مزيد الأسديّ السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكّل بالباب أبا مطهّر حرب بن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بن سريج، واسمه يزيد بن داود، وأتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلاً من الجزّارين كان دلّ الحارث على النقب؛ فقال المنذر الرقاشيّ ابن عمّ يحيى بن حضين، يذكر صبر القاسم الشيبانيّ:

ما قاتل القوم منكم غير صاحبـنـا                  في عصبة قاتلوا صبراً فما ذعروا
هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا               حتى أتاهم غياث الله فانتـصـروا
فقاسم بعد أمر الـلـه أحـرزهـا                       وأنت في معزل عن ذاك مقتصر

ويقال: لما غلظ أمر الكرمانيّ والحارث أرسل نصر إلى الكرمانيّ، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بن ثابت القاضي ومقدام بن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامديّ وسلم بن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرمانيّ أن أسعد الناس بذلك؛ فوقع بين سلم بن أحوز والمقدام كلام؛ فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغديّ بن عبد الرحمن الحزميّ، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرمانيّ أن يكون مكراً من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة.

قال فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إماماً، فأرسل إليه نصر: كيف يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرّع إليك أكثر مما تضرّعت!. قال فأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهميّة، فقال لسلم: إن لي ولثاً من ابنك حارث؛ قال: ما كان ينبغي له أن يفعل؛ ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إليّ عيسى بن مريم ما نجوت؛ والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك؛ والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت؛ وأمر عبد ربّه بن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز - وكان جهم يكنى أبا محرز. وأسر يومئذ هبيرة بن شراحيل وعبد الله بن مجّاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم. ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بن منيع فقتل. قال: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتماً إلى الكرمانيّ، فقال له محمد بن المثنّى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان؛ فبعث الكرمانيّ السغديّ بن عبد الرحمن الحزميّ معه، فدخل السغديّ المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازة الكرمانيّ، ومع الكرمانيّ داود ابن شعيب الجدّانيّ ومحمد بن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرمانيّ، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بن محمد بن عزيز أبو خلف، فلمّا كان الغد سار الكرمانيّ إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بن سلم المراغيّ، وأخذوا علم عثمان بن الكرمانيّ؛ فأوّل من أتى الكرمانيّ بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلاّق السغديّ وعبد الواحد بن المنخّل. ثم أتاه سوادة بن سريج وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذريّ، أتوه ببيعة الحارث بن سريج.

وأول من بايع الكرمانيّ يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ، فوجه الكرمانيّ إلى الحارث بن سريج سورة بن محمد الكنديّ إلى أسمانير والسغديّ بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعباً أو صعيباً، وصبّاحاً، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرمانيّ إلى باب حرب بن عامر، ووجّه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. قال: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد؛ حتى وصلوا إلى الكرمانيّ، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بن تميم وعليه تهجفاف، فرموه بالنّشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه؛ فشبّ به فرسه، وحمل فطعن حبيشاً فأذراه عن برذونه، فقتله رجّالة الكرمانيّ بالعصيّ.

قال: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرساً، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين؛ أخذ أحدهما السغديّ بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بن أحوز، فتناول من ابن أخيه عموداً فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بن الحدّاد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسديّ، وكان يحمى أصحاب نصر؛ فأدركه صالح بن القعقاع الأزديّ، فقال له عصمة: تقدّم يا مزنيّ، فقال صالح: أثبت يا حصي - وكان عقيماً - فعطف فرسه فشبّ فسقط، فطعنه صالح فقتله.
وقاتل ابن الديليمريّ، وهو يرتجز؛ فقتل إلى جنب عصمة. وقتل عبيد الله بن حوتمة السلميّ، رمى مروان البهرانيّ بجرزة؛ فقتل؛ فأتى الكرمانيّ برأسه فاسترجع - وكان له صديقاً - وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم فعرفه فتركه. واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرّية اليمن، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن؛ قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع؛ ففتّ في أعضاد المضرّية. وكان أوّل من انهزم إبراهيم بن بسام الليثيّ، وترجّل تميم بن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بن جامع الكنديّ، وقتلوا هيّاجاً الكلبيّ ولقيط بن أخضر؛ قتله غلام لهانىء البزّار.

قال: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهّبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتّسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بن قطن إلى الكرمانيّ: إنك لست مثل هذا الدبّوسيّ، فاتّق الله، لا تشرع في الفتنة. قال: وبعث تميم بن نصر شاكريّته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع؛ فرماهم أصحاب الكرمانيّ من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بن معقل لمحمد بن المثنّى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرمانيّ! هلّم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إنّ نصراً لم يفِ لنا، فلسنا ندع حربه. وكان أصحاب الحراث والكرمانيّ يرمون نصراً وأصحابه بعرّادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوّله، فوجه إليهم سلم ابن أحوز فاقتلهم؛ فكان أوّل الظفر لنصر، فلما رأى الكرمانيّ ذلك أخذ لواءه من محمد بن محمد بن عميرة، فقاتل به حتى كسره. وأخذ محمد بن المثنى والزّاغ وحطّان في كارابكل، حتى خرجوا على الرّزيق، وتميم بن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنحّ يا صبيّ. وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصرن وقتلوه؛ وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفراً من شاكريّته. وحمل الخضر بن تميم على سلم بن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه؛ وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق.

قال: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّرونني بانهزامكم؛ وأنا كافّ؛ فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانيّ، فبعث إليه نصر يزيد النحويّ أو خالداً يتوثّق منه؛ أن يفي له بما أعطاه من الكفّ. ويقال: إنما كفّ الحارث عن قتال نصر أن عمران بن الفضل الأزديّ وأهل بيته وعبد الجبار العدويّ وخالد بن عبيد الله بن حبيب العدويّ وعامة أصحابه نقموا على الكرمانيّ فعله بأهل التبوشكان؛ وذلك أن أسداً وجهّه إليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلاً وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد، فنقموا على الحارث عونه الكرمانيّ، وقتاله نصراً. فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: إن مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرمانيّ؛ لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما؛ فإنهما يختلفان. وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدويّ وعمر بن أبي الهيثم الصغديّ، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرمانيّ؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسياً؛ ما أحلك هذا المحلّ! فلما رجع نصر إلى مرو أمر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسلم بن أحوز وسنان الأعرابيّ، فقال نصر لنسائه: إنّ الحارث سيخلفني فيكنّ ويحميكنّ. فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمراً قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامريّ، فأرسل إليه نصر بن سيار سناناً الأعرابيّ ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصراً بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحيّ من قيس؛ فإنما كانت عاتبة، فقال نصر:

أنا ابن خندف تنميني قبائلهـا            للصالحات وعمّي قيس عيلانا

وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن وخالد بن عبد الرحمن في نظرائهم.

قال: وتقدّم عبّاد بن عمر الأزديّ وعبد الحكيم بن سعيد العوذيّ وأبو جعفر عيسى بن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك؛ طالت ولايتها في ولايتك، وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء. فقال عبّاد: أتستقبل الأمير بنهذا الكلام! قال: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بن جرز - وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطلّ أمرٌ عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر عليّ. فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانيّ من ذلك ببعيد. فوصله نصر. قال: وكان سلم بن أحوز يقول: ما رأيت قوماً أكرم إجابةً، ولا أبذل لدمائهم من قيس.

قال: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرمانىّ، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقاً لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بن حيّان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرمانيّ في خيمة في العسكر، فكلّمه معمّر بن مقاتل بن حيّان - أو معمر بن حيان - فخلاه، فأتى الكرمانيّ المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرمانيّ الناس، وآمنهم غير محمد بن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بن أبي داود بن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه؛ ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرمانيّ في مصلّى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهمّ الكرمانيّ به، ثم كفّ عنه، فأقام أياماً. وخرج بشر بن جرموز الضبيّ بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنّة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذْ كنت مع الكرمانيّ، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبيّة، فلست مقاتلاً معك. واعتزل في خمسة آلاف وخمسمائة - ويقال في أربعة آلاف - وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحقّ ولا نقاتل إلاّ من يقاتلنا. وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرمانيّ يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرمانيّ، وبعث الحارث ابنه محمداً فحمل ثقله من دار تميم بن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر؛ أن الزموا الحارث مناصحةً فأتوه؛ فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إليّ بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه. وكان من مدبّري عسكر الكرمانيّ مقاتل بن سليمان، فأتاه رجل من البخاريّين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البيّنة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بن شيخ الأزديّ، فأمر مقاتل فصكّ له إلى بيت المال. قال: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرمانيّ: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرّم الله من دمائكم؛ فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحراث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحةً في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله؛ ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتقوا الله وراجعوا الحقّ، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.

فأقاموا أياماً، فأتى الحارث بن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بن أبي الهيثم، فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت. فأقام القاسم الشيبانيّ وربيع التيميّ في جماعة، ودخل الكرمانيّ من باب سرخس، فحاذى الحارث؛ ومرّ المنخّل بن عمرو الأزديّ فقتله السميدع؛ أحد بني العدويّة، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرمانيّ على ميمنته داود بن شعيب وإخوته: خالداً ومزيداً والمهلب، وعلى ميسرته سورة بن محمد بن عزيز الكنديّ، في كندة وربيعة. فاشتدّ الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرساً فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بن جرموز وقطن بن المغيرة بن عجرد، وكفّ الكرمانيّ، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرمانيّ مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوماً، قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذك سنة ثمان وعشرين ومائة. وأصاب الكرمانيّ صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أمّ ولده ثم خلّى عنها، وكانت عند حاجب بن عمرو بن سلمة بن سكن بن جون بن دبيب. قال: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: بم تستحل ماله؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان، فأتى به منزله.

قال عليّ:، قال زهير بن الهنيد: خرج الكرمانيّ إلى بشر بن جرموز، وعسكر خارجاً من المدينة؛ مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرمانيّ، فأقام الكرمانيّ أياماً بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدّم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدّم. وندم الحارث على اتباع الكرمانيّ، فقال: لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس؛ حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريّون ينسلّون من عسكر الكرمانيّ إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرمانيّ مضريّ غير سلمة بن أبي عبد الله، مولى بني سليم؛ فإنه قال: والله لا أتبع الحارث أبداً فإني لم أره إلا غادراً والمهلّب بن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلا في خيل تطّرد. فقاتلهم الكرمانيّ مراراً يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرّةً لهؤلاء ومرّة لهؤلاء، فالتقوا يوماً من أيامهم، وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعيّ، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم؛ حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لامه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امرأتي طالق إن لم آتك ببرذون أفره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: أيّ برذون في عسكرهم أفره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزيّ - وأشاروا إلى موقفه - حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلّق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثداً، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قال: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك أياماً، ثم ارتحل الحارث ليلاً، فأتى حائط مرو فنقب باباً، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضريّة للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرّة، فترجّل. فقال: أنا لكم فارساً خير مني لكم راجلاً، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل اعلحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل

يا مدخل الذلّ على قومـه            بعداً وسحقاً لك من هالك!
شؤمك أردى مضراً كلّهـا              وغض من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعهـا              تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعد إذا ألجـمـوا             كل طمر لونـه حـالـك

ويقال: بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة المازّنيّ.

وقالت أم كثير الضبيّة:

لا بارك الله في أنثـى وعـذّبـهـا               تزوجت مضرباً آخـر الـدهـر
أبلغ رجال تمـيم قـول مـوجـعة               أحللتموها بدار الـذلّ والـفـقـر
إن أنتم لم تكروا بعد جـولـتـكـم             حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكـم      هذا المزونيّ يجبيكم على قـهـر

وقال عبّاد بن الحارث:

ألا يا نصر قد برح الخـفـاء                 وقد طال التمنّي والـرجـاء
وأصبحت المزون بأرض مرو               تقضّى في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكـم              على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قـعـود              ترقرق في رقابهم الـدمـاء
فإن مضر بذا رضيت وذلـت                فطال لها المذلّة والشـقـاء
وإن هي أعتبـت فـيهـا وإلا                فحل على عساكرها العفـاء

وقال:

ألا يا أيها المـرء ال               ذي قد شفّه الطـرب
أفق ودع الذي قد كن           ت تطلبه ونطّـلـب
فقد حدثت بحضرتنـا            أمور شأنها عـجـب
الأزد رأيتهـا عـزّت                بمرو وذلت العـرب
فجاز الصفر لمّا كـا               ن ذاك وبهرج الذهب

وقال أبو بكر بن إبراهيم لعليّ وعثمان ابني الكرمانيّ:

إني لمرتحل أريد بمـدحـتـي              أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلـم يزالا نـجـعةً            لا يعدم الضيف الغريب قراهما
يستعليان ويجريان إلى الـعـلا            ويعيش في كنفيهما حيّاهـمـا
أعـنـى عـلـيّاً إنّـه ووزيره                   عثمان ليس يذلّ من والاهـمـا
جرياً لكيما يلحقـا بـأبـيهـمـا              جري الجياد من البعيد مداهمـا
فلئن هما لحقا به لمـنـصـب              يستعليان ويلحقـان أبـاهـمـا
ولئن أبرّ عليهما فلـطـالـمـا                جريا فبذّهما وبذّ سـواهـمـا
فلأمدحنّهما بمـا قـد عـاينـت              عني وإن لم أحص كلّ نداهمـا
فهما التّقيّان المشار إلـيهـمـا            الحاملان الكاملان كـلاهـمـا
وهما أزالا عن عريكة ملـكـه               نصراً ولا في الذلّ إذ عاداهمـا
نفيا ابن أقطع بعد قتل حمـاتـه           وتقسّمت أسلابه خـيلاهـمـا
والحارث بن سريج إذا قصدوا له           حتى تعاور رأسه سيفـاهـمـا
أخذا بعفو أبيهمـا فـي قـدره               إذ عزّ قومهما ومن والاهـمـا

وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله؛ فإني قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك؛ فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه عليّ، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجّه أبا مسلم على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبداً، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة، ثم قال: يا عبد الرحمن، إنك رجل منّا أهل البيت؛ فاحتفظ وصيّتي، وانظر هذا الحيّ من اليمن فأكرمهم، وحلّ بين أظهرهم؛ فإن الله لا يسمّ هذا الأمر إلا بهم؛ وانظر هذا الحيّ من ربيعة فاتّهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحيّ من مضر؛ فإنهم العدوّ القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء؛ وإن استطعت ألاّ تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله، ولا تخالف هبذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.

ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجيّ

وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجيّ، فيما قال أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بن محمد عنه.

ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك

ذكر أنّ الضحاك لما حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بن جمهور، ورأى عبد الله بن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه؛ إن مقامكم عليّ ليس بشيء؛ هذا مروان فسر إليه؛ فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه.

فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقيَ مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا.
وأما أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، فقال فيما حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه أن الضّحاك لما قتل عطية الثعلبيّ صاحبَه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط، وجّه مكانه من أصحابه رجلاً يقال له مطاعن؛ واصطلح عبد الله بن عمر والضحاك عن أن يدخل في طاعته؛ فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضّحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكّنوه منها؛ فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهراً، حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان؛ وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة يقال له القطران بن أكمه، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى الضّحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه؛ وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلّف بحرّان قائداً في ألف أو نحو ذلك؛ وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحاك؛ فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائة والراجل والبغال المائة والثمانين في كلّ شهر؛ وأقام الضحاك على نصيبين محاصراً لها، ووجّه قائدين من قوّاده يقال لهما عبد الملك بن بشر التغلبيّ، وبدر الذّكوانيّ مولى سليمان بن هشام، في أربعة آلاف أو خمسة آلاف حتى وردا الرّقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان؛ وهم نحو من خمسمائة فارس، ووجّه مروان حين بلغه نزولهم الرّقة خيلاً من روابطه؛ فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضّحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من ساقتهم نيّفاً وثلاثين رجلاً، فقطعهم مروان حين قدم الرّقة، ومضى صامداً إلى الضّحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا، فقاتله يومه ذلك؛ فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجّل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه، وأحدقت بهم خيول مروان فألحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم؛ ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن الضّحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل. وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك بن بشر التغلبيّ القائد الذي كان وجّهه في عسكرهم إلى الرّقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أنّ الضحاك قتل، فأرسل معه رسلاً من حرسه، معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلّبا القتلى حتى استخرجوه، فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضّحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها.

وقيل: إن الخيبريّ والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة.

ذكر الخبر عن مقتل الخيبريّ وولاية شيبان

وفي هذه السنة كان أيضاً - في قول أبي مخنف - قتل الخيبريّ الخارجيّ، كذلك ذكر هشام عنه.

ذكر الخبر عن مقتله حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره بايعوا الخيبريّ، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافّوه وصافّهم، وسليمان بن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبريّ؛ وقد كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين؛ وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوّج فيهم أخت شيبان الحروريّ الذي بايعوه بعد قتل الخيبريّ، فحمل الخيبريّ على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشّراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هارباً، ودخل الخيبريّ فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبريّ يا خيبريّ، ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبريّ على فرشه. وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالهاا، وميسرته ثابتة عليها إسحاق بن مسلم العقيليّ، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبريّ وأصحابه جميعاً في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزماً، فانصرف إلى عسكره وردّ خيوله عن مواضعها ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره. فانصرف أهل عسكر الخيبريّ فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ. وكان مروان يوم الخيبريّ بعث محمد بن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه إلى الخيبريّ، فبلغه أنه ما لأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتيَ به مروان أسيراً فقطع يده ورجله ولسانه.

وفي هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج.

وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز؛ كذلك قال أبو معشر - فيما حدّثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه. وكذلك قال الواقديّ وغيره.

وقال الواقديّ: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وآخذ نعيم بن ثابت الجزاميّ فقتله في شوال سنة ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل.

وكان العامل على المدينة ومكة والطائف - فيما ذكر - في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وبالعراق عمّال الضحاك وعبد الله بن عمر، وعلى قضاء البصرة ثُمامة بن عبد الله، وبخراسان نصر بن سيّار وخراسان مفتونة.

خبر أبي حمزة الخارجيّ مع عبد الله بن يحيى

وفي هذه السنة لقي أبو حمزة الخارجيّ عبد الله بن يحيى طالب الحق فدعاه إلى مذهبه.

ذكر الخبر عن ذلك: حدّثني العباس بن عيسى العقيليّ، قال: حدّثنا هارون بن موسى الفرويّ، قال: حدّثني موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: كان أوّل أمر أبي حمزة - وهو المختار بن عوف الأزديّ السبّليميّ من البصرة - قال موسى: كان أول أمر أبي حمزة أنه كان يوافي كلّ سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وإلى خلاف آل مروان. قال: فلم يزل يختلف في كلّ سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، أسمع كلاماً حسناً، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان.

وقد حدّثني محمد بن حسن أن أبا حمزة مرّ بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطاً، ثم مضى إلى مكّة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيّب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.