المجلد الثامن - ثم دخلت سنة ثمانين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.

ذكر الخبر عما صار إليه أمرها

ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحاً ولا فرساً، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:

لقد أوقدت بالشام نـيران فـتـنةٍ           فهذا أوان الشأم تخمـد نـارهـا
إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ          عليها، خبت شهبانها وشرارهـا

رماها أمير المؤمنين بـجـعـفـرٍ              وفيه تلاقى صدعها وانجبـارهـا
رماها بميمون الـنـقـيبة مـاجـد             تراضى به قحطانهـا ونـزارهـا
تدلت عليهم صخـرة بـرمـكـيةً               دموغ لهام الناكبين انـحـدارهـا
غدوت تزجى غابة في رءوسـهـا     &nnbsp;    نجوم الثريا والمنـايا ثـمـارهـا
إذا خفقت راياتهـا وتـجـرسـت               بها الريح هال السامعين انبهارهـا
فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبـنـكـم       حجاكم طويلات المنى وقصارهـا
فإن أمير المؤمـنـين بـنـفـسـه             أتاكم وإلا نفـسـه فـخـيارهـا
هو الملك المأمول للبر والـتـقـى           وصولاته لا يستطاع خـطـارهـا
وزير أمير المؤمـنـين وسـيفـه              وصعدته والحرب تدمى شفارهـا
ومن تطو أشرار الخـلـيفة دونـه             فعندك مأواها وأنـت قـرارهـا
وفيت فلم تـغـدر لـقـوم بـذمةٍ               ولم تدن من حالٍ ينالـك عـارهـا
طبيب بإحياء الأمـور إذا الـتـوت              من الدهر أعناق، فأنت جبـارهـا
إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت لـه            ملمي خطب لم ترعه كـبـارهـا
لقد نشأت بالشأم مـنـك غـمـامة           يؤمل جدواها ويخشـى دمـارهـا
فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمـهـا            أتاها حياها، أو أتاهـا بـوارهـا
فإن سالموا كانت غـمـامة نـائلٍ             وغيثٍ، وإلا فالدماء قـطـارهـا
أبوك أبو الأملاك يحيى بن خـالـدٍ             أخو الجود والنعمى الكبار صغارها
كأين ترى في البرمكيين من نـدىً           ومن سابقاتٍ ما يشق غـبـارهـا
غدا بنجوم السعد من حل رحـلـه             إليك، وعزت عصبة أنت جارهـا
عذيري من الأقدار هل عزماتـهـا               مخلفتي عن جعفرٍ واقتـسـارهـا
فعين الأسى مطروفة لـفـراقـه                  ونفسي إليه مـا ينـام ادكـارهـا

وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكراماً. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقاً على قربك، وأسفاً على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضاً من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظاً لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم.

وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضياً ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظماً؛ إلا وازددت عن شكرك عجزاً وضعفاً وما خلق الله أحداً من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلاً مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصراً عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.

وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة.

وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريداً الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة.

وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس.

وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطناً.

وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام،فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس.

وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.

وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.

وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.

وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضاً عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة.

وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.

وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أياماً، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحواً من أربعين يوماً فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمداً الأمين، وولاه العراقين.

وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.