المجلد السابع - خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس

خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ ابن عبد الله بن عباس

ذكر الخبر عن سبب خلافته

وكان بدء ذلك - فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه أعلم العباس ابن عبد المطلب أنه تؤول الخلافة إلأى ولده، فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك، ويتحدّثون به بينهم.

وذكر عليّ بن محمد أن إسماعيل بن الحسن حدّثه عن رشيد بن كريب، أنّ أبا هاشم خرج إلى الشأم، فلقي محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، فقال: يا بن عمّ، إن عندي علماً أنبذه إليك فلا تطلعنّ عليه أحداً؛ إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس، فيكم. قال: قد علمت فلا يسمعنّه منك أحد.

قال عليّ: وأخبرنا سليمان بن داود، عن خالد بن عجلان، قال: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس؛ إنما كنا نتخوّف لو كان من خراسان.

وقال عليّ: أخبرنا الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجيّ ويحيى بن طفيل والنعمان بن سريّ وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بن عليّ ابن عبد الله بن عباس، قال: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاة، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبّارون فيها. فلمّا قتل يزيد بن أب يمسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بن عليّ رجلاً إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمّي أحداً.

وقد ذكرنا قبل خبر محمد بن عليّ، وخبر الدّعاة الذي وجههم إلى خراسان. ثم مات محمد بن عليّ وجعل وصيّه من بعده ابنه إبراهيم؛ فبعث إبراهيم بن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فردّه ومعه أبو مسلم. وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره.

ثم وقع في يد مروان بن محمد كتاب لإبراهيم بن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربيّة بخراسان. فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بن محمد ويوجّه به إليه. فذكر أبو زيد عمر بن شبّة أن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، حدّثه عن عثمان بن عروة ابن محمد بن عمار بن ياسر، قال: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقّصهما، إذ قال لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قال: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني أخرج إليهم، قال: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بن ياسر! قال: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبحح، ثم قالوا للشاميّين الذين معهم: أين إبراهيم بن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه؛ وقد كان مروان أمرهم بأخذ إبراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم؛ فلما أتوه بإبراهيم، قال: ليس هذه الصّفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردّهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرّاباً.

قال عمر: وحدّثني عبد الله بن كثير بن الحسن العبديّ، قال: أخبرني عليّ بن موسى، عن أبيه، قال: بعث مروان بن محمد رسولاً إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بن محمد، ووصف له صفته، فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بن محمد، فلما ظهر إبراهيم بن محمد وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم؛ وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به. قال: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أمّ ولد له كان بها معجباً، فقلنا له: إنما أتاك رجل، فهلمّ فلنقتله ثم ننكفىء إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال: ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق. قال: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعّب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلاً؛ وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أمّ ولده، فأتينا للأمر الذي اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت: هذا وقت لم تكن تخرج فيه؛ فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشأم أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحداً بالحميمة إلاّ قتله؛ ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم.

قال عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميدي بن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قال: قلت لمروان بن محمد: أتتّهمني؟ قال: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قال: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سبباً لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره. قال: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه؛ ولكن ليس بصاحب ذلك.

وذكر أن إبراهيم بن محمد حين أخذ للمضيّ به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيّعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده؛ فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته؛ منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو عليّ ويحيى ابن محمد وعيسى بن موسى بن محمد بن عليّ، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بن داود ويحيى بن جعفر بن تمام؛ حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القوّاد والشيعة. وأراد - فيما ذكر - أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بن محمد؛ فذكر عليّ بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ وأبا السريّ وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قال: لم يقدم بعد، فألحّ عليه يسأله، قال: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادماً لأبي العباس، ييقال له سابق الخوارزميّ، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأنّ أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرّح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بن سلمة رجل كان معهم، فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الإمام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه؛ لأن واسطاً لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موشى بن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعيّ وسلمة ابن محمد وإبراهيم بن سلمة وعبد الله الطائيّ وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وأبو حمييد محمد بن إبراهيم وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا إلى الكوفة في حاجة لهم.

وأتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيّكم عبد الله بن محمد ابن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة؛ فرجع موسى بن كعب وأبو الجهم الآخرين؛ فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامي. فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أنّ أبا سلمة قد أتاكم؛ فلا يدخلنّ على الإمام إلاّ وحده؛ فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس.

وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلّى بالناس؛ فأخبرنا عمارة مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلميّ أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قال له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه! فقال له أبو العباس: مّهْ! وذكر أنّ أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بن عليّ فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرّفه وعظّمه، واختاره لنا وأيّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوّام به، والذّابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقّنا من نبعته؛ جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا، حريصاً علينا بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم، فقال عزّ من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"، وقال: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى" وقال: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، وقال: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى" فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودّتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا، وفضلاً علينا، والله ذو الفضل العظيم.

وزعمت السبيّئة الضلاّل، أن غيرنا أحقّ بالراسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيّها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحقّ، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمّ بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرّ ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخواناً على سرر متقابلين في آخرتهم؛ فتح الله ذلك منّةً ومنحةً لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدّلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصاً منها. ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزّوها وتدالولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفون انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقّنا، وتدارك بنا أمّتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استُضعفوا في الأرض؛ وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألاّ يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح؛ وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم محلّ محبّتنا ومنزل مودّتنا. أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم؛ حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا؛ فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا؛ وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.

وكان موعوكاً فاشتدّ به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بن عليّ فقام دونه على مراقي المنبر، فقال:الحمد للله شكراً شكراً شكراً؛ الذي أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدّنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه؛ وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه؛ في أهل بيت نبيّكم، أهل الرأفة والرّحمة بكم والعطف علكيم. أهييا الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، ولا نبني قصراً؛ وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم؛ ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتدّ علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم؛ واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم. لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذمة العبّاس رحمه الله؛ أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تبّاً تبّاً لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدّتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم فيي العباد؛ وسنّتهم في البلاد التي بها استلذّوا تسربل الأوزار، وتجليبب الآصار، ومرحوا في أعنّة المعاصي، وركضوا في ميادين الغيّ؛ جهلاً باستدراج الله، وأمناً لمكر الله؛ فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومُزّقوا كلّ ممزّق، فبعداً للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غرّه بالله الغرور، أرسل لعدوّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظنّ عدوّ الله أن لن نقدر علييه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه؛ فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقنا وإرثنا.

أيّها الناس؛ إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزييزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد الصّلاة؛ أنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فييه شدّة الوعك؛ وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوّ الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهّل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار؛ الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى.

فعجّ الناس له بالدعاء. ثم قال: يا أهل الكوفة؛ إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقّنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقّنا، وأفلج بهم حجّتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، وإليه تتشوّفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشأم، ونقل إليكم السلطان، وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة. فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصراً؛ وإنكم مصرنا. ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد - وأشار بيده إلى أبي العباس - فاعلموا أنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.

ثم نزل أبو العباس وداود بن عليّ أمامه؛ حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم؛ حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنّهم الليل، فدخل.

وذكر أن داود بن عليّ وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بن محمد وعبد الله بن عليّ وعيسى بن موسى ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصّتكم؟ فقصّ عليه أبو العباس قصّتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفة وشيخ بني مروان؛ مروان ابن محمد بحرّان مطلٌ على العراق في أهل الشأم والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحبّ الحياة ذلّ، ثم تمثل بقول الأعشى:

فما ميتة إن متها غير عاجـز            بعار إذا ما غالت النفس غولها

فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نمت كراماً، فرجعوا جميعاً، فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفراً أربعة عشر رجلاً خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همّهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.

ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث

في سنة اثنتين وثلاثين ومائة

تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ وما كان من أمره: قال أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ ما حضرنا ذكره قبل، عمّن ذكرنا ذلك عنه؛ وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضاً ما أنا ذاكره؛ وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء إلى ولد العباس وأضمر الدّعاء لغيرهم؛ وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمّام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادماً لإبراهيم يقال له سابق الخوارزميّ، فعرفه، وكان يأتيهم بالشأم فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أنّ مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامّة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غداً في هذا الموضع، وكره سابق أن يدلّه عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقاً، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بن عليّ: هذا إمامكم وخليفتكم - وأشار إلى أبي العباس - فسلم عليه بالخلافة، وقبّل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزّاه بالإمام إبراهيم.

وقد كان إبراهيم بن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكراً، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم، وأنّ أبا العباس كان سرّحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمّال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها إليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد ومعهما إبراهيم بن سلمة، حتى دخلوا على موسى بن كعب، فقصّ عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بن سلمة، فقال موسى بن كعب: عجل البعثة إليه بالدّنانير وسرّحه. فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بن سلمة، وحمله على بغل وسرّح معه رجلين، حتى أدخلاه الكوفة، ثم قال أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده؛ فردّ عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد.

فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بن سلمة أبا الجهم وموسى بن كعب، فبلّغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القوّاد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بن كعب؛ منهم عبد الحميد بن ربعيّ وسلمة بن محمد وعبد الله الطائيّ وإسحق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وغيرهم من القوّاد. فأتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفة وزعيمهم موسى بن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميريّ - وهو محمد بن إبراهيم - فانتهوا إلى دار الوليد بن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيّكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزّوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلّفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بن الحارث ونهار بن حصين ويوسف بن محمد وأبا هريرة محمد بن فروخ.

فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال: أين كنت يا أبا الجهم؟ قال: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بن صدّان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلّم على أبي العباس بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: إن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده؛ فإن دخل وبايع فسبيله ذلك؛ وإلا فاضربوا عنقه؛ فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفّوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدوابّ، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر بيع الآخر. ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الربّ تبارك وتعالى وفضل النبي صلى الله عليه وسلم، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيراً ثم سكت.

وتكلّم داود بن عليّ وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيّها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة إلا عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي لخفي. ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمّه داود بن عليّ، وبعث عمه عبد الله بن عليّ إلى أبي عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهراً ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشميّة في قصر الكوفة، وقد كان تنكّر لأبي سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك.