المجلد الثامن - ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بن يحي كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وإرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحي بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالديلم.

ذكر الخبر عن مخرج يحي بن عبد الله وما كان من أمره

ذكر أبو حفص الكرماني، قال: كان أول خبر يحي بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتنم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إيه الفضل بن يحي في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بن الحجاج بن قتيبة بن مسلم طبرستان، وولى على بن الحجاج الخزاعي جرجان، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم أكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة. وشخص الفضل بن يحي، واستحلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكنوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم؛ لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم. ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع؛ فكاتب يحي ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله. ونزل الفضل بطالقان الري ودستبي بموضع يقال له أشب؛ وكان شديد البرد كثير الثلوج؛ ففي ذلك يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي:

لدور أمـس بـالـدولا           ب حيث السيب ينعرج
أحب إلـي مـن دور           أشب إذا هم ثلـجـوا

قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحي، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم؛ على أن يسهل له خروج يحي إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحي إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أماناً ليحي بن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بي هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن علي والعباس ابن محمد ومحمد بن إبراهيم وموسى بن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحي بن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقاً سنية، وأنزله منزلا سرياً بعد أن أقام في منزل يحي بن خالد أياماً، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحي والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل؛ ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ظفرت فلا شلت يد بـرمـكـية                رتقت بها الفتق الذي بين هاشـم
على حين أعيا الراتقين التـئامـه           فكفوا وقالوا ليس بالـمـتـلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخـطة               من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فـائزاً                 لكم كلما ضمت قداح المساهـم

قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:

للفضل يوم الطالقان وقبـلـه            يوم أناخ به علـى خـاقـان
ما مثل يوميه اللذين تـوالـيا             في غزوتين توالتـا يومـان
سد الثغور ورد ألفة هـاشـم            بعد الشتات، فشعبها مـتـدان
عصمت حكومته جماعة هاشم        من أن يجرد بينها سـيفـان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها       عظم النبأ وتفرق الحكـمـان

فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.

وذكر أحمد بن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لما قدم يحي بن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بن أبي طالب، فقلت : يا عم، ما بعدك مخبر و لا بعدي مخبر؛ فأخبرني خبرك، فقال: يا أبن أخي، والله إن كنت إلا كما قال يحيى ابن خطب:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه             ولكنه من يخذل اللـه يخـذل
لجاهد حتى أبلغ النفس حمدها           وقلل يبغي العز كل مقـلـل

وذكر الضبي أن شيخاً من النوفليين، قال: دخلنا على عيسى بن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض؛ وهو قائم متكئ عليها؛ وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجباً منه ، فقلنا ما الذي يضحك الأمير أدام لله سروره! قال: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا تمم الله للأمير سروره، وزاده سروراً. فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائماً - واتكأ على الفراش وهو قائم - فقال: كنت اليوم عد أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلاً في الحديد، وعنده بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسئ بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم - قال: فلما دعي بيحيى قال له الرشيد: هيه هيه! متضاحكاً؛ وهذا يزعم أيضاً أنا سممناه! فقال يحي: ما معنا يزعم؟ ها هو ذا لساني - قال: وأخرج لسانه أخضر مثل السلق - قال: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحي: يا أمير المؤمنين؛ إن لنا قرابة ورحماً، لسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين؛ إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله وقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم! علام تحبسني وتعذبني؟ فال: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا؛ فإنه شاق عاصي؛ وإنما هذا منه مكر وخبث؛ إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فأقبل يحي عليه؛ فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري:

هذا كلامه قدامك؛ فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافاً بنا. قال: فأقبل عليه يحي، فقال: نعم، ومن انتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي هذا هاجر أبوك إلى المدينة. ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما الناس نحن وانتم؛ فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا؛ فوجدنا بذلك مقالاً فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالاً فينا؛ فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؛ يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحةً منهلك؛ وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا؛ إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض. والله يا أمير المؤمنين؛ لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله!وأنشدني فيه مرثيةً قالها نحواً من عشرين بيتاً وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك! قال: فتغير وجه الزبيري وأسود، فأقبل عليه هارون ، فقال: أي شئ يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين؛ ما كان مما قال حرف قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قال: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قاله شيء؛ ولقد تقول علي ما لم أقل. قال: فأقبل الرشيد على يحي ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أن بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته. فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا ادري ما هو! قال يحي بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقاً فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلي حولي وقوتي؛ قال: فاضرب منها وأرعد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم اعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلي حولي وقوتي إن كنت قلته. قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.

قال: فقال عيسى بن جعفر: والله ما يسرني أن يحي نقصه حرفاً مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه.

قال: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته؛ وهي من ولد عبد الرحمن بن عوف.

وذكر إسحاق بن محمد النخعي أن الزبير بن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بن عبد الله تزوج امرأةً من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها؛ فقالت لغلامين له زنجيين: أنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق - ولاطفتهما - فتعاوناني على قتله؟ قالا: نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعاً معها، فقعدا على وجهه حتى مات. قال: ثم إنها سقتها نبيذاً حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة؛ فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات. فأخذ الغلامان؛ فضربا ضرباً مبرحاً، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك؛ فأخرجت من الدار ولم تورث.

وذكر أبو الخطاب أن جعفر بن يحيى بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره، قال: دعا الرشيد اليوم بيحيى بن عبد الله بن حسن، وقد أحضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع للأمان؟ لو كان محارباً ثم ولى كان آمناً. فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري:هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة؛ وأنت أعلم بذلك؛ فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري - وكان بكار بن عبد الله بن مصعب حاضراً المجلس - فأقبل على يحيى بن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا؛ وفعلت بنا وفعلت. فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قال جعفر: فوالله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكاً شديداً. قال: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قال للناس: سموه. قال يحيى: كلا ما زلت عليلاً منذ كنت في الحبس؛ وقبل ذلك أيضاً كنت عليلاً. قال أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهراً حتى مات.

وذكر أبو يونس إسحاق بن إسماعيل، قال: سمعت عبد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي، الذي يعرف بالخطيب، قال: كنت يوماً على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قال: فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلى أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب؛ فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلاً عند الناس. فما مكثنا إلا قليلاً حتى جاء الفضل بن الربيع، فقال: إن عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحداً، فقال: قال: إن عندي شيئاً أذكره. فقال: قل له يقله لك، قال: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قال: أدخله. وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره؛ وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها؛ وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.

وطلع الزبيري، فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: إنه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه وأخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه. قال: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مماذا؟ قال: جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحداً إلا وقد أدخله في الخلاف عليك. قال: فتقول له هذا في وجهه! قال: نعم، قال الرشيد: أدخله، فدخل، فأعد القول الذي قال له، فقال يحيى بن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبداً، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفي مؤنتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهه بين يديك وتصبر قليلاً. فقال: يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه. وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بن مصعب إلى خلاف على هذا - ووضع يده عليه، وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين. فقال عبد الله: آمين رب العالمين. فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك ، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار؛ فلما خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفاً على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد - وكان ذلك من عادتي - فبينما أنا أحل عنه منطقته؛ إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قال له: ما وراءك؟ قال: يقول لك مولاي، أنشدك الله إلا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في إثرك؛ وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك؛ فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفته سعى بي؛ وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره؛ فاذهب إليه، فكل ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبي؛ فقد وجهتك وما آمن عليك، وقد كان قال لي أبي حين انصرفا - وذلك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قال عبد الله بن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين؛ فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمراً أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعاً أركض ركضاً لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي؛ فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوباً في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه؛ فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرشيد؛ فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك. فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين؛ لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبداً! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع مني في زيادة نمرة لباعك بها. فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيراً، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم. ثم قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار.