المجلد الثامن - ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم

ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم

قال: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:

ألان استرحنا واستراحت ركابـنـا               وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السـرى            وطي الفيافي فدفداً بعـد فـدفـد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعـفـرٍ                  ولن تظفري من بعده بـمـسـود
وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطـلـي                  وقل للرزايا كـل يوم تـجـددي
ودونك سيفاً برمـكـياً مـهـنـداً                    أصيب بسيفٍ هاشمي مـهـنـد

وفيهم يقول في شعر له طويل:

إن يغـدر الـزمـن الـخـئون بـنـا فـقــد              غدر الـزمـان بـجـعـفـرٍ ومـحـمـــد
حتـى إذا وضـح الـنـهـار تـكـشـفـــت             عن قـتـل أكـرم هـالـك لـم يلــحـــد
والـبـيض لـولا أنـهـــا مـــأمـــورة                    ما فـل حـد مـهـنـد بـمــهـــنـــد
يا آل بـرمـك كـم لـكــم مـــن نـــائل              ونـدى، كـعـد الـرمـل غـير مـصـــرد

إن الخليفة لايشك أخوكملكنه في برمكٍ لم يولد
نازعتموه رضاع أكرم                                حرةٍ مخـلـوقة مـن جـوهـرٍ وزبـــرجـــد
ملــك لـــه كـــانـــت يد فـــياضة                  أبـداً تـجـود بـطـارفٍ وبـمـتـــلـــد
كانـت يداً لـلـجـود حـتـى غـلـــهـــا              قدر فـأضـحـى الـجـود مـغـلـول الــيد

وفيهم يقول سيف بن إبراهيم:

هوت أنجم لجدوى وشلت يد الندى             وغاضت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبنـاء بـرمـكٍ                     بها يعرف الحادي طريق المسالك

وقال بن أبي كريمة:

كل معير أعير مـرتـبةً                  بعد فتى برمكٍ على غرر
صالت عليه من الزمان يد            كان بها صائلاً على البشر

وقال العطوي أبو عبد الرحمن:

أما والله لولا قـول واشٍ                وعين للخلـيفة لا تـنـام
لطفنا حول جذعك واستلمنا         كما للناس بالحجر استلام
على الدنيا وساكنها جميعاً           ودولة آل برمكٍ السـلام

وفي قتل جعفر قال أبو العتاهية:

قولا لمن يرتجي الحياة أمـا               في جعفرٍ عبـرة ويحـياه!
كانا وزيري خليفة اللـه هـا                رون هما ما هما خـلـيلاه
فذاكم جعـفـر بـرمـتـه                      في حلق رأسه ونـصـفـاه
والشيخ يحيى الوزير أصبح قد           نحاه عن نفسـه وأقـصـاه
شتت بعد التجميع شمـلـهـم            فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
كذاك من يسخط الإله بـمـا               يرضي به العبد قد تـاهـوا
سبحان من دانت الملوك لـه              أشهـد أن لا إلـه إلا هـو
طوبى لمن تاب بعد غـرتـه                فتاب قبل الممات، طوبـاه!

قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية،

فوجه الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.

وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة الليل.

وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.

وفيها مات يعقوب بن داود بالرقة.

وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قرباناً له ووسيلة، وولاه العواصم.

ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه.

ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه: ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن عبد الملك بن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به؛ وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع؛ فذكر أن عبد الملك بن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفراً بالنعمة، وجحوداً لجليل المنة والتكرمة! فقال:

يا أمير المؤمنين،لقد بؤت إذاً بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم؛ وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية. إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداة النصيحة، ولها عليك العدل في حكمهاوالتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها. فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك!هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده؛ ولعله لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لم يعرفه مني. وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذلك يا قمامة! قال قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فيما تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور؛ فإن كان مأموراً فمعذور، وإن كان عاقاً ففاجر كفور؛ أخبر الله وجل بعداوتة، وحذر منه بقوله: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم". قال: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح؛ ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك؛ فإنه الحكم بيني وبينك.فقال عبد الملك : رضيت بالله حكماً، وبأمير المؤمنين حاكماً؛ فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.

قال: فلما كان بعد ذلك جلس مجلساً آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يوماً أحتج فيه، ولا أجاذب منازعاً وخصماً. قال: ولم؟ قال: لأن أوله جرى على غير السنة؛ فأنا أخاف آخره. قال: وما ذاك؟ قال: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام. قال: السلام عليكم؛ اقتداء بالسنة، وإيثاراً للعدل، واستعمالاً للتحية. ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي...البيت.

ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع؛ وكأني بالوعيد قد أروى ناراً تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم؛ فمهلاً؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك؛ ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضهه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعة القلوب في الصدور؛ فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته؛ كنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:

ومـقـام ضـيق فـرجـتــه               ببنـانـي ولـسـانـي وجـدل
لو يقـوم الـفـيل أو فـيالــه            زل عن مثل مقامي وزحل قال:

فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.

وذكر زيد بن علي بن الحسين العلوي، قال: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك - وهو يومئذ على شرطه - فقال: أفي إذن انا قأتكلم، قال: تكلم، قال: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحاً، فعلام حبسته! قال: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمي والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. قال: أما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه؛ ولكن أرى أن تحبسه محبساً كرماً يشبه محبس مثلك مثله. قال: فإني أفعل. قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه، فقل له أنظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك؛ فذكر قصته وما سأل. قال: وقال الرشيد يوماً لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلمته: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا؟ قال:

لمروان الجعدي، قال: ما أبالي أي الفحلين غلب علي؛ فحبسه الرشيد عند الفضل بن ربيع؛ فلم يزل محبوساً حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشأم؛ فكان مقيماً بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطى المأمون طاعةً أبداً. فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. وكان قال لمحمد: إن خفت فالجأ إلي،فوالله لأصوننك.

وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بن خالد: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أطلعت من عبد الملك على شيء من هذا؛ ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي؛ فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك أكثر مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن؛ ولكنه كان زجلاً محتملاً يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. قال: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت؛ على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم؛ فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك؛ فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضياً عني؟ قال: بلى، فرضي الله عنك. ففرق بينهما ثلاثة أيام؛ فلما لم يجد عنده من ذلك شيئاً جمعهما كما كانا.

وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان أعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما أعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له يقتل ابنك مثله. قال مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قال: كيف قال؟ فأعدت عليه القول، قال: قد خفت والله قوله؛ لأنه قلما قال لي شيئاً إلا رأيت تأويله.

وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه؛ وإلا أفسد عليك ناحيته. فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد؛ فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، ونخلفوا وتقدمتهم؛ حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك؛ ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص. فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمداً دائماً أبداً.

وقال الرشيد لعبد الملك بن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك: هذا منزلك؟ قال: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك. قال: كيف هو؟ قال: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله.

ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد أرض الروم

وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بن جعفر بن محمد الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعث إليه الروم تبذل له ثلثمائة وعشرين رجلاً من أسارى المسلمين؛ على أن يرحل عنهم؛ فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحاً.

ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم.

ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.
ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك: وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ ريني - وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها - فعادت الروم على ريني فخلعتها، وملكت عليها نقفور. والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها؛ فذكر أن نقفور لما ماك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:

من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب؛ أما بعد؛فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها؛ لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن؛ فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

قال: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحداً أن ينظر إليه دون أن يخاطبه؛ وتفرق جلساؤه خوفاً من زيادة قول أو فعل يكون منهم؛ واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم". من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام.

ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق. وكان البرد شديداً، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه؛ فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقاً عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من أهل خرة يكنى أبا محمد عبد الله بن يوسف - ويقال: هو الحجاج بن يوسف التيمي، فقال:

نقض الذي أعطيته نـقـفـور               وعليه دائرة الـبـوار تـدور
أبشر أمير المؤمنـين فـإنـه                غنم أتاك بـه الإلـه كـبـير
فلقد تباشرت الرعـية أن أتـى            بالنقض عنه وافـد وبـشـير
ورجت يمينك أن تعجل غـزوة             تشفي النفوس مكانها مذكـور
أعطاك جزيته وطأطـأ خـده                حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكـأنـهـا                  بأكفنا شعل الضرام تـطـير
وصرفت بالطول العساكر قافلاً             عنه وجارك آمن مـسـرور
نقفور إنك حين تغدر إن نـأى              عنك الإمام لجاهل مـغـرور
أظننت حين غدرت أنك مفلـت            هبلتك أمك ما ظننت غـرور!
ألقاك حينك في زواجر بحـره               فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قـادر             قربت ديارك أم نأت بـك دور
ليس اللإمام وإن غفلنا غافـلاً            عما يسوس بحـزمـه ويدير
ملك تجرد للجهاد بـنـفـسـه              فعدوه أبـداً بـه مـقـهـور
يا من يريد رضا الإله بسعـيه             والله لا يخفى عليه ضـمـير
لا نصح ينفع من يغش إمامـه             والنصح من نصحائه مشكـور
نصح الإمام على الأنام فريضة            ولأهلها كـفـارة وطـهـور

وفي ذلك يقول إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:

إمام الهدى أصبحت بالـدين مـعـنـياً                 وأصبحت تسقي كل مستمـطـر ريا
لك اسمان شقا من رشاد ومـن هـدىً             فأنت الذي تدعـى رشـيداً ومـهـديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخـطـاً               وإن ترض شيئاً كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقاً وغـربـاً يد الـعـلا                     فأوسعت شرقياً وأوسعـت غـربـيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والنـدى                  فأصبح وجه الأرض بالجود مـوشـيا
قضى الله يصفو أن لهارون مـلـكـه                   وكان قضاء الله في الخلق مقـضـيا
تحلبت الدنيا لـهـارون بـالـرضـا                        فأصبح نـقـفـور لـهـارون ذمـيا

وقال التيمي:

لجت بنقفور أسباب الردى عبثا             لما رأته بغيل الليث قد عبـثـا
ومن يزر غيله لا يخل من فزعٍ                إن فات أنيابه والمخلب الشبثـا
خان العهود ومن ينكث بها فعلى           حوبائه، لا على أعدائه نكـثـا
كان الإمام الذي ترجى فواضله               أذاقه ثمر الحلم الـذي ورثـا
فرد ألفته من بعد أن عطـفـت                 أزواجه مرهاً يبكينه شـعـثـا

فلما فرغ من إنشاده، قال:

أوقد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعاً في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه،فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:

ألا نادت هرقلة بالخـراب             من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمـنـايا           ويبرق بالمذكرة القضـاب
ورايات يحل النصر فـيهـا              تمر كأنها قطع السحـاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم       وأبشر بالغـنـيمة والإياب

خبر مقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك وفيها قتل - في قول الوافدي - إبراهيم بن عثمان بن ناهيك. وأما غير الواقدي؛ فإنه قال: في سنة ثمان وثمانين ومائة.

ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر عن صالح الأعمى - وكان في ناحية إبراهيم بن عثمان بن نهيك - قال: كان إبراهيم بن عثمان كثيراً ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعاً عليهم، وحباً لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قال: يا غلام، سيفي ذا المنية - وكان قد سمى سيفه ذا المنية - فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لأقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل فقال: ما الذي قال الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قال: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سراً فسأله، فقال: لقد قال ذلك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل ولياً من أوليائي بقول غلام وخصي، لعلهما تواصيا على هذه المنافسة؛ الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياماً، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه؛ فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك؛ إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلني وإياه، ففعل ذلك الفضل بن الربيع؛ وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بن الربيع للقيام، فقال الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فينحوا عنه، ثم قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قال: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك؛ قال: إن في نفسي أمراً أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قال: يا سيدي إذاً لا يرجع عني إليك أبداً، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه. قال: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامةً ما أحسن أن أصفها؛ فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي؛ فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قال: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يابن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، فقالت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قال: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنة والله؛ ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه - فضربه بسيفه حتى مات - إلا ليال قلائل.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.