المجلد السابع - ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروريّ

فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ ابي الدّلفاء.

ذكر الخبر عن سبب مهلكه: وكان سبب ذلك أنّ الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بن محمد يحاربونه لمّا قتل الضحاك بن قيس الشيبانيّ رئيس الخوارج والخيبريّ بعده، ولّوا عليهم شيبان وبايعوه؛ فقاتلهم مروان، فذكر هشام بن محمد والهيثم بن عديّ أنّ الخيبريّ لما قتل قال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج - وكان معهم في عسكرهم: إنّ الذي تفعلون ليس برأي؛ فإن أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إنّ أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق. ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقيّ دجلة ومروان بإزائهم؛ فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بن عمر بن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشأم وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنّى بن عمران؛ من عائذة قريش من الخوارج.

وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان مروان بن محمد يقاتل الخوارج بالصّف، فلما قتل الخيبريّ وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرّق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفاً، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيّروها ظهراً وملجأً وميرةً لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا ليلاً، وأصبح مروان فأتبعهم؛ ليس يرحلون عن منزل إلا نزله؛ حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطىء دجلة من عسكرهم إلى المدينة؛ فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشيّةً.

قال: وأتيَ مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان بن هشام في عسكر شيبان بالموصل؛ فهو مبارز رجلاً من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتيَ به أسيراً، فقال له: أنشدك الله والرحِم يا عمّ! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به - وعمه سليمان وإخوته ينظرون - فقطعت يداه وضربت عنقه.

قال: وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضّحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التّمر، فقاتلهم فهزمهم؛ وعليهم يومئذ المثنّى بن عمران من عائذة قريش والحسن بن يزيد؛ ثم تجمّعوا له بالكوفة بالنّخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصّراة ومعهم عبيدة؛ فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقيّة بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بن محمد من الخنادق يأمره أن يمدّه بعامر بن ضبارة المرّيّ، فوجّهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية؛ وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجّهوا غليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسنّ دون الموصل، فقاتلوه قتالاَ شديداً، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، وأعلمهم أنه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم؛ فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قوّاده في ثلاثين ألفاً من روابطه؛ أحدهم مصعب بن الصّحصح الأسديّ وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج:

قد علمت أختاك يا شقيق            أنك من سكرك ما تفيق

وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرّقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان، فأقام بها حتى شخص إلى الزّاب.

وأمّا أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه - قال: أمر مروان يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان في جنود كثيرة من الشأم وأهل الجزيرة بقرقيسيا - أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنّى بن عمران العائذيّ؛ عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التّمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصّراة، وبعث شيبان عبيدة بن سوّار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقيّ الصّراة، وابن هبيرة في غربيّها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدّة من أصحابه؛ وكان منصور بن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط؛ فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطىء دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم. وفي ذلك يقول خلف بن خليفة:

نفسي لداود الفدا والحـمـى           إذ أسلم الجيش أبـا حـاتـم
مهلّبـيّ مـشـرق وجـهـه                 ليس على المعروف بالنـادم
سألت من يعلم لي عـلـمـه            حقاً وما الجاهل كالـعـالـم
قالوا عهدناه علـى مـرقـب             يحمل كالضرغامة الصـارم
ثم انثنى مـنـجـدلاً فـي دم            يسفح فوق البدن الـنـاعـم
وأقبل القبط عـلـى رأسـه              واختصموا في السيف والخاتم

وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفريّ بفارس. وأقام ابن هبيرة شهراً. ثم وجّه عامر بن ضبارة في أهل الشأم إلى الموصل؛ فسار حتى انتهى إلى السنّ فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجيّ، فهزم عامر بن ضبارة حتى أدخله السنّ فتحصّن فيها، وجعل مروان يمدّه بالجنود يأخذون طريق البرّ؛ حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا. وكان منصور بن جمهور يمدّ شيبان بالأموال من كور الجبل؛ فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود؛ نهض إلى الجون بن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعداً إلى الموصل.؛ فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين؛ فارتحل بمن معه وفرسان الشأم من اليمانية. وقدم عامر بن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضمّ إليه جنوداً من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان؛ فإن أقام أقام؛ وإن سار سار؛ وألاّ يبدأه بقتال؛ فإن قاتله شيبان قاتله؛ وإن امسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتّبعه؛ فكان على ذلك حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء إصطخر، وبها عبد الله بن معاوية أياماً، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم؛ ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك هبا؛ وذلك في سنة ثلاثين ومائة.

وأما أبو عبيدة فإنه قال: لما قتل الخيبريّ قام بأمر الخوارج شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما؛ وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قوّاد أهل الشأم وأهل الجزيرة. فوجّه عامر بن ضبارة في أربعة آلاف مدداً لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجّه إليه الجون بن كلاب الشيبانيّ ليشغله، فالتقيا بالسنّ، فحصر الجون عامراً أياماً.

قال أبو عبيدة: قال أبو سعيد: فأحرجناهم والله، واضطررناهم إلى قتالنا؛ وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا؛ فلم ندع لهم مسلكاً. فقال لهم عامر: أنتم ميّتون لا محالة؛ فموتوا كراماً، فصدمونا صدمة لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا؛ حتى نزل منّا قريباً؛ وكنا نقاتل من وجهين؛ نزل ابن ضبارة من ورائنا ممّا يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشأم؛ فقطع عنا المادّة والميرة، فغلت أسعارنا؛ حتى بلغ الرغيف درهماً؛ ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغالٍ ولا رخيص. فقال حبيب بن خدرة لشيبان: يا أمير المؤمنين؛ إنك في ضيق من المعاش؛ فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه؛ فاختلفت كلمتهم.

وقال بعضهم: لما ولي شيبان أمر الخوارج رجع بأصحابه إلى الموصل فاتّبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهراً ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في أثره عامر بن ضبارة فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندي بن مسعود ابن جيفر بن جلندي الأزديّ.