المجلد السابع - ذكر خبر شخوص أبي جعفر إلى خراسان

ذكر خبر شخوص أبي جعفر إلى خراسان

وفي هذه السنة شخص أبو جعفر إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان.

ذكر الخبر عن سبب مسير أبي جعفر في ذلك وما كان من أمره وأمر أبي مسلم في ذلك قد مضى ذكري قبل أمر أبي سلمة، وما كان من فعله فيي أمر أبي العباس ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة، الذي صار به عندهم متّهماً؛ فذكر عليّ بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ قال: قال يزيد بن أسيد: قال أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمير المؤمنين سمرنا ذات ليلة، فذكرنا ما صنع أبو سلمة، فقال رجل منا: ما يدريكم، لعلّ ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم! فلم ينطق منّا أحد، فقال: أمير المؤمنين أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا لبعرض بلاء؛ إلاّ أن يدفعه الله عنّا. وتفرّقنا. فأرسل إليّ أبو العباس، فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك، فقال: ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك، فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك؛ فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.

فخرجت على وجل؛ فلما انتهيت إلى الريّ، إذا صاحب الريّ قد أتاه كتاب أبي مسلم: إنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجّه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه عليك. فلما قدمت أتاني عامل الريّ فأخبرني بكتاب أبي مسلم، وأمرني بالرّحيل، فازددت وجلاً، وخرجت من الريّ وأنا حذرٌ خائف فسرت؛ فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم، فإن أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه. فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري. فسرت، فلما كنت من مرو على فرسخين، تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا منّي أقبل يمشيإليّ؛ حتى قبّل يدي، فقلت: اركب، فركب فدخل مرو، فنزلت داراً فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة! أكفيكموه! فدعا مرّارا ابن أنس الضبيّ، فقال: انطلق إلى الكوفة، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته؛ وانته في ذلك إلى رأي الإمام. فقدم مرار الكوفة؛ فكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد في يطريقه، فلما خرج قتله فقالوا: قتله الخوارج.

قال عليّ: فحدثني شيخ من بني سليم، عن سالم، قال: صحبت أبا جعفر من الرّيّ إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدّار ويجلس في اعلدهليز، ويقول: استأذن لي، فغضب أبو جعفر عليّ، وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته. ففعلت وقلت لأبي مسلم: إنه قال كذا وكذا، قال: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه.

وقد قيل: إنّ أبا العباس قد كان تنكّر لأبي سلمة قبل ارتحاله من عسكره بالنخيلة، ثم تحوّل عنه إلى المدينة الهاشميّة، فنزل قصر الإمارة بها، وهو متنكر له، قد عرف ذلك منه، وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه، وما كان همّ به من الغشّ، وما يتخوّف منه، فكتب أبو مسلم إلى أمير المؤمنين: إن كان اطلع على ذلك منه فليقتله؛ فقال داود بن عليّ لأبي العبااس: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فيحتجّ عليك بها أبو مسلم وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله؛ ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرّار بن أنس الضبيّ، فقدم على أبي أبي العباس في المدينة الهاشميّة، وأعلمه سبب قدومه، فأمر أبو العباس منادياً فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه وكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلةً، فلم يزل عنده حتى ذهب عامّة الليل، ثم خرج منصرفاً إلى منزله يمشي وحده؛ حتى دخل الطاقات، فعرض له مرّار بن أنس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة. ثم أخرج من الغد؛ فصلى عليه يحيى بن محمد بن عليّ، ودفن في المدينة الهاشميّة، فقا سليمان بن المهاجر البجليّ:

إن الوزير وزير آل محمـد           أودى فمن يشناك كان وزيرا

وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبس مسلم: أمين آل محمد. فلما قتل أبو سلمة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر في ثلاثين رجلاً إلى أبي مسلم؛ فيهم الحجاج بن أرطاة وإسحاق بن الفضل الهاشميّ.

ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسين الأعرج وسليمان بن كثير معه، فقال سليمان بن كثير للأعرج: يا هذا؛ إنا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم؛ فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظنّ عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فخاف ذلك. وبلغ أبا مسلم مسايرة سليمان بن كثير إياه، وأتى عبيد الله أبا مسلم، فذكر له ما قال سليمان، وظنّ أنه إن لم يفعل ذلك اغتاله فقتله، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بن كثير، فقال له: أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم، قال: فإني قد اتّهمتك، فقال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني الله وأ،ت منطوٍ على غشّ الإمام؛ فأمر بضرب عنقه. ولم ير أحداً ممن كان يضرب عنقه أبو مسلم غيره، فانصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم، فقال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال أبو العباس: اسكت فاكتمها.

ذكر الخبر عن حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط

وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة؛ وقد ذكرنا ما ككان من أمر الجيش الذين لقوه من أهل خراسان مع قحطبة، ثم مع ابنه الحسن بن قحطبة وانهزامه ولحاقه بمن معه من جنود الشأم بواسط متحصّناً بها؛ فذكر عليّ بن محمد عن أبي عبد الله السلميّ عن عبد الله بن بدر وزهير بن هنيد وبشر بن عيسى وأبي السريّ أنّ ابن هبيرة لما انهزم تفرّق الناس عنه، وخلّف على الأثقال قوماً، فذهبوا بتلك الأموال فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم! امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر، قال: بل نأتي واسطاً فننظر، قال: ما تزيد على أن تمكّنه من نفسك وتقتل، فقال له يحيى بن حضين: إنك لا تأتي مروان بشيء أحبّ إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتى تقدم عليه؛ وإياك وواسطاً؛ فتصير في حصار، وليس بعد الحصار إلا القتل. فأبى. وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه؛ فخافه إن قدم عليه أن يقتله، فأتى واسطاً فدخلها، وتحصّن بها.

وسرّح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق الحسن وأصحابه، فنزلوا فيما بين الزّاب ودجلة؛ وضرب الحسن سرادقه حيال باب المضمار، فأوّل وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء، فقال أهل الشأم لابن هبيرة: ائذن لنا فيي قتالهم، فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة، وعلى ميمنته ابنه داود، ومعه محمد بن نباتة في ناس من أهل خراسان، فيهم أبو العود الخراسانيّ، فالتقوا وعلى ميمنته الحسن خازم بن خزيمة، وابن هبيرة قبالة باب المضمار، فحمل خازم على ابن هبيرة، فهزموا أهل الشأم حتى ألجئوهم إلى الخنادق، وبادر الناس باب المدينة حتى غصّ باب المضمار، ورمى أصحاب العرّادات بالعرّادات والحسن واقف. وأقبل يسير في الخيل فيما بين النهر والخندق، ورجع أهل الشأم، فكرّ عليهم الحسن، فحالوا بينه وبين المدينة، فاضطروهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقّوه هم بالسفن، فحملوهم، وألقى ابن نابة يومئذ سلاحه واقتحم، فتبعوه بسفينة فركب وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام، ثم خرجوا إليهم يوم الثلاثاء فاقتتلوا، فحمل رجل من أهل الشام على أبي حفص هزار مرد، فضربه وانتمى: أنا الغلام السلميّ، وضربه أبو حفص وانتمى: أنا الغلام العتكيّ، فصرعه، وانهزم أهل الشأم هزيمة قبيحة، فدخلوا المديينة؛ فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رمياً من وراء الفصيل.

وبلغ ابن هبيرة وهو في الحصار أن أبا أميّة التغلبيّ قد سوّد، فأرسل أبا عثمان إلى منزله، فدخل على أبي أمية في قبّته، فقال: إنّ الأمير أرسلني إليك لأفتّش قبتك، فإن كان فيها سواد علقته في عنقك وحبلاً، ومضيت بك إليه؛ وإن لم يكن في بيتك سواد فهذه خمسون ألفاً صلة لك. فأبى أن يدعه أن يفتش قبّته، فذهب به إلى ابن هبيرة فحبسه، فتكلّم في ذلك معن ابن زائدة وناس من ربيعة، وأخذوا ثلاثة من بني فزارة؛ فحبسوهم وشتموا ابن هبيرة، فجاءهم يحيى بن حضين، فكلّمهم فقالوا: لا نخلي عنهم حتى يخلى عن صاحبنا؛ فأبى ابن هبيرة، فقال له: ما تفسد إلاّ على نفسك وأنت محصور؛ خلّ سبيل هذا الرجل، قال: لا ولا كرامة؛ فرجع ابن حضين إليهم فأخبرهم، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجليّ، فقال ابن حضين لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم؛ وإن تماديت في ذلك كانوا أشدّ عليك ممّن حصرك؛ فدعا أبا أميّة فكساه، وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه.

وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناتحية سجستان، فأوفد الحسن بن قحطبة وفداً إلى أبي العباس بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيرلان ابن عبد الله الخزاعيّ - وكان غيلان واجداً على الحسن لأنه سرّحه إلى روح ابن حاتم مدداً له - فلما قدم على أبي العباس قال: أشهد أنك أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين؛ فقال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك، قال: غفر الله لك، فقال داود بن عليّ: وفّقك الله يا أبا فضالة، فقال له غيلان: يا أميير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك، قال: أوليس عليكم رجل من أهل بيتي! الحسن بن قحطبة؛ قال: يا أمير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه، وتقرّ أعيننا به، قال: نعم يا غيلان؛ فبعث أبا جعفر، فجعل غيلان على شرطه فقدم واسطاً، فقال أبو نصر لغيلان: ما أردت لا ما صنعت؟ قال: "به بود"، فمكث أياماً على الشرط، ثم قال لأبي جعفر: لا أقوى على الشّرط؛ ولكني أدلك على مَن هو أجلد مني، قال: من هو؟ قال: جهور بن مرار، قال: لا أقدر على عزلك؛ لأن أمير المؤمنين استعملك، قال: اكتب إليه فأعلمه، فكتب إليه، فكتب إليه أبو العباس: أن اعمل برأي غيلان، فولّى شرطه جهوراً. وقال أبو جعفر للحسن: ابغني رجلاً أجعله على حرسي، قال: من قد رضيته لنفسي؛ عثمان بن نهيك، فولّى الحرس.

قال بشر بن عيسى: ولما قدم أبو جعفر واسطاً، تحوّل له الحسن عن حجرته، فقاتلهم وقاتلوه، فقاتلهم أبو نصر يوماً، فانهزم أهل الشأم إلى خنادقهم؛ وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذاميّ، فلما جاوزهم أهل خراسان، خرجوا عليهم؛ فقاتلوهم حتى أمسوا، وترجّل لهم أبو نصر؛ فاقتتلوا عند الخنادق، ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلاّلين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل. وسرّح ابن هبيرة إلى معن أن ينصرف. فانصرف ومكثوا أياماً. وخرج أهل الشأم أيضاً مع محمد بن نباتة ومعن بن زائدة وزياد بن صالح وفرسان من فرسان أهل الشأم، فقاتلهم أهل خراسان، فهموهم إلى دجلة، فجعلوا يتساقطون في دجلة، فقال أبو نصر: يا أهل خراسان مردمان خائنه بيابان هستيدوبرخزيد، فرجعوا وقد صرع ابنه، فحماه روح بن حاتم، فمرّ به أبوه، فقال له بالفارسية: قد قتلوك يا بنيّ؛ لعن الله الدنيا بعدك! وحملوا على أهل الشأم فهزموهم حتى أدخلوهم مدينة واسط، فقال بعضهم لبعض: لا والله لا تفلح بعد عيشتنا أبداً؛ خرجنا عليهم ونحن فرسان أهل الشأم، فهزمونا حتى دخلنا المدينة.

وقتل تلك العشيّة من أهل خراسان بكار الأنصاريّ ورجل من أهل خراسان؛ كانا من فرسان أهل خراسان؛ وكان أبو نصر في حصار ابن هبيرة يملأ السفن حطباً، ثم يضرمها بالنار لتحرق ما مرّت به؛ فكان ابن هبيرة يهيّىء حرّاقات كان فيها كلاليب تجرّ تلك السفن؛ فمكثوا بذلك أحد عشر شهراً، فلما طال ذلك عليهم طلبوا الصلح؛ ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسريّ، وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم، وقد قتل مروان!

