المجلد الثامن - ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مدداً لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحواً من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح.

وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.

وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان،وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أماناً من الرشيد، ووصله ورأسه.

وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية.

ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها

وفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان والياً عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعاً.

وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جنداً من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ما الفضل إلا شهاب لا أفـول لـه                  عند الحروب إذا ما تأفل الشهـب
حامٍ على ملك قوم عز سهـمـهـم               من الوراثة فـي أيديهـم سـبـب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بـهـا            كتائب ما لها في غـيرهـم أرب
كتائب لبني العباس قـد عـرفـت                   ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين فـي عـدادهـم                  من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن الـقـوم الـذين هـم                    أولى بأحمد في الفرقان إن نسبـوا
إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق                 يبقى على جود كفـيه ولا ذهـب
ما مر يوم لـه مـذ شـد مـئزره                       إلا تـمـول أقـوام بـمـا يهـب
كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها                للطالبين مداها دونـهـا تـعـب

يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا           ينبو إذا سلت الهندية الـقـضـب
ولا الرضى والرضى لله غـايتـه                  إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعـادلـه                غيث مغيث ولا بحر لـه حـدب

قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الـجـود مـن لـدن آدمٍ                 تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سـمـاؤه               فيا لك من هطل ويا لك من وبـل
إذا أم طفل راعها جوع طفلـهـا                دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بـك الإسـلام إنـك عـزه                   وإنك من قوم صغيرهـم كـهـل

وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول:

تخيرت للمدح بن يحيى بن خـالـد            فحسبي ولم أظلم بـأن أتـخـيرا
له عادة أن يبسط العدل والـنـدى              لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولـم يزل            له والد يعلو سـريراً ومـنـبـرا
يعد ويحيى البـرمـكـي ولا يرى                 لدى الدهر إلا قـائداً أو مـومـرا

ومدحه سلم الخاسر، فقال:

وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ              تكنفها البرامكة البـحـور
وقوم منهم الفضل بن يحـيى           نفير مـا يوازنـه نـفـير
له يومان: يوم نـدىً وبـأسٍ              كأن الدهر بينهمـا أسـير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ          فهمـتـه وزير أو أمـير

وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يوماً بعد ما أغفلني حيناً، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعاً، فاستوى جالساً - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم.قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحي قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئاً، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطاً سجزياً، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.

قال: ولما قدم الفضل بن يحي من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال:

حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت          بمقدمه تجري لنا الطير أسـعـدا
وما هجعت حتى رأته عـيونـنـا                  وما زلن حتى آب بالدمع حـشـدا
لقد صبحتنـا خـيلـه ورجـالـه                     بأروع بذ الناس بـأسـاً وسـوددا
نفى عن خراسان العدو كما نـفـى            ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مـسـيره              إلينا، وقالوا شعبـنـا قـد تـبـددا
على حين ألقى قفل كـل ظـلامةٍ               وأطلق بالعفو الأسير الـمـقـيدا
وأفشى بلا من مع العـدل فـيهـم               أيادي عـرفٍ بـاقـياتٍ وعـودا
فأذهب روعات المخاوف عنـهـم                 وأصدر باغي الأمن فيهـم وأوردا

وأجدى على الأيتام فيهـم بـعـرفـه             فكان من الآبـاء أحـنـى وأعـودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى       وفي البأس ألفوها من النجم أبـعـدا
سما صاعداً بالفضل يحـيى وخـالـد           إلى كل أمر كان أسنـى وأمـجـدا
يلين لمن أعطى الـخـلـيفة طـاعةً             ويسقي دم العاصي الحسام المهـنـدا
أذلت مع الشرك النـفـاق سـيوفـه             وكانت لأهل الـدين عـزاً مـؤبـدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الـذي       على فضله عهد الخـلـيفة قـلـدا
سمي النبي الفاتح الـخـاتـم الـذي            به الله أعطـى كـل خـير وسـددا
أبحت جبال الكـابـلـي ولـم تـدع                 بهن لنـيران الـضـلالة مـوقـدا
فأطلعتها خيلاً وطـئن جـمـوعـه                 قتيلاً ومـأسـوراً وفـلاً مـشـردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعدمـا          تحوب مخذ ولا يرى الموت مفـردا

وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ        وجود يديه بخـل كـل بـخـيل

قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم.

وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.

وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة.