المجلد الثامن - ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور

ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور

ذكر أنه كان أسمر طويلاً، نحيفاً. خفيف العارضين. وكان ولد بالحميمة.

ذكر الخبر عن بعض سيره

ذكر عن صالح بن الوجيه، عن أبيه، قال: بلغ المنصور أن عيسى بن موسى قتل رجلاً من ولد نصر بن سيار، كان مستخفياً بالكوفة، فدل عليه فضرب عنقه. فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل. فكتب إليه: أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره؛ من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة ، فإنه لا يرى أن يأخذ أحداً بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدثٍ كان منه في حرب أعقبه الله منها سلماً ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور؛ وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدير؛ كما أنه لا يأمن إدبار مقبل. إن شاء الله والسلام.

وذكر عن عباس بن الفضل، قال: حدثني يحيى بن سليم كاتب الفضل بن ربيع، قال: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوماً واحداً، فإنا رأينا ابناً له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابني أبي جعفر من الطلحية، توفي وهو حدث، قد خرج على متنكباُ قوساً ، متعمماً بعمامة، متردياً ببرد في هيئة غلام إعرابي راكبا على قعود بين جوالفين، فيهما مقل ونعال ومساويات وما يهديه الأعراب ؛ فعجب الناس من ذلك وأنكروه. قال: فمضى الغلام حتى عبر الجسر،وأتى المهدي بالرصافة فأهدي إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين؛ فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.

و ذكر عن حماد التركي، قال: كنت واقفاً على رأس المنصور، فسمع جلبةً في الدار، فقال: ما هذا يا حماد ؟ انظر ، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها ووصفتها له؛ فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت: رأيته بخراسان نعم هناك، ثم قال: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويداً حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه ، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال : أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.

وذكر العباس بن الفضل عن سلام الأبرش، قال: كنت أنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلاً في منزله؛ وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان؛ فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتبرد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك؛ فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه.

وقال لي يوما: يا بني إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي؛ فلا يدنون مني أحداً منكم مخافة أن أعره بشيء.

وذكر أبو الهيثم خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن محمد يلقب - بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد - قال: كنا في الصحابة سبعمائة رجل؛ فكنا ندخل على المنصور كل يوم، قال: فقلت للربيع : اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم فتكون في آخرهم؛ وإن مرتبتك لتشبه نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي، أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي. قال: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عموداً من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط؛ لا نجوت إن نجوت مني. قال: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قال: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعاً، وأسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيراً ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستل عهداً من بين فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معناً إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل. ثم قال: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، اعزز على أن تضم إلى ابن أخيك! قال: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيراً، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.

وذكر حماد بن أحمد اليماني قال: حدثني محمد بن عمر اليمامي أبو الرديني، قال: أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوماً يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة؛ فكان فيمن اختار مجاعة ابن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحداً واحداً، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعة بن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك؛ حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن عتيق المزني، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك؛ فإن سها عن شيء فتلافه. واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله؛ حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه. فلما انتهى كلامه، قال المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، وأما ما ذكرت من النبي صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين؛ فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقيل ما ذكرت. قال: صدق أمير المؤمنين، ووالله ماكذبت في صاحبي. فأخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟ فكر عليه الكلام؛ حتى كأنه كان في صحيفة يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعاً، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلاً أربط جأشاً، ولا أظهر بياناً؛ رده يا غلام، فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال المنصور: اقصد لحاجتك وحاجة صاحبك. قال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجاً من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساعٍ أو واشٍ أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته. فقبل وفادته، وقبل العذر من معن؛ وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضى قبل ما بين عينيه، وشكر أصحابه، وخلع عليهم وأجازهم على إقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة:

آليت في مجلس من وائل قسما           ألا أبيعك يا معن بأطـمـاع
يا معن إنك قد أوليتني نعـمـاً               عمت لجيماً وخصت آل مجاع
فلا أزال إليك الدهر منقطعـاً                حتى يشيد بهلكي هتفة الناعي

قال : وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج؛ منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد؛ وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبحبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع لإلى معن كان أول شيء أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد الزهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده. فقال له معن: حاجتك الثانية، قال: الحائط الذي في منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له؛ وقال: حاجتك الثالثة؟ قال: تهب لي مالاً. قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله.

وذكر عن محمد بن سالم الخوارزمي - وكان أبوه من قواد خراسان - قال: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم؛ كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة وهى؛ أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع - ثم عض على أصبعه السبابة ثلاثة مرات، يقول في كل مرة:آه آه - قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قال: والله ما أملك شيئاً، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهادة أن لا إله إلا الله، فخلي سبيله.

قال:وولى المنصور رجلاً من أهل الشام شيئاً من الخراج ، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة؛ يلزمك العمل. قال: وولي رجلاً من أهل العراق شيئاً من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر . اخرج عني وامض إلى عملك؛ فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه. قال: فوليا جميعاً وناصحا.

ذكر الصباح بن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بن موسى بن عيسى؛ أن المنصور ولى رجلاً من العرب حضر موت، فكتب إليه وإلى البريد أن يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمتك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولن نستكفك أمور الوحش، سل ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بن فلان، والحق بأهلك ملوماً مدحوراً.

وذكر الربيع أنه قال: أدخل على المنصور سهيل بن سلم البصري، وقد ولي عملاً فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قال: بئس العبد أنت! قال: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قال: أما لك فلا.

قال: وذكر عن الفضل بن الربيع عن أبيه، أنه قال: بينا أنا قائماً بين يدي المنصور أو على رأسه؛ إذا أتي بخارجي قد هزم له جيوشاً، فاقام ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يابن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان ويؤمنك أن أرد عليك وقد يأست من الحياة فلا تستقيلها أبداً! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجهاً حولاً.

ذكر عبد الله بن عمرو الملحي أن هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قال: حدثني عمارة بن حمزة، قال: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدي في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطى لله عهداً لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك.

وذكر عن أحمد بن يوسف بن القاسم، قال: سمعت إبراهيم بن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الآذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيشي عليه. فقال أبو جعفر: ما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم؛ والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين.

قال: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قال: ومنهم؟ كأنك تريد نفسك! قال: كلا لست كذلك؛ عن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يوماً، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جب خز، وعمامة عدنية، في يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب،فأعجبه ما رأى منه، فقال: أنشدني، فأنشده شعراً لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمر بن تميم؛ وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبري، وهو قوله:

إن قناتي لنبـع لا يؤيسـهـا              غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه         وإن أخف آمناً تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت              إن الأمور لها ورد وإصدار

فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأةً وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبةً، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقرأهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره؛ اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم أقر له بهذه الخلال؛ غي أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى ان جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قال: يا أخي بني تميم؛ لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه؛ أنا الذي وصف لا هو.

وذكر أحمد بن خالد الفقيمي أن عدت من بن هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور الأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامر، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب؛ فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام إلى فراشه فأسبغ وضوءه وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

قال إسحاق: حدثت عن عبد الله بن الربيع، قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشأم حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكنفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديماً فهم لكل قوم عبيد. قال: فأي الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال: فأيهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتبعهم لها بالخرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسير الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة عند المحبة تضمر الإجتهاد وتبالغ عند الغفلة. قال: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرة والمنفعة. قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذل النفس. قال: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيراً؟ قال: أسلمهم قلباً، وأبعدهم عن الهوى.

وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قال: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع؛ ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله.

وذكر الزبير بن بكار، قال: حدثني مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه؛ فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.

وذكر الزبير أيضاً، عن مصعب بن عبد الله، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله؛ لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولاتدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار. وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه. واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره .

وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلساً إلا ومعك من أهل العلم يحدثك؛ فإن محمد بن شهاب الزهري قال: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثهم؛ وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بن مجاهد بن محمد بن علي، أن المنصور قال للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره.

وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله يقول: قال المنصور للمهدي: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه؛ ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.

وذكر الفقيمي، عن عتبة بن هارون، قال: قال أبو جعفر يوماً للمهدي: كم راية عندك؟ قال: لا أدري، قال: هذا والله التضييع؛ أنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً؛ ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت؛ فاتق الله فيما خولك.

وذكر علي بن محمد عن حفص بن عمر بن حماد، عن خالصة، قالت: دخلت على المنصور؛ فإذا هو يتشكى وجع ضرسه؛ فلما سمع حسي، قال: ادخلي؛ فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قال لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قال: ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار؛ قال: احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما؛ فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع؛ ولكني سألته أمس مالاً فتمارض، احملي إليه ما قلت؛ ففعلت، فلما أتاه المهدي، قال: يا أبا عبد الله؛ تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بن محمد: قال واضح مولى أبي جعفر قال: قال أبو جعفر يوماً انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل؛ وليكن معها رقاع. ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك - ولم يقل: دانق - فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد. قال: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل.

وذكر علي بن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بن أميل - وذكره أيضاً عبد الله بن حسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بن أميل حدثه قال: قدمت على المهدي - قال بن مرثد في خبره وهو ولي العهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد - فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها؛ فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعرٍ بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم. قال أبو قدامة: فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائداً من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً ممن يمر به؛ حتى يظفر بالمؤمل؛ فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل، من زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قال: هيه! أتيت غلاماً غراً فخدعته! قال: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين؛ أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:

هو الـمـهـدي إلا أن فـيه             مشابه صورة القمر المنـير
تشابه ذا وذا فهـمـا إذا مـا           أنارا مشكلان على البصـير
فهذا في الظلام سراج لـيل         وهذا في النهار سراج نـور
ولكن فضل الرحمـن هـذا             على ذا بالمنابر والـسـرير
وبالملك العـزيز فـذا أمـير              وما ذا بالأمير ولا الـوزير
ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا         منير عند نقصان الشـهـور
فيا بن خليفة الله المصـفـى          به تعلو مفاخرة الفـخـور
لئن فت الملوك وقد تـوافـوا            إليك من السهول والوعـور
لقد سبق الملوك أبوك حتـى        بقوا من بين كاب أو حسـير
وجئت وراءه تجري حثـيثـاً             وما بك حين تجري من فتور
فقال النـاس: مـا هـذان إلا            بمنزلة الخليق من الـجـدير
لئن سبق الكبير فأهل سبـقٍ         له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبـير              لقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت؛ ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم. وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم؛ وخذ منه الباقي. قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي. قال:

فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى بن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوماً رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع؛ حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت .

وذكر واضح مولى المنصور، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر يوماً إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفاً وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به؛ فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به. فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله؛ فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالاً للمواهب، أم بطراً للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك.فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين و إرشادك؛ و الحمد لله على نعمه، و أسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته. ثم انصرف.

قال العباس بن الوليد بن مزيد: قال: سمعت ناعم بن مزيد، يذكر عن الوضين بن عطاء، قال: استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوماً، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لك؟ قلت الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قال: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني ، قال: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك. وذكر بشر المنجم، قال: دعاني أبو جعفر يوماً عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قال: فهو عندي إلى الساعة.

وذكر أبو الجهم بن عطية، قال: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم؛ فأخذها منه وقال: هذا مالي، قال: ومن أين يكون مالك! فوالله ما وليت لك عملاً قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قال: بلى، كنت تزوجت مولاة لعيينة بن موسى بن كعب فورثتك مالاً؛ وكان ذلك قد عصى وأخذ مالي وهو والٍ على السند؛ فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قال: ولى أبو جعفر رجلاً باروسما؛ فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئاً، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئاً من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلاً إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك. فقال: ما أظنك إلا صادقاً؛ هلم درهمنا. فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قال: وما مجير أم عامر؛ فذكر قصة الضبع ومجيرها، قال: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئاً.

وذكر عن هشام بن محمد أن قثم بن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم ؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قال: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر:

وللكبراء أكل كيف شاءوا          وللصغراء أكل واقتثـام

وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قال: وأنت مثله! إنا لانلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئاً، وفي منزلنا من هداياه بقية؛ وأنت لم تفعل من هذا شيئاً.

وذكر عن سوادة بن عمرو السلمي، عن عبد الملك بن عطاء - وكان في صحابة المنصور - قال: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه:

ما رأيت رجلاً قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظاً من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئاً نكسره به؛ فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء؛ فخرجت إليه وما في رأسي سوداء؛ وإنه لكما قال الأعشى:

يقوم على الرغم من قومه           فيعفو إذا شاء أو ينتـقـم
أخو الحرب لا ضرع واهنٌ              ولم ينتعل بنـعـال خـذم

وذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلاً على رجل يقال له أزهر السمان - وليس بالمحدث - وذلك قبل خلافته؛ فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله؛ فأمر له باثني عشر درهم، ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة: قال: أفعل. فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: جئت مسلماً يا أمير المؤمنين؛ قال: إنه ليقع في نفسي أشياء؛ منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى؛ فأمر له باثني عشر درهم أخرى؛ ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة ولا مسلماً، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ثم لم يابث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله به أن يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئاً.

وذكر الهيثم بن عدي أن بن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إياي؛ فكتب إليه: يابن هبيرة، إنك امرؤ متعد طورك، جارٍ في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده؛ فرويداً يتم الكتاب أجله؛ وقد ضربت مثلي ومثلك؛ بلغني أن أسداً لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيراً؛ فلم أعتقد بذلك فخراً ولا ذكراً، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.

وذكر عن محمد بن رياح الجوهري، قال: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بن عبد الملك في حرب كانت له، فيعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة - رصافة هشام - يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال : أنت صاحب هشام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قال: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع أن قال: فعل كذا رضي الله عنه؛ فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي؛ فأمر المنصور برده، وقال:اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت : إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب غربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا يجب أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم؛ ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك. فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الضبيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بن غياث، عن ابن عياش، قال: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلاماً فيه طعن على سلطانهم؛ فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: اخرج إلى من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رؤوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منزلكم؛ وابقوا على أنفسكم. فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له:

والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت - وكان ابن عياش منتوفاً - فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بن صالح: حدثني محمد بن عقبة الصيداوي عن نصر بن حرب - وكان في حرس أبي جعفر - قال: رفع إلى رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قال: أصبغ! قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قال: بلى، قال: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قال: أخطأت وأمير المؤمنين أولا بالعفو. قال: فدعى أبو جعفر عمارة - وكان حاضراً - فقال: يا عمارة؛ هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءاً، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: علي بكيس عطائي، فأتى بكيس فيه خمسمائة درهم،فقال: خذها فإنك وضح، ويلك، وعليك بعملك - وأشار بيده يحركها - قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قال: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قال نصر: ثم أتى به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قال: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين؛ فقدمه فضرب عنقه.

وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، قال: كان خضاب المنصور زعفرانياً وذلك أن شعره كان ليناً لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة؛ فكنت أراه على المنبر يخطي ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه.

وذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي السندي بن شاهك السندي، قال: ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قال: نعم، فقال له المنصور: من أين أتى بنوا أمية حتى انتشر أمرهم؟ قال: من تضيع الأخبار، قال: فأي الأموال وجدتوها أنفع؟ قال: الجوهر، قال فعند من وجدوا الوفاء؟ قال: عند مواليهم، قال: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قال: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.

وذكر علي بن محمد الهاشمي أن أباه محمد بن سليمان حدثه، قال: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلاً من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فبه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قال: ما هو إلا ما ترى.

قال: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بن محمد، قال: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة؛ وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه - أو قال: بالفقر في ملكه. قال: وحدثني أبي، قال: كان المنصور لا يولي أحداً يعزله إلا ألقاه في خالد البطين - وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقاً لدار صالح المسكين - فيستخرج من المعزول مالاً، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكسب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت المال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع. ثم قال المهدي: إني قد هيأت لك شيئاً ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئاً، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم منهم؛ فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة؛ ففعل ذلك المهدي لما ولى. قال سليمان بن محمد: فكان المنصور ولى محمد بن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد المطلب بن ربيع بن الحارث البلقاء، ثم عزله،وأمر أن يإليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفى معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد - وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقه ووسادتين وطستاً وإبريقاً وأشناندانة نحاس - فوجد ذلك مجموعاً كهيئته؛ إلا أن المتاع قد تأكل، فأخذ ألفي الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنها الملقب ربرا المدينة.

وذكر أحمد بن الهيثم بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثني صباح بن خانقان، قال: كنت عند المنصور حين أتى برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظراً شديداً، وقال لي: دق أنفه، قال: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرص، فما زال يشهم بها حتى خمد، ثم جر برجله.

قال الأصمعي: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربه وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟

لمن طلل بذات الجيش          أمسى دارسا ًخلقـا
علون بظاهر البـيدا                ء فالمحزون قد قلقاً

فقال: أخذت الغناء من معبد؛ ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب؛ فإنه أحسن تأدية له مني.

قال الأصمعي: وقال جعفر بن سليمان: قال أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتقي منك، قال: ولم يا أبه؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيف وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئاً، قال: بلى والله، إني لأكسب؛ ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.

وذكر علي بن محمد بن سليمان الهاشمي؛ أن أباه محمداً حدثه أنه الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى القصب والطوالاً غلاظاً فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها وكانت بنو أمية تفعل ذلك؛ وكان أول من أتخذ الجيش المنصور.

وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه؛ فأتخذ له أبو أيوب الخوارزمي ثياب كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب إن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل؛ وكانت أبرد، فاتخذ له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس.

وقال علي بن محمد بن أبيه: أن رجلاً من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم باللغو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بن محمد، وإنهم آله، واستحلوا الحرمات؛ فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته؛ فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فقتله وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قال: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت. قال: فحكى لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت وخرجت روحه.

قال أحمد بن ثابت مولى محمد بن سليمان بن علي عن أبيه: إن عبد الله بن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بن علي أشرف يوماً ومعه بعض مواليه ومولى بن سليمان بن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بن علي، فقال: من هذا؟ قال له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضباً وصفق يديه عجباً، وقال: إن طريقناً لنبك بعد، يا فلان - لمولى له - انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف: علام،

وفيم نترك عبد شمس                لها في كل راعية ثغـاء!
فما بالرمس في حران منها           ولو قتلت بأجمعها وفـاء

وذكر علي بن محمد المدائني أنه قدم علي أبي جعفر المنصور - بعد انهزام عبد الله بن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد - وفد من أهل الشأم فيهم الحارث بن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن، فقال:

أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة؛ وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فيما فيما أجرمنا وإن تعفو عنا فبفضلك علينا؛ فاصفح عنا إذا ملكت ، وامنن إذا قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قال أبو جعفر: قد فعلت.

وذكر عن الهيثم ابن عدي عن زيد مولي بن نهيك، قال: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قال: فأين هي؟ قلت أنفقتها الحرة في مأتمه. قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستاً، فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره؛ ولا أدري لم دعيت! قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم؛ قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعاً، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك.

وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشرة آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحداً من الناس.

وقال العباس بن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، بني علي بن عبد الله بن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال. وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال؛ فكانت تجري في الدواوين.

وذكر عن إسحاق بن إبراهيم المصلي، قال: حدثني الفضل بن ربيع، عن أبيه، قال: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلساً عاماً ببغداد - وكان وفد إليه منهم جماعة - فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بن حزم، فانتسب ثم قال: يا أمير المؤمنين، قال الأحوص فينا شعراً، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده:

لاتأوين لـحـزمـيٍّ رأيت بـه                فقراً وإن ألقي الحزميّ في النار
الناخسين بمروان بذي خـشـبٍ        والداخلين على عثمان في الدار

قال: والشعر في المدح للوليد بن عبد الملك؛ فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قال الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فأمر باستصفاء أموالهم. فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثاً، فقال له أبو جعفر: لا جرم،إنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قال لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب إلى عماله أن ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته. قال: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس.

وحدثني جعفر بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني أحمد بن أسد، قال: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قال: ما يقولون؟ قال: يقولون: عليل؛ فأطرق قليلاً ثم قال: يا ربيع، ما لنا وللعامة ! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بغض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيء عدوهم؛ وقد فعلنا ذلك بهم. ثم مكث أياماً، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل؛ فركب حتى رآه العامة.

وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، قال:

وجه أبو جعفر مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون؛ وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق بنت سليمان بن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها؛ يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه؛ فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعراً، فقال فيها أبياتاً، يقول فيها:

يا ساكن المربد هجت لي         شوقاً فما أنفك بالمربـد

قال: فحدثني أبي فقال: كان المنصور نازلاً على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه؛ وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولاً يأمره أن يتوخى قتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سماً قاتلاً، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها. فكتبت بذلك أم محمد بن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها. فكتب المنصور يأمر بحمله إليه؛ فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطاً ضرباً خفيفاً، وحبسه أياماً، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.

قال: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتاباً أكدته وأشهدت عليه شهوداً، فعزب بها عشر سنين في سلطانه؛ فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة؛ فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد؛ فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر؛ وكانت أم موسى ولدت له جعفراً والمهدي.

وذكر عن علي بن الجعد أنه قال: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قال: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعاماً ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئاً يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب.

وذكر عن يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: كتب المنصور إلى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا؛ فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلاً، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.

وذكر أبو بكر الهذلي أن أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.

وقال الفضل بن ربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح.

وذكر عن أبان بن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور" ولا تبذر تبذيرا" إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت علينا به من عطيتك. قال: وقرأ الهيثم عنده: "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" فقال للناس: لولا أن الأموال حسن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه ديناراً ولا درهماً لما أجد لبذل المال من اللذاذة؛ ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.

ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قال: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه. قال: فمن هناك! قال: وكان المنصور كثيراً ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئاً ولا لاحياً.

وذكر عن قحطبة، قال: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.

وذكر علي بن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه.

وذكر الزبير بن بكار، عن عمر، قال: لما حمل عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قال: تركتها وراءك يابن اللخناء! وذكر عن عمر بن شبة، أن قحطبة بن غدانة الجشمي - وكان من الصحابة - قال: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب في مدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم؛ ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بن جديد، قال: حدثني بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.

وذكر أحمد بن خالد، قال: حدثني يحيى بن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" ، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قال: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريماً، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، تلتمس من غيرك شكر ما آتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك. واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن رده.

وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، فقال: سمعت إسحاق بن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بن علي والعباس بن محمد.

وذكر عن أحمد بن خالد، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الفهري، قال: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة - وقال قوم: بل خطب في أيام - منى فقال في خطبته: أيها الناس؛ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه؛ قد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني؛ فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به؛ إذ يقول تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" . أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.
وذكر عن داود بن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به... فقطع الخطبة ثم قال: سمعاً سمعاً؛ لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جباراً عنيداً، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل؛ فوالله ما أردت بها وجه الله ؛ ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها؛ فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت؛ فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره...ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

وذكر عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قال: قمت إلي أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرأت: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون" فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك. قال: فخرجت من عنده سليماً.

وقال عيسى بن عبد الله بن حميد: حدثني إبراهيم بن عيسى، قال: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد - يعني به مسجد المدينة ببغداد - فلما بلغ:اتقوا الله حق تقاته، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق الله حق تقاته...فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعاً سمعاً، لمن ذكر بالله؛ هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئاً، فقال أبو جعفر:

الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لايقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه. ثم قال: خذه إليك يا ربيع، قال: فوثقنا له بالنجاة - وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروهاً قال: خذه إليك يا مسيب - قال: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر؛ وجعل عيسى بن موسى يمشي على هيئته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: كأنك خفتني على هذا الرجل! قال: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك؛ إلا أن أمير المؤمنين أكثر علماً، وأعلى نظراً من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه. فلما جلس قال: علي بالرجل، فأتى به؛ فقال: يا هذا؛ إنك لما رأيتني على المنبر، قلت؛ هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك؛ فاشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغيير قدميك في سبيل الله؛ أنطه يا ربيع أربع مائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قال: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيباً بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعداً للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرضاً، والفيء إرثاً، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد؛ أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً! وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل:

تفرقت الظباء على خداش       فما يدري خداش ما يصيد

قال: ثم أمر بإحضار القواد و الموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حماداً التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدم والمسيب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر. قال: فأزم عليه طويلاً لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال:

ما لي أكفكف عن سعدٍ ويشتمني        ولو شتمت بني سعدٍ لقد سكنوا
جهلاً علي وجبناً عن عـدوهـم               لبئست الخلتان الجهل والجبـن

ثم جلس وقال:

فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن        لأكشفه إلا لإحدى الـعـظـائم

والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحداً بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد من وعظ بغيره. قدم يا غلام، ثم ركب.

وذكر الفقيمي أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن مولى محمد بن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الرحمن بن حسن واخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير؛ فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين؛ فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي؛ فوالله ما كان فيها برجل؛ قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية؛ إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غداً؛ فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه؛ فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه؛ وقد كان أتى محمد بن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب؛ وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل؛ وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها؛ وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم؛ فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة؛ حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصاراً، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها؛ من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلماً وحسداً منهم لنا، وبغياً لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم.

جهلاً علي وجبناً عن عدوهم      لبئست الخلتان الجهل والجبن

فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالاً فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالاً يعملون عليه؛ فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال؛ فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعةً، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي؛ فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مريب".

قال: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس؛ لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه؛ بإعزاز دينه، وإعلاء حقه. إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم. إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا؛ ولم تمنعنا إقامة الحق له من إقامة الحق عليه.

وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الفضل بن الربيع أخبره عن أبيه، قال: قال المنصور: قال أبي: سمعت أبي؛ علي بن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بن جميل الكاتب - وأصله من الربذة - فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشرة درة، وقال لا تلبس سراويل كتان فإنه من الصرف.

وذكر محمد بن إسماعيل الهاشمي، إن الحسن بن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وأخاه إبراهيم بياخمري وخرج إبراهيم بن حسن بن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بن أبي طالب بالمدينة كتاباً يذكر لهم فيه إبراهيم بن الحسن بن الحسن وخروجه بمصر، وأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وأنهم يدأبون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم؛ حتى وثب بنو أبيه غضباً على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بن ربيعة بن معاوية اليربوعي:

فلولا دفاعي عنكم إذ عـجـزتـم             وبالله أحمـي عـنـكـم وأدافـع
لضاعت أمور منكم لا أرى لـهـا              كفاةً وما لا يحفظ الـلـه ضـائع
فسموا لنا من طحطح الناس عنكـم      ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!
ومازال منا قد علمتـم عـلـيكـم              على الدهر إفضال يرى ومنافـع
ومازال منكم أهل غدرٍ وجـفـوةٍ             وبالله مغتر وللـرحـم قـاطـع
وإن نحن غبنا عنكـم وشـهـدتـم            وقائع منكم ثم فـيهـا مـقـانـع
وإنا لنرعاكم وترعون شـأنـكـم              كذاك الأمور؛ خافضات روافـع
وهل تعلون أقدام قوم صـدورهـم           وهل تعلون فوق السنام الأكارع!
ودب رجال لـلـرياسة مـنـكـم               كما درجت تحت الغدير الضفادع؟

وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: كان أرزاق الكتاب والعمال أيام أبي جعفر ثلاثمائة درهم؛ فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائة إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن أبي مسلم ثلثمائة درهم في الشهر.

وذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة؛ فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذلك عن سعره؛ فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقه حتى يعود سعره ذلك إلى حاله؛ وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك؛ وسأل من بحضرته عن عمله؛ فإن أنكر شيئاً عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.

وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بن خاقان التميمي، قال: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قال: ذكر الوليد عند المنصور أيام نزوله ببغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا:لعن الله الملحد الكافر - قال: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي بن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة - فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قال: حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببـدرٍ شـهـدوا          جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلنا الضعف من ساداتـهـم          وعدلنا ميل بدرٍ فـاعـتـدل

فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين؛ فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قال: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلي دين ابن الزبعري يوم قال هذا الشعر.قال: فلعن المنصور ولعنه جلساؤه؛ وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده.

وذكر عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموماً، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.

وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب إلى العامل هناك:

دمه في دمك إلا توجهه إلي؛ فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له - وقد كان شيخاً كبير السن - بصوت ضعيف ضئيل غير مستعلٍ:

أتروض عرسك بعد ما هرمت              ومن العناء رياضة الـهـرم

قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول:

العبد عبدكم والمـال مـالـكـم         فهل عذابك عني اليوم منصرف!

قال: يا ربيع، قد عفوت عنه؛ فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قال: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حداً من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فأنصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.

قال: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد فزد في خطاك تزدد من الثواب.

قال: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقاً فجئ به ملبباً فقد أذنا لك في ذلك.

وذكر عمر بن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قال: بلغني أن السيد بن محمد مات بالكرخ - أو قال: بواسط - ولم يدفنوه،لأن حق ذلك عندي لأحرقنها. وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمن المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.

وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار ببغداد و استقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:

تبيت من البلوى على حد مرهفٍ            مراراً ويكفي الله ما أنت خائف

قال: وأنشدني عبد الله بن الربيع، قال: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:

ورب أمور لا تضيرك ضيرةً             للقلب من مخشاتهن وجيب

وقال الهيثم بن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بن حسن في البلاد هرباً من عقابه، تمثل:

إن قناتي لنـبـع لا يؤيسـهـا            غمز الثقاف ولا دهن ولا نـار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحـه       وإن أخف آمناً تقلق به الـدار
سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم       إني لكل امرئ من جاره جـار

وذكر علي بن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قال: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشترينهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهماً، قال: صالحان، استحطه؛ فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك. فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهماً، قال: أحسنت؛ اقطع أحدهما قميصاً، واجعل الآخر رداء لي. ففعلت، فلبس القميص خمسة عشرة يوماً لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بن علي، قال: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب؛ فإن رأى أحدهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قال: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك؛ وإني لأراها تلمع في لحية فلان؛ فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم؛ وإن رأى على أحدهم وشياً طاهراً عضه بلسانه.

وذكر عن أحمد بن خالد، قال: كان المنصور يسأل مالك بن أدهم كثيراً عن حديث عجلان بن سهيل، أخي حوثرة بن سهيل، قال: كنا جلوساً مع عجلان، إذ مر بنا هشام بن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قال: من تعني؟ قال: هشاماً، قال: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.

وقال أحمد بن خالد: قال إبراهيم بن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال المنصور يوماً: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين، قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال:

أما إنك نعم الغلام؛ ولكن لا يدخل علي قصري عربي يخدم حرمي؛ اخرج عافاك الله؛ فاذهب حيث شئت! وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن معاوية بن بكر - وكان من الصحابة - أن المنصور ضم رجلاً من أهل الكوفة، يقال له الفضيل بن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وكان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر. قال: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بن غزوان مولى عثمان بن نهيك إلى الفضيل - وهو مع جعفر بحديثه الموصل - وقال: إذا رأيتما فضيلاً فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتاباً منشوراً، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. قال: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن؛ فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد؛ فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه - وكان الفضيل رجلاً عفيفاً ديناً - فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولاً، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.

فذكر معاوية بن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفراً أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قال سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء؛ وهو أعلم بما يصنع؛ فقال : يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة. قال فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن عبد الله بن علي، وقد قتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلماً، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قال: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.

وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بن عفان أن حفصاً الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بن أبي جمعة، مولى عباد بن زياد، وكان المنصور صيره مؤدباً للمهدي في مجالسه، وكان مداحاً لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد؛ ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة. قال: وكان مما مدح به بني أمية قوله:

أين روقا عبد شمسٍ أين هـم            أين أهل الباع منهم والحسب!
لم تكن أيد لـهـم عـنـدكـم                 ما فعلتم آل عبد المطـلـب!
أيها السائل عـنـهـم أولـو        nbsp;          جثث تلمع من فوق الخشـب
إن تجذوا الأصل منهم سفهـاً               يا لقوم للزمان المنـقـلـب!
إن فاحلبوا ما شئتم في صحنكم         فستسقون صرى ذاك الحلب

وقيل: إن حفصاً الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: مولى لي مثلك لا أعرفه! قال: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.

ومما رثي به قول سلم الخاسر:

عجباً للذي نعـى الـنـاعـيان            كيف فاهت بموته الشفتـان!
ملك إن غدا على الدهر يومـاً          أصبح الدهر ساقطاً للجـران
ليت كفاً حثت علـيه تـرابـاً               لم تعد في يمينـهـا بـنـان
حين دانت له البلاد على العس        ف وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدتـه ال               ملك، عشرون حجة واثنتـان
إنما المرء كالـزنـاد إذا مـا                   أخـذتـه قـوادح الـنـيران
ليس يثني هواه زجـر ولا يق             دح في حبلـه ذوو الأذهـان
قلدته أعنة المـلـك حـتـى                 قاد أعداءه بـغـير عـنـان
يكسر الطرف دونه وترى الأي             دي من خوفه علـى الأذقـان
ضم أطراف ملكه ثم أضحـى              خلف أقصاهم ودون الدانـي

هاشمي التشمير لا يحمل الثق          ل على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخو             ف وعزمٍ يلوي بكل جـنـان
وذهبت دونه النفوس حـذاراً                 غير أن الأرواح في الأبدان