وقد قيل: إنّ أبا العباس وجّه أبا جعفر عند مقدمه من خراسان منصرفاً من عند أبي مسلم إلى ابن هبيرة لحربه، فشخص أبو جعفر حتى قدم على الحسن ابن قحطبة؛ وهو محاصر ابن هبيرة بواسط، فتحوّل له الحسن عن منزله، فنزله أبو جعفر، فلما طال الحصار على ابن هبيرة وأصحابه تحنّى عليه أصحابه فقالت اليمانية: لا نعين مروان وآثاره فينا آثاره. وقالت النزاريّة: لا نقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية؛ وكان إنما يقاتل معه الصعاليك والفتيان؛ وهمّ ابن هبيرة أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن؛ فكتب إليه فأبطأ جوابه؛ وكاتب أبو العباس اليمانية من أصحاب ابن هبيرة؛ وأطمعهم. فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان؛ ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية أبي العباس فلم يفعلا؛ وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أماناً، وكتب به كتاباً، مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس، فأمره بإمضائه؛ وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على أبي العباس، فكتب غليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد؛ لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.

ولما تمّ الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة من البخاريّة؛ فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلاّم بن سليم، فقال: مرحباً بك أبا خالد! انزل راشداً؛ وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، ثم دعا بالقوّاد فدخلوا، ثم قال سلاّم: ادخل أبا خالد؛ فقال له: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل، ووضعت له وسادة، فجلس عليها، فحادثه ساعة، ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه؛ ثم مكث يقيم عنه يوماً، ويأتيه يوماً في خمسمائة فارس وثلثمائة راجل؛ فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيّها الأمير؛ إنّ ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر؛ وما نقص من سلطانه شيء، فإذا كان يسير في هذه الفرسان والرّجالة، فما يقول عبد الجبار وجهور! فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في يحاشيته نحواً من ثلاثين. فقال له سلاّم: كأنك تأتي مباهياً! فقال: إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا، فقال: ما أردنا بك استخفافاً، ولا أمر الأمير بما أمر به إلا نظراً لك؛ فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة.

وذكر أبو زيد أنّ محمد بن كثير حدّثه، قال: كلّم ابن هبيرة يوماً أبا جعفر، فقال: يا هناه - أو يأيّها المرء - ثم رجع، فقال: أيها الأمير؛ إنّ عندي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث، فسبقني لساني إلى ما لم أرده. وألحّ أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه؛ حتى كتب إليه: والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير؛ وأمرهما بختم بيوت الأموال. ثم بعث إلى وجوه من معه من القيسيّة والمضرّية، فأقبل محمد ابن نباة وحوثرة بن سهيل وطارق بن قدامة وزياد بن سويد وأبو بكر بن كعب العقيليّ وأبان وبشر ابنا عبد الملك بن بشر؛ في اثنين وعشرين رجلاً من قيس، وجعفر بن حنظلة وهزّان بن سعد.

قال: فخرج سلاّم بن سليم، فقال: أين حوثرة ومحمد بن نباتة؟ فقاما، فدخلا، وقد أجلس عثمان بن نهيك والفضل بن سليمان وموسى بن عقيل في مائة في حجرة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتّفا، ثم دخل بشر وأبان ابنا عبد الملك بن بشر، ففعل بهما ذلك؛ ثمّ دخل أبو بكر بن كعب وطارق ابن قدامة، فقام جعفر بن حنظلة، فقال: نحن رؤساء الأجناد، ولم يكون هؤلاء يقدّمون علينا؟ فقال: ممن أنت؟ قال: من بهراء، فقال: وراءك أوسع لك، ثم قام هزّان، فتكلم فأخّر، فقال روح بن حاتم: يا أبا يعقوب، نزعت سيوف القوم، فخرج عليهم موسى بن عقيل، فقالوا له: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به! إنا لنرجو أن يدرككم الله؛ وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له حوثرة: إنّ هذا لا يغني عنك شيئاً؛ فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا. وأخذت خواتيمهم.

وانطلق خازم والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان، انطلق فدلّهم عليه، فأقاموا عند كلّ بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدّار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بن أيّوب وحاجبه وعدّة من مواليه، وبنيٌّ له صغير في حجره؛ فجعل ينكر نظرهم فقال: أقسم بالله إنّ في وجوه القوم لشراً، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم، فقال: ما وراءكم؟ فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه، ونحّى الصبيّ من حجره، وقال: دونكم هذا الصبيّ، وخرّ ساجداً فقتل وهو ساجد، ومضوا برءوسهم إلى أبي جعفر، فنادى بالأمان للناس إلاّ للحكم بن عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزوميّ وعمر بن ذرّ، فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذرّ فآمنه أبو العباس، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالداً، فقتله أبو العباس، ولم يجز أمان أبي جعفر، وهرب أبو علاقة وهشام ابن هشيم بن صفوان بن مزيد الفزاريّان، فلحقهما حجر بن سعيد الطائيّ فقتلهما على الزّاب، فقال أبو عطاء السّنديّ يرثيه:

ألا إنّ عيناً لم تجد يوم واسـط              عليك بجاري دمعها لجمـود
عشيّة قام النائحات وشقـقـت            جيوب بأيدي مأتـمٍ وخـدود
فإن تمس مهجور الفناء فربّما              أقام به بعد الـوفـود وفـود
فإنك لم تبعد على متـعـهّـد                بلى كل من تحت التراب بعيد

وقال منقذ بن عبد الرحمن الهلالي يرثيه:

منع العزاء حرارة الصـدر                  والحزن عقد عزيمة الصبر
لما سمعت بوقعة شمـلـت             بالشييب لون مفارق الشعر
أفنى الحماة الغرّ أن عرضت             دون الوفاء حبائل الـغـدر
مالت حبائل أمرهم بفـتـىً              مثل النجوم حففن بالـبـدر
عالى نعيهم فـقـلـت لـه                 هلاّ أتيت بصيحة الحشـر!
لله درّك من زعمـت لـنـا                  أن قد حوته حوادث الدهـر
من للمنابر بعد مهلـكـهـم                أو من يسد مكارم الفخـر!
فإذا ذكرتهم شـكـا ألـمـاً                   قلبي لفقد فـوارس زهـر
قتلى بدجلة مـا يغـمّـهـم                  إلا عباب زواخر البـحـر
فلتبك نسوتنـا فـوارسـهـا                  خير الحماة ليالي الـذّعـر

وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدّثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بن عبد الملك خطب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجّه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بن عمر وبين الوليد بن القعقاع كلام؛ فبعث به هشام إلى الوليد بن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة:

يا قل خير رجال لا عقول لـهـم         من يعدلون إلى المحبوس في حلب
إلى امرىء لم تصبه الدّهر معضلة    إلا استقلّ بها مسترخي الـلـبـب

وقيل: إن أبا العباس لما وجّه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بن قحطبة: إن العسكر عسكرك، والقوّاد قوّادك؛ ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته. وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك؛ فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور.

وفي هذه السنة وجّه أبو مسلم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم. ففعل ذلك.

وفي هذه السنة وجّه أبو العباس عمّه عيسى بن عليّ على فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فهمّ به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم عليّ أحد يدّعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه. ثم ارتدع عن ذلك لما تخوّف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالأيمان المحرجة ألاّ يعلو منبراً، ولا يتقلد سيفاً إلاّ في جهاد؛ فلم يل عيسى بعد ذلك عملاً، ولا تقلد سيفاً إلاّ في غزو. ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بن عليّ والياً على فارس.

وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ووجه أخاه يحيى بن محمد بن عليّ والياً على الموصل.

وفيها عزل عمّه داود بن عليّ عن الكوفة وسوادها، وولاّه المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولّى موضعه وما كان إليه من عمل الكوفة وسوادها عيسى بن موسى.

وفيها عزل مروان - وهو بالجزيرة عن المدينة - الوليد بن عروة، وولاها أخاه يوسف بن عروة؛ فذكر الواقديّ أنه قدم المدينة لأربع خلون من شهر ربيع الأول.

وفيها استقضى عيسى بن موسى على الكوفة ابن أبي ليلى.

وكان العامل على البصرة في هذه السنة سفيان بن معاوية المهلبيّ. وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان عبد الله بن محمد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشأم عبد الله بن عليّ، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.

وحجّ بالناس في هذه السنة داود بن عليّ بن عبد الله بن العباس.