المجلد الثامن - ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية

ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية

وفي هذه السنة، هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام.

ذكر الخبر عن هذه الفتنة ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة. فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي:

من مبلغ يحيى ودون لقـائه            زأرت كل خنابسٍ همهـام
يا راعي الإسلام غير مفرطٍ            في لين مغتبط وطيب مشم
تعذى مشاربه وتسقى شربةً          ويبيت بالربوات والأعـلام

حتى تنخنخ ضارباً بجرانه                ورست مراسيه بدار سلام
فلكل ثغر خارس من قلبه                وشعاع طرف ما يفتر سام

وقال في موسى غير أبي يعقوب:

قد هاجت الشام هيجـاً                   يشـيب رأس ولـيده
فصب موسى عليهـا                       بخـيلـه وجـنـوده
فدانت الشـأم لـمـا                          أتى نـسـيج وحـيده
هو الـجـواد الـذي                             بد كل جود بـجـوده
أعـداه جـود أبــيه                            يحيى وجود جـدوده
فجاد موسى بن يحيى                     بطـارفٍ وتـلـيده
ونال موسى ذرى المج                     د وهو حشو مهـوده
خصصته بمـديحـي                           منشوره وقـصـيده
من البـرامـك عـود                               له فأكـرم بـعـوده
حووا على الشعر طراً                         خفـيفـه ومــديده

وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولاها عمر بن مهران.

ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفراً مصر

وتولية جعفر عمر بن مهران إياها

ذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلاً، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلاً أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباساً خسيساً، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهماً، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلاً وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلاماً؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان و فلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى.

قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال:

يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أإلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه.

وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصناً.

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.