المجلد الثامن - ذكر أسماء ولده ونسائه

ذكر أسماء ولده ونسائه

فمن ولده المهدي - واسمه محمد - وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت المنصور أخت يزيد بن المنصور الحمري؛ وكانت نكنى أم موسى؛ وهلك جعفر هذا قبل المنصور.

وسليمان وعيسى ويعقوب؛ وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله.

وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.

وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.

والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم.

والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس. وذكر إسحاق بن سليمان أنه قال: قال لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس؛ العالية بنت أمير المؤمنين.

قال: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا من بني أمية.

ذكر الخبر عن وصاياه

ذكر عن الهيثم بن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجهاً إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أياماً والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاثٍ بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان؛ يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكاً. فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئاً إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحداً، يصر مفتاحه في كم قميصه. قال: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم - فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك. ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر؛ فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث؛ حتى بلغ سبعة ؛ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة؛ فإياك أن تستبدل بها؛ فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور؛ فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر؛ فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واتكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك. ، وما أظنك تفعل.

وأوصيك بأهل خراسان خيراً، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعسن برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.

وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وإني غير راجع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختوماً، فإذا بلغك أني قد مت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين أحب أن تقضيه وتضمنه، قال: هو علي يا أمير المؤمنين، قال: فإنه ثلثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها. قال: أفعل، هو علي. قال: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لأخوتك الأصاغر.

قال: نعم، قال: ورقيقي الخاصة هم لك،فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم

الحاجة. قال: أفعل، قال: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قال: أفعل، قال: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع. قال: والمتاع والثياب، سلمه لهم قال: أفعل. قال: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه.ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلاً بالعمرة والحج، قد ساق هدية من البدن، وأشعر وقلد؛ وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.

وذك أبو يعقوب بن سليمان،قال: حدثتني جمرة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الأيمان ألا تفتح بعض الخزائن، ولا تطاع عليها أحداً إلا المهدي؛ ولا هي؛ إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث؛ حتى يفتحا الخزانة. فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه إلا يفتحه ولا يطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته. فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولى الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة؛ فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم؛ وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذاك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.

وذكر عن إسحاق بن عيسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله؛ إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة؛ وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي؛ يجعل لك فيها كربك وحزنك مخرجاً، أو قال: فرجاً ومخرجاً - ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. احفظ يا بني محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم. والزم الحلال فإن ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل. وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن الله لو علم أن شيئاً أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم؛ ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، واحسم للعدو، وأنجع في الدواء. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة. وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية. واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها. وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة؛ وهي من شيم الزمان. وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع. جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار،ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.

قال: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.

وذكر عمر بن شبة عن سعيد بن هريم، قال: لما حج المنصور في السنة التي توفي بها شيعة المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها؛ ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد؛ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، و والله لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفت عليك، فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.

وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم".

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت           سنوك، وأمر الله لابـد واقـع
أبا جعفر هل كاهن أو منجـم             لك اليوم من حر المنية مانع!

قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى شيئاً يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوباً، قال: ما أرى على صدر البيت شيئاً، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: " بسم الله الرحمن الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، فأمر بفكيه فوجئا. وقال: ما وجدت شيئاً تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيراً مما كان، وركب فرساً، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر - وكان آخر منزل بطريق مكة - كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.

وذكر عن محمد بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قال: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:

أما ورب السكـون والـحـرك                إن المنايا كـثـيرة الـشـرك
عليك يا نفـس إن أسـأت وإن            أحسنت بالقصد، كل ذاك لـك
ما اختلف الليل والـنـهـار ولا               دارت نجوم السماء في الفلـك
إلا بنقل السلطان عـن مـلـك             إذا انقضى ملكه إلـى مـلـك
حتى يصيرا بـه إلـى مـلـك                 ما عز سلطانه بـمـشـتـرك
ذاك بديع السماء والأرض والمر           سي الجبال المسخر الـفـلـك

فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.

وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جواباً، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلاً ينشدني هذه الأبيات:

أخي أخفض من مناكا            فكأن يومك قد أتاكـا
ولقد أراك الدهر مـن              تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال               عبد الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملـكـتـه                 والأمر فيه إلى سواكا

فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت. فقلت: خيراً رأيت يا أمير المؤمنين. فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.
وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بمكة؛ صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، كذلك قال هشام بن محمد ومحمد بن عمر وغيرهما.

وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.

وأم المهدي أم موسى بنت المنصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميري.

خلافة المهدي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة

حين مات والده المنصور بمكة

ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قال: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة؛ وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، قضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب الزوال، ثم انصرف - وكذلك كان يفعل الهاشميون - وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم؛ فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلداً السيف عليهما، وأنا أساير محمد بن عون بن عبد الله بن الحارث - وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم؛ وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلداً السيف عليهما - قال: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر وقول علي بن أبي طالب فيه. فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: أحسب الرجل قد مات؛ فأرادا أن يحصنا مكة؛ فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه كل يوم؛ فإذا بموسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بن منصور في ناحية السرادق - وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطة، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه - قال: فلما رأيته ناحية السرادق ورأيت موسى مصدراً، علمت أن المنصور قد مات. قال: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همساً من بكاء. فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك؛ ولكن لعله ثقيل، أو إصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم. وقال بن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله. فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبياً رطباً ما يتحلحل.

ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم". من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين - ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء؛ ولكن هذا عهد أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة - أما بعد: فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعاً، ولا يذيق بعضكم بأس بعض. يا بني هاشم، ويا أهل خراسان...ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.

قال النوفل: قال أبي: وكان هذا شيئاً وضعه الربيع؛ ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال:

يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين كان ضربني واصطفى مالي؛ فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع بن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني؛ فكنت الثالث؛ وبايع الناس؛ فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعاً، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه؛ فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال؛ فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريره نحمله؛ فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه؛ وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه؛ حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.

قال: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان؛ أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بن موسى على بيعة مجددة للمهدي - وكان القائم بذلك الربيع - فأبى عيسى بن موسى، فأقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون؛ فنهض علي بن عيسى بن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.

وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه أن موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي. وبعثا بعد بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة؛ ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بن نصر بن مالك؛ وهو يومئذ على شرطة موسى بن المهدي، واندس علي بن عيسى بن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بن موسى، وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم. وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروزي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بن سلمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته؛ إلا أن محمداً كان أحسنهم قياماً به حتى طفئ ذلك وسكن. وكتب به إلى المهدي،فكتب بعزل علي بن عيسى عن حرس موسى بن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حري بن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بن محمد. وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصلوا الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.

وذكر الهيثم بن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب - أو غيره من منازل طريق مكة - رؤيا - وكان الربي عديله - وفزع منها، وقال: يا ربيع ما أحيبني إلى ميتاً في وجهي هذا؛ وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قال الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قال: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هارباً من ذنوبي وإسرافي عل نفسي؛ فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قال الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه. ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم؛ ويكبت عدوكم، ويسر وليكم؛ وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي؛ لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغٍ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين؛ نحن إلى ذلك أسرع . قال: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم؛ فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكياً مشقوق الجيب لاطم رأسه، فقال بعض من حضر: ويلي عليك يا بن شاة! يريد الربيع - وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة - قال: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قال: فبلغ المهدي فلما قدم عليه الربيع قال: يا عبد؛ ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت ما فعلت به! وقال قوم أنه ضربه؛ ولم يصح ذلك. قال: وذكر من حضر حجة المنصور، قال: رأيت صالح بن المنصور وهو مع أبيه والناس معه؛ وإن موسى بن المهدي لقي تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحاً معه.

وذكر عن الأصمعي أنه قال: أول من نعى أبو جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق قال يونس: وماذا؟ قال:

تنتجوها خير أضخم العنق        موت الإمام فلقة من الفلق

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان المنصور - فيما ذكر - أوصى بذلك.

وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي أخو المسيب بن زهير - وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي. وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس - وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.

وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وشريك بن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة. وقيل: إن شريكاً كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.

وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور - فيما ذكر - عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن. وقيل كان موسى بن كعب.

وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة. وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.

وأصاب الناس - فيما ذكر محمد بن عمر - في هذه السنة وباء شديد