المجلد الثامن - ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلكما كان من أمر محمد بن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة؛ لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حيناً النهي عن الدعاء للمأمون على المنابر

وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صقر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء:

أضاع الخلافة غش الوزير             وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشـير               يريدان ما فيه حتف الأمير

فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك.

عقدة الإمرة لعلي بن عيسى وفيها عقد محمد لعلي بن عيسى بن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له - فيما ذكر - بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالاً عظيماً، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتاباً من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدماً مفرداً بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز؛ وأن ما أحدث من ذلك ليس له؛ ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له. وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته. وقال سعيد بن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعرض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله. ثم تكلم الفضل بن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول فأكثر وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين؛ وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظاً له ولا نصيباً. فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بن عيسى بن نهيك ونفر من وجوه الحرس. وقال الفضل بن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم. ثم انصرف الناس، وأقبل علي بن عيسى على محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه.

شخوص علي بن عيسى إلى حرب المأمون

وفيها شخص علي بن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون.

ذكر الفضل بن إسحاق، أن علي بن عيسى شخص من مدينة السلام عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، سخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفاً، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعاً حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة. وقد كان محمد كتب إلى عصمة بن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه، ووجه معه هلال بن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بن جبلة الأبناوي على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه ألفي ألف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بن الحسين وهو أقل من أربعة آلاف - وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائة - وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟ ومن أي البلدان هم؟ فأخبره أحدهم أنه كان من جند عيسى أبيه الذي قتله رافع. قال: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين. وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جداً في محاربته ونفوراً منه.

فذكر أحمد بن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بأن تسمى بالخلافة، إذ التقيا - وكان أحمد على شرطة طاهر - فقلت لطاهر: قد ورد علي بن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له؛ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه. فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا شيء، فقلت: دعني وما أريد، قال: شأنك، قال: فصعدت المنبر، فخلعت محمداً، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق. وانتهى علي بن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعة فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده. وكان علي بن عيسى ظن أن طاهراً إذا رآه يسلم إليه العمل؛ فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي؛ وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريباً منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال؛ فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بن عيسى دخل الري - وقد كان كاتبهم فأجابوه - فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم؛ وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار. وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قال: نعم فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت. وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع أخطأنا؛ فرجعنا فقال لي: أخرج أصحابنا.

قال: فدعوت المأموني والحسن بن يونس المحاربي والرستمي؛ فخرجوا جميعاً؛ فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسرة الرستمي ومحمد بن مصعب. قال: وأقبل علي في جيشه؛ فامتلأت الصحراء بياضاً وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن علي ومعه أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم.

قال: وقال طاهر لما رأى علي بن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية؛ فيهم ميكائيل وداود سياه.

قال أحمد بن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم؛ قال: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم؛ فقال علي بن عيسى : ذلك لك، فقلت:

يا علي بن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام - وقد كان علي بن عيسى ضربه أربعمائة سوط - فصاح علي بن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم. قال: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه، وشد داود سياه على علي بن عيسى فصرعه؛ وهو لا يعرفه. وكان علي بن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد - وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة - قال: فقال داود: ناري أسنان كتبتم. قال: فقال طاهر الصغير - وهو طاهر بن التاجي: علي بن عيسى أنت؟ قال: نعم، أنا علي بن عيسى، وظن أنه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف. ونازعهم محمد بن مقاتل بن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره؛ وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعاً. وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير. فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم؛ فلحقني طاهر بن التاجي، ومعه رأس علي بن عيسى؛ وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان علي أمر أن يهيأ له الغداء بالري. قال: فانصرفت فوجدت عيبة علي فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكراً لله تبارك وتعالى. ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس؛ في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال؛ فكسروا الصناديق؛ فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب.

قال أحمد بن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصلة من لحية علي، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي. قال: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكراً لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه إلى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر. قال: وكتب إلى ذي الرياستين بالخبر.
قال: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ؛ ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد.

قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مدداً، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نأمن أن يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع. فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بن سهل،فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بن مدرك - وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا - فدخل وسكت، قلت: ويلك! ما وراءك؟ قال: الفتح؛ فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك؛ كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي؛ والحمد لله رب العالمين. فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان.

وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة.

وذكر محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري، قال: لما جاء نعي علي بن عيسى وقتله إلى محمد بن زبيدة - وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك - فقال للذي أخبره: ويلك! دعني؛ فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئاً بعد. قال: وكان بعض أهل الحسد يقول: ظن طاهر أن علياً يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه.

وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجدة قي قتل علي ولقاء طاهر:

لقينا الليث مفـتـرسـاً لـديه              وكنا ما ينهنهـنـا الـلـقـاء
نخوض الموت والغمرات قدماً             إذا ما كر ليس بـه خـفـاء
فضعضع ركبنا لما التـقـينـا                وراح الموت وانكشف الغطاء
وأردى كبشنا والـرأس مـنـا                كأن بكفه كـان الـقـضـاء

ولما انتهى الخبر بمقتل علي بن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون - وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله - عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالاً قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان.

وذكر بعض من سمع عبد الله بن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قال الأول: " قد ضيع الله ذوداً أنت راعيها" ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بن عيسى، قال الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير علي والفضل بن الربيع:

أضاع الخـلافة غـش الـوزير            وفسق الأمير وجهل المـشـير
ففضل وزير، وبكـر مـشـير              يريدان ما فيه حـتـف الأمـير
ومـا ذاك إلا طـريق غـرورٍ               وشر المسالك طرق الـغـرور
لواط الـخـلـيفة أعـجــوبة               وأعجب منـه خـلاق الـوزير
فهــذا يدوس وهـــذا يداس             كذاك لعمري اخترف الأمـور
فلو يسـتـعـينـان هـذا بـذاك            لكانا بـعـرضة أمـرسـتـير
ولـكـن ذا لـج فـي كـوثـرٍ                ولم يشف هذا دعاس الحـمـير
فشنع فعلاهـمـا مـنـهـمـا              وصارا خلافاً كبول الـبـعـير
وأعـجـب مـن ذا وذا أنـنـا                 نبايع للطفل فينـا الـصـغـير
ومن ليس يحسن غسـل اسـتـه     ولم يخل من بوله حجـر ظـير
وما ذاك إلا بفـضـل وبـكـرٍ                 يريدان نقض الكتاب الـمـنـير
وهذان لولا انقـلاب الـزمـان               أفي العير هذان أم في النـفـير
ولكنهـا فـتـن كـالـجـبـال                   ترفع فيها الوضيع الـحـقـير
فصبراً ففي الصبر خير كـثـير             وإن كان قد ضاق صدر الصبور
فيا رب فاقبضهـمـا عـاجـلاً               إليك وأوردهم عذاب السـعـير
ونكـل بـفـضـلٍ وأشـياعـه               وصلبهم حول هذي الجـسـور

وذكر أن محمداً لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه: أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكراً لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري أن لو رد أمير المؤمنين الأمر إلى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته؛ ولكنت محجوجاً بمفارقة ما يجب من طاعته؛ فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك إعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه؛ فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه؛ وإن أبيت الحق قام الحق بمعذرته. وأما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام.

قال: وكتب إلى علي بن عيسى لما بلغه ما عزم عليه: ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك:

أما بعد؛ فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها؛ وعلى العناية بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يداً على أهل مخالفتكم، وحزباً وأعواناً لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورجاء، لا ترون شيئاً أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم؛ ولا أحرى لبواركم مما دعا إلى شتات كلمتكم، وترون من رغب عن ذلك جائراً عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفاً من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزراً جامجة؛ قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه؛ ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك؛ بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في آثارها؛ وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها؛ حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم أمر أئمتك؛ إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وإن أمسكت وقفوا وأقروا، وئاماً لك واستنصاحاً، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك؛ أو خلاف فيضل له متقدم سعيك؛ وقد ترى يا أبا يحيى حالاً عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك؛ من طعن بعقدة كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها؛ يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة. وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة، وتفريق أمر أمة وشت أمر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة؛ ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم؛ ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساعٍ فيها على نفسه دون السعي على حملتها، القائمين بحرمتها؛ قد عرضوهم أن يكونوا جزراً لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم. ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك؛ ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق. ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة؛ مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف؛ ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك؛ فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك وتنحاز إلى من يحسن تقبلاً لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك؛ ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا. وإن تعذر ذلك بقيةً على نفسك، فإمساكاً بيدك، وقولاً بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك؛ فلعل مقتدياً بك، ومغتبطاً بنهيك. ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.

قال: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حمياً قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بن الربيع لقيامه كان بمكانفته.

وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في أمره: إن أبى القوم إلا عزمة الخلاف؛ فألطف لأن يجعلوا أمره لعلي بن عيسى. وإنما خص ذو الرياستين علياً بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه؛ وإن العامة قائلة بحربه. فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: علي بن عيسى إن فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة؛ فأجمعوا على توجيه علي؛ فكان من توجيهه ما كان. وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامة من أهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم؛ وذلك رأي يكثر الأخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه؛ فكان ما كان من أمره ومقتله.

وذكر سهل أن عمر بن حفص مولى محمد قال: دخلت على محمد في جوف الليل - وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمة - فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفاً على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: اسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأياً، وأكمل نظراً؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. قال عمرو بن حفص: وسمعت محمداً يقول للفضل بن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه؛ ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل؛ وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمداً لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه؛ ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم؛ فشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول. وأقبل علي بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد، ثم قال: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته ، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمداً على رأيه. قال أبو جعفر ك ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: ألا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك؛ ولعله يسلم هذا الأمرفي عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته ! قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكارثه بالجنود، ومعالجته بالكبد. فقال له: أعمل في ذلك برأيك. فلما حضر إسماعيل بن صبيح للكتاب إلى عبد الله قال: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر ولكن اكتب فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته. فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين، قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه: من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين. أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في أمرك، والموضع الذي أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده؛ وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعاً عن أهل بيتك، متغيباً عن أمير المؤمنين أن يولى موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك. فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة وأنفذ بصيرة؛ فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح أهل ملته وذمته. والسلام.

ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى عبد الله المأمون، وألا يدعوا وجهاً من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه؛ وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والألطاف والهدايا.

ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير؛ إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلاً عظيماً، ومن النظر في أمور الناس عبئاً جليلاً، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة في العدل؛ وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه؛ وقد فزع إليك في أموره، وأملك للموازرة والمكانفة؛ ولسنا نستبطئك في بره اتهاماً لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفاً لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه؛ فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره؛ فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.

وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال: إن الإكثار على الأمير - أيده الله - في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير؛ وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من أهل بيته فلا يجد عنده غناءً، ولا يجد منه خلفاً ولا عوضاً؛ والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته؛ فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.

وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال: أيها الأمير؛ إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين. وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعاً إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك فنعمة عظيمة تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك؛ وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك؛ ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.

وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير؛ إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل؛ ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أمور، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قال: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه؛ وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام؛ والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبيطاً ومدافعةً، ولا أتقدم عليه اعتسافاً وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.

فذكر سفيان بن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا؛ وأنت تجد من ذلك بداً. قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة. فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق؛ ولأن تكون في جندك وعزك مقيماً بين ظهراني أهل ولايتك أحرى؛ فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته؛ فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظاً مكرماً، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك. قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور؛ كان خطبه يسيراً، والاحتيال في دفعه ممكناً؛ ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك إبراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد؛ وأنا أعلم أن محمداً لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحري أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.

فقال له الفضل: أيها الأمير؛ إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزاً، ومقهور قد عاد قاهراً مستطيلاً؛ وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم؛ وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجرداً من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلى عذراً في جهاد ولا قتال؛ ولكن اكتب إلى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصاً، وسلم الملك إبرازبنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال؛ فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادراً. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: أعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا؛ وكتب إلى من كان شاذاً عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله على الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه؛ ويكون على حذر وعدة من جيش إذا طرقه، أو عدو إن هجم عليه. واستعد للعرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان.

ويقال : إن عبد الله بعث إلى الفضل بن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: أيها الأمير، أنظرني في يومي هذا أغد عليك برأيي؛ فبات يدبر الرأي ليلته؛ فلما أصبح غداً عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له. فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته.

فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من أمر خراسان، كتب إلى محمد: لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون؛ أما بعد؛ فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين؛ وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين؛ ولعمري إن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطاً بقربه، مسروراً بمشاهدة