المجلد الثامن - ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي ومعه عافية بن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا؛ فضرب أيضاً أعناق عدة منهم.

وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشأم وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.

وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة.

ذكر تفاقم الخلاف بين الأمين والمأمون

وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد.

ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفاً عن طوس، وناكثاً للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوماً وهو حي لم يبق عليه؛ وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى؛ ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه - فيما ذكر عنه - الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون، ويزين له خلعه؛ حتى قال له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك!فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحداً بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته؛ فأزال محمداً عن رأيه.

فأولما بدء به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالاٍمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بن إسحاق بن سليمان أن المأمون لما بلغه ما أمر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب.

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون حسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعاً. وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس. فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون؛ فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك - وهو عامل المأمون على الري - وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريداً بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به، وكتم المأمون وذا الرياستين. فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن علي المأموني وأردفه بالرستمي على البريد، وعزل العباس بن عبد الله بن مالك؛ فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري. ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلاً: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك؛ وكتب معهم كتاباً إلى صاحب الري؛ أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك؛ ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون؛ فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه؛ ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ وكان الذي أشار عليه بذلك علي بن عيسى بن هامان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه؛ فرد المأمون ذلك وأباه. قال: فقال لي ذو الرئاستين: قال العباس بن موسى بن عيسى بن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك؛ فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قال: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيراً؛ وهذا بين أخواله وشيعته. قال: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلاً. قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: أيذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قال للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قال: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك. قال: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.

قال: فما برح حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة؛ فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.

قال: فأخبرني علي بن يحيى السرخسي، قال: مر بي العباس بن موسى ذاهباً إلى مرو - وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني - فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت الإمام؟ قال: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي. قال: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قال: فألح الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بن عيسى وولاه العراق. قال: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بن السميدع الأزدي، وكان والياً على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون عامة. قال: ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتاباً مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بن عبد الله بن عثمان بن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، وأجازه بجائزة عظيمة، ومزقهما وأبطلهما.

وكان محمد - فيما ذكر - كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان - سماها - وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك. وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعاً له: أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظاً من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثاً، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قال أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما. وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطراً، فإعطاؤك من نازعك طرفاً من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيباً عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعاً بفساد غدك. وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الإباء من الفرقة. وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة؛ فلعلي أعطى معها العافية. فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم؛ وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قال: لذلك ما كان الاجتماع. وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمداً تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا نعم؛ ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه. قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع دون ما يخاف ويتوقع. قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة؛ أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعة محذور في عاجله! قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غداً على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبةٍ؛ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا أو أمر آخرة. قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي ؛ والله يؤيد الأمير بالتوفيق. فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب: قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره؛ غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتاً بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال - لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيراً من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله؛ فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي. ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.

وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبراً ولا يؤثر أثراً، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحداً، ولا يبلغ أحداً قولاً ولا كتاباً. فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة. ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الأشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب. وكان - فيما ذكر - أول من أقبل من قبل محمد مناظراً في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبذلوا أو يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعة إلى ما التمس منها. فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيراً مؤبداً، وعقداً مستحصداً متأكداً، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين؛ لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم؛ وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة؛ يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل؛ فوجدوا جميع ذلك ممنوعاً محسوماً؛ حتى صاروا إلى باب المأمون. وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل؛ تأييداً لأمرك، وتحصيناً لطرفك؛ فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك. وقد كان هذا الطرف وخراجه كافياً لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده؛ وقد ضم لك إلى الطرف كوراً من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودةً في أهلها، ومواضع حقها. فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها؛ وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك؛ فكتبت تلط دون ذلك بما تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك؛ فاثن عن همك اثن عن مطالبتك، إن شاء الله.

فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيباً له: أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته؛ وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة عن أهلها؛ فمتى تجاوز متجاوز - وهي موجودة الوسع - ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها؛ فلا تبعثني يابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك. وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك. والسلام.

ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في أمر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته؛ حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته. فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم؛ فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى أن تقولوه لنا. فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبراً يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جداً غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع - بزعمهم.

فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظاً بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر؛ وكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك غامطاً لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضاً لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك؛ وإن كان قد تقدم مني متقدم؛ من مواضع نفعك إذ كان راجعاً على العامة من رعيتك؛ وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزلة السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة؛ فأعلمني رأيك أعمل عليه. إن شاء الله.

وذكر سهل بن هارون عن الحسن بن سهل، أن المأمون قال لذي الرياستين: إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد - وهو مائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مراراً. فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك؛ وأن يكون أهلك في دارك وجنابك؛ وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده؛ فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته؛ وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك؛ ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثاً لعهدك؛ فإن أطاع فنعمة وعافية؛ وإن أبى لم تكن بعثت على نفسك حرباً أو مشاقة. فاكتب إليه، فكتب عنه: أما بعد؛ فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته؛ وإذا كان ذلك رأيه في عامته؛ فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه؛ فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالاً أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الحرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والداً - بد من الإشراف والنزوع إلى كنفي، ومالي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال؛ فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة يقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة. والسلام.

فكتب إليه محمد: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلاً عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك؛ والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين.

ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأياً هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته. وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين؛ فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه؛ وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك. وأما ما ذكرت من حمل أهلك؛ فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم؛ وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة. ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رأيت من تعريضهم بالسفر للتشتت؛ وإن أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله. والسلام.

قال: ولما ورد الكتاب على المأمون، قال: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا. فقال له ذو الرياستين: أوليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته؛ على أن يحرسه قنيةً، فهو لا ينزع إليها؛ فلا تأخذ عليه مضايقها، وأمل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها؛ والرأي لزوم عروة الثقة، وحسم الفرقة؛ فإن أمسك فبنعمة وإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة.
قال: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج إلى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثاً دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة؛ فرأى أن يختار رجلاً يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد؛ فإن أحدث محمد خلعاً للمأمون صار إلى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها؛ وإن لم يفعل من ذلك شيئاً خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل.

ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر: أمما بعد؛ فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها؛ فيكون كره ذلك مؤلماً لجميعها؛ وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم؛ للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمة أخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم؛ وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلا سيعرب عن محنة، ويسفر عما استتر من وجهه؛ وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله؛ وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع؛ وبحيث إن قلت أذن لقولك؛ وإن لم تجد للقول مساغاً فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك؛ ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك. إن شاء الله.

وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك.

قال: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه؛ فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه؛ فكتب أحدهم: أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته؛ وكفى غبناً بإضاعة حظ من حظ العاقبة؛ لمأمول من حظ عاجلة، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبة مع التعرض للنكبة والوقائع؛ ولي من العلم بمواضع حظي ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي. إن شاء الله.

قال: وكتب الرسول المتوجه إلى بغداد إلى المأمون وذي الرياستين: أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علماً من اعتراضه ومفارقته وأمسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته؛ ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريرة ونفاة العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون إلا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها؛ والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعاً منه عن همه، ولا راغباً في عامه، والمحلون بأنفسهم يحلون تمام الحدث؛ ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتواني في أمركم نصيباً إن شاء الله والسلام.

قال: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بن مالك بن قادم وعبد الله بن حميد بن قحطبة والعباس بن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بن أبي مطر وكثير بن قادرة، ألطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهراً، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهراً.

قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للإيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه! فقال له محمد: إن رأى الرشيد شيئاً كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرساً مكروهاً لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور باجتثاثه والراحة منه فقال: أما إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعة، فلا يجاهره مجاهرة فستنكرها الناس، ويستشنعها العامة؛ ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع؛ فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك؛ فإن قدم صار إلى الذي تريد منه؛ وإن كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه. فقال محمد: ما قطع أمراً كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح؛ قم فالحق بمدادك وأقلامك؛ قال يحيى: فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحة، أشرت إلى رأي يخلطه غش وجهل. قال: فوالله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه.

قال سهل بن هارون: وقد كان الفضل بن سهل دس قوماً اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يوماً يوماً، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به، فقال له الفضل: صدقت؛ ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له. قال: لا، قال: أفتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قال: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلوماً يجب به فسخ عهده! قال: نعم، قال الرجل - ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قال: فأطرق الفضل ملياً، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة؛ ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قال: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! أفليسوا وإن أعطوك ظاهر طاعة هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم؛ قال: فإن أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعة دون تكون على تثبت من البصائر. قال: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذاً يصيروا إلى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. قال: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قال: قوم على بصيرة من أمرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قال: فما ظنك بعامتهم؟ قال: قوم كانوا بلوى عظيمة من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بلية لا يأمنون العودة إليها. قال: فهل من سبيل إلى استفساد عظماء البلاد عليه؛ لتكون محاربتنا إياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: أما الضعفاء فقد صاروا له إلباً لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعناً ولا موضع حجة، والضعفاء السواد الأكثر. قال: ما أراك أبقيت لنا موضع رأي في اعتزالك إلى أجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته. وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدمٍ جرى في أمره، وربما أقبلت الأمور مشرفة بالمخافة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبة. ثم تفرقاً.

قال: وكان الفضل بن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد؛ فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر؛ وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش. وجاء الخبر إلى المأمون موافقاً لسائر ما ورد عليه من الكتب، وقد شهد بعضها ببعض، فقال لذي الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرهاً يسوق خيراً. قال: وكان أول ما دبره الفضل بن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحة الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، وأجناد للقيام بأمرهم؛ وكانت البلاد أجدبت بحضرتهم؛ فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل؛ حتى ما فقدوا شيئاً احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يداً بسوء في عامد ولا مجتاز. ثم أشخص طاهر بن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذاً لا يلوى على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان:

رمى أهل العراق ومن عليها          إمام العدل والملك الرشـيد
بأحزم من مشى رأياً وحزماً          وكيداً نافـذاً فـيمـا يكـيد
بداهـية نـآدٍ خـنـفـقـيقٍ                يشيب لهول صولتها الولـيد

وذكر أن محمداً وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بن حماد على الحرس، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يلهبان محمداً، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى.

وفي هذه السنة عقد محمد بن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بن عيسى بن ماهان، وعلى شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بن صالح صاحب المصلى.

وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل.

وفيها ملك على الروم ليون القائد.

وفيها صرف محمد بن هارون إسحاق بن سليمان عن حمص، وولاها عبد اله بن سعيد الحرشي، ومعه عافية بن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.