المجلد السابع - ذكر الخبر عن بناء مدينة بغداد

ذكر الخبر عن بناء مدينة بغداد

وفي هذه السنة أسست مدينة بغداد، وهي التي تدعى مدينة المنصور.

ذكر الخبر عن سبب بناء أبي جعفر إياها وكان سبب ذلك أنّ أبا جعفر المنصور بنى - فيما ذكر - حين أفضى الأمر إليه الهاشميّة، قبالة مدينة ابن هبيرة، بينهما عرض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشميّة إلى جانب الكوفة. وبنى المنصور أيضاً مدينة بظهر الكوفة سماها الرصافة، فلما ثارت الرّاوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمّى الهاشميّة؛ وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سكناها لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الرّاوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعد من جوارهم؛ فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعاً يتخذه مسكناً لنفسه وجنده، ويبتنى به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جرجراياً ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كلّ ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كلّ شيء من الشأم والرّقّة وما حول ذلك. فنزل وضرب عسكره على الصّراة، وخطّ المدينة، ووكل بكل ربع قائداً.

وذكر عمر بن شبّة أنّ محمد بن معروف بن سويد حدّثه، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني سليمان بن مجالد، قال: أفسد أهل الكوفة جند أمير المؤمنين المنصور عليه، فخرج نحو الجبل يرتاد منزلاً، والطريق يومئذ على المدائن، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، فأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب: أين يريد أمير المؤمنين؟ قال: يرتاد منزلاً؛ قال: فإنا نجد في كتاب عندنا، أن رجلاً يدعى مقلاصاً، يبنى مدينة بين دجلة والصّراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقاً منها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر عليه منه؛ فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمّه، ثم يعمّر عمراً طويلاً، ويبقى الملك في عقبه. قال سليمان: فإنّ أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل؛ إذ قدم عليّ صاحبي فأخبرني الخبر فأخبرت به أمير المؤمنين، فدعا الرّجل فحدّثه الحديث، فكرّ راجعاً عوده على بدئه، وقال: أنا والله ذاك! لقد سميّت مقلاصاً وأنا صبيّ، ثم انقطعت عني.

وذكر عن الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، قال: لمّا أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روّاداً يرتادون له موضعاً ينزله واسطاً، رافقاً بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من بارما، وذكر له عنه غذاء طيّب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرّر نظره فيه، فرآه موضعاً طيباً، فقال لجماعة من أصحابه؛ منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب الخوزيّ وعبد الملك بن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيّب صالح موافق، قال: صدقتم؛ هو هكذا؛ ولكنه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنما أريد موضعاً يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعار، ولا تشتدّ فيه المؤونة، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه من البرّ والبحر شيء غلت الأسعار، وقلّت المادّة، واشتدّت المؤونة، وشقّ ذلك على الناس؛ وقد مررت في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال؛ فأنا نازل فيه، وبائت به؛ فإذا اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس أبتنيه.

قال الهيثم بن عديّ: فخبّرت أنه أتى ناحية الجسر، فعبر في موضع قصر السلام، ثمّ صلى العصر - وكان في صيف، وكان في موضع القصر بيعة قس - ثم بات ليلةً حتى أصبح، فبات أطيب مبيت في الأرض وأرفقه، وأقام يومه فلم ير إلا ما يحبّ، فقال: هذا موضع أبني فيه؛ فإنه تأتيه المادّة من الفرات ودجلة وجماعة من الأنهار، ولا يحمل الجند والعامّة إلاّ مثله، فخطّها وقدّر بناءها، ووضع أوّل لَبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.

وذكر عن بشر بن ميمون الشرويّ وسليمان بن مجالد، أنّ المنصور لما رجع من ناحية الجبل، سأل عن خبر القائد الذي حدّثه عن الطبيب الذي أخبره عمّا يجدون في كتبهم من خبر مقلاص، ونزل الدّير الذي هو حذاء قصره المعروف بالخلد، فدعا بصاحب الدّير، وأحضر البطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرّم وصاحب الدير المعروف ببستان القسّ وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ؟ فأخبره كلّ واحد بما عنده من العلم، فوجّه رجالاً من قبله، وأمر كلّ واحد منهم أن يبيت في قرية منها، فبات كلّ رجل منهم في قرية منها، وأتاه بخبرها. وشاور المنصور الذين أحضرهم، وتنحّر أخبارهم؛ فاجتمع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره، وساء له - فهو الدّهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسيّ، وقباب القرية قائم بناؤها إلى اليوم، وداره ثابتة على حالها - فقال: يا أمير المؤمنين، سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها وما يختار منها؛ فالذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج فى الجانب الغربىّ طسوجين وهما قطربّل وبادوريا، وفى الجانب الشرقىّ طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فأنت تكون بين نخل وقرب الماء، فإن أجدب طسّوج وتأخّرت عمارته كان فى الطسّوج الآخر العمارات وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة، تجيئك الميرة قى السفن من المغرب فى الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشأم، وتجيئك الميرة فى السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فى دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فى تأمرّا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فى دجلة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوّك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدّوك ، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلاّ احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسّواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فازداد المنصور عزماً على النزول في الموضع الذي اختاره. وقال له: يا أمير المؤمنين؛ ومع هذا فإنّ الله قد منّ على أمير المؤمنين بكثرة جيوشه وقوّاده وجنده؛ فليس أحد من أعدائه يطمع في الدنوّ منه، والتدبير في المدن أن تتخذ لها الأسوار والخنادق، والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن حماداً التركيّ، قال: بعث المنصور رجالاً في سنة خمس وأربعين ومائة، يطلبون له موضعاً يبني فيه مدينته، فطلبوا وارتادوا، فلم يرض موضعاً، حتى جاء فنزل الدّير على الصّراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ومن هذه الصراة.

وذكر عن محمد بن صالح بن النطاح عن محمد بن جابر، عن أبيه، قال: لما أراد أبو جعفر أن يبني مدينته ببغداد رأى راهباً، فناداه فأجابه، فقال: تجدون في كتبكم أنه تبنى ها هنا مدينة؟ قال الرّاهب: نعم، يبنيها مقلاص؛ قال أبو جعفر: أنا كنت أدعى مقلاصاً في حداثتي. قال: فأنت إذاً صاحبها، قال: وكذلك لما أراد أن يبني الرّافقة بأرض الروم امتنع أهل الرّقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطّل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهمّ بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصّومعة، فقال: هل عندك علم أن يبني ها هنا مدينة؟ فقال له: بلغني أنّ رجلاً يقال له مقلاص يبنيها، قال: أنا مقلاص؛ فبناها على بناء مدينة بغداد، سوى السور وأبواب الحديد وخندق منفرد.وذكر عن السريّ، عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور وجّه في حشر الصنّاع والفعلة من الشأم والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا، وأمر باختيار قوم من ذوي الفصل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة؛ فكان ممّن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللّبن وطبخ الآجرّ، فبدىء بذلك؛ وكان أول ما ابتدىء به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة.

وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحبّ أن ينظر إليها عياناً، فأمر أن يخطّ بالرّماد، ثم أقبل يدخل من كلّ باب، ويمرّ في فصلانها وطاقاتها ورحابها؛ وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خطّ من خنادقها؛ فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حبّ القطن، وينصب عليه النّفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدىء في عملها.

وذكر عن حمّاد التركيّ أنّ المنصور بعث رجالاً يطلبون له موضعاً يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومائة، قبل خروج محمد بن عبد الله بسنة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد؛ قرية على شاطىء الصراة؛ مما يلي الخلد، وكان في موضع بناء الخلد دير، وكان في قرن الصراة مما يلي الخلد من الجانب الشرقيّ أيضاً قرية ودير كبير كانت تسمّى سوق البقر؛ وكانت القرية تسمى العتيقة؛ وهي التي افتتحها المثنّى بن حارثة الشيبانيّ، قال: وجاء المنصور، فنزل الدّير الذي في موضع الخلد على الصّراة، فوجده قليل البقّ، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ويصلح أن تبتنى فيه مدينة؛ فقال للراهب الذي في الدير: يا راهب، أريد أن أبني ها هنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يبنى ها هنا ملك يقال له أبو الدوانيق؛ فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق. وأمر فخطّت المدينة، ووكّل بها أربعة قوّاد، كلّ قائد بربع.

وذكر عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألاّ يفعل، فولاّه القيام ببناء المدينة وضرب اللّبن وعدّه، وأخذ الرجال بالعمل. قال: وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه؛ قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة ممايلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة.

وذكر عن الهيثم بن عديّ، أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف ألاّ يقلع عنه حتى يعمل، فأخبر بذلك أبو حنيفة، فدعا بقصبة، فعدّ اللبن على رجل قد لبّنه، وكان أبو حنيفة أوّل من عد اللبن بالقصب؛ فأخرج أبا جعفر عن يمينه، واعتل فمات ببغداد.

وقيل: إنّ أبا جعفر لما أمر بحفر الخندق وإنشاء البناء وإحكام الأساس؛ أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعاً، وقدّر أعلاه عشرين ذراعاً، وجعل في البناء جوائز قصب مكان الخشب، في كل طرقة؛ فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة - وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة - أتاه خبر خروج محمد فقطع البناء.

وذكر عن أحمد بن حميد بن جبلة، قال: حدّثني أبي، عن جدّي جبلة، قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديّين، يقال لها المباركة، وكانت لستين نفساً منهم، فعوّضهم منها وأرضاهم، فأخذ جدّي قسمة منها.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور، أنّ حماداً التركيّ قال: كان حول مدينة أبي جعفر قرى قبل بنائها؛ فكان إلى جانب باب الشأم قرية يقال لها الخطابية، على باب درب النّورة، إلى درب الأقفاص، وكان بعض نخلها في شارع باب الشأم، إلى أيام المخلوع في الطريق، حتى قطع في أيام الفتنة، وكانت الخطّابية هذه لقوم من الدّهاقين، يقال لهم بنو فروة وبنو قنورا؛ منهم إسماعيل بن دينار ويعقوب بن سليمان وأصحابهم.

وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات أنّ القرية التي في مربّعة أبي العباس كانت قرية جدّه من قبل أمّه، وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زرارى؛ وكانت القرية تسمى الوردانيّة، وقرية أخرى قائمة إلى اليوم ممايلي مربعة أبي فروة.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المعروفة اليوم بدار سعيد الخطيب كانت قرية يقال لها شرفانيّة، ولها نخيل قائم إلى اليوةم ممايلي قنطرة أبي الجون، وأبو الجون من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية.

وذكر أن قطيعة الربيع كانت مزارع للناس من قرية يقال لها بناورى من رستاق الفروسيج من بادوريا.

وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات، أنه سمع أباه أو جدّه - شك راوي ذلك عنه - يقول: دخل عليّ رج من دهاقين بادوريا وهو مخرّق الطيلسان؛ فقلت له: من خرّق طيلسانك؟ قال: خرق والله في زحمة الناس اليوم، في موضع طالما طردت فيه الأرانب والظباء - يريد باب الكرخ.

ويقال: إن قطيعة الربيع الخارجة إنما هي أقطاع المهديّ للربيع، وأنّ المنصور إنما كان أقطعه الداخلة.

وقيل: إن نهر طابق كسرويّ، وأنه نهر بابك من بهرام بن بابك، وأن بابك هذا هو الذي اتّخذ العقر الذي عليه قصر عيسى بن عليّ، واحتفر هذا النهر.

وذكر أنّ فرضة جعفر إقطاع من أبي جعفر لابنه جعفر، وأن القنطرة العتيقة من بناء الفرس.

وذكر عن حماد التركيّ، قال: كان المنصور نازلاً بالدّير الذي على شاطىء دجلة بالموضع المعروف بالخلد، ونحن في يوم صائف شديد الحرّ في سنة خمس وأربعين ومائة؛ وقد خرجت فجلست مع الربيع وأصحابه، إذ جاء رجل، فجاوز الحرس إلى المقصورة، فاستأذن فآذنّا المنصور به، وكان معه سلم بن أبي سلم، فأذن له فخبّره بخروج محمد، فقال المنصور: نكتب الساعة إلى مصر أن يقطع عن الحرمين المادة، ثم قال: إنما هم في مثل حرجة، إذا انقطعت عنهم المادّة والميرة من مصر. قال: وأمر بالكتاب إلى العباس بن محمد - وكان على الجزيرة يخبره بخبر محمد - وقال: إني راحل ساعة كتبت إلى الكوفة، فأمدّني في كلّ يوم بما قدرت عليه من الرجال من أهل الجزيرة. وكتب بمثل ذلك إلى أمراء الشأم، ولو أن يرد عليّ في كل يوم رجل واحد أكثر به من معي من أهل خراسان، فإنه إن بلغ الخبر الكذّاب انكسر. قال: ثم نادى بالرّحيل من ساعته، فخرجنا في حرّ شديد حتى قدم الكوفة، ثم لم يزل بها حتى انقضت الحرب بينه وبين محمد وإبراهيم، فلما فرغ منهما رجع إلى بغداد.

وذكر عن أحمد بن ثابت، قال: سمعت شيخاً من قريش يحدّث أنّ أبا جعفر لما فصل من بغداد، متوجّهاً نحو الكوفة، وقد جاءه البريد بمخرج محمد بن عبد الله بالمدينة، نظر إليه عثمان بن عمارة بن حريم وإسحاق بن مسلم العقيليّ وعبد الله بن الربيع المدانيّ - وكانوا من صحابته - وهو يسير على دابّته وبنو أبيه حوله. فقال عثمان: أظنّ محمداً خائباً ومن معه من أهل بيته؛ إنّ حشو ثياب هذا العباسيّ لمكرٌ ونكر ودهاء؛ وإنه فيما نصب له محمد من الحرب لكما قال ابن جذل الطّعان:

فكم من غارة ورعيل خيل            تداركها وقد حميَ اللقاء
فردّ مخيلها حتّى ثنـاهـا              بأسمر ما يرى فيه التواء

قال: فقال إسحاق بن مسلم: قد والله سبرته ولمست عوده فوجدته خشناً، وغمزته فوجدته صليباً، وذقته فوجدته مراً؛ وأنه ومن حوله من بني أبيه لكما قال ربيعة بن مكدّم:

سما لي فرسان كأن وجوهـهـم        مصابيح تبدو في الظلام زواهر
يقودهم كبش أخو مـصـمـئلة            عبوس السرى قد لوّحته الهواجر

قال: وقال عبد الله بن الربيع: هو ليث خيس، ضيغم شموس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس؛ وأنه يهيج من الحرب كما قال أبو سفيان بن الحارث:

وإن لنا شيخاً إذا الحرب شمّرت      بديهته الإقدام قبل الـنـوافـر

قال: فمضى حتى سار إلى قصر ابن هبيرة، فنزل الكوفة ووجّه الجيوش، فلما انقضت الحرب، رجع إلى بغداد فاستتمّ بناءها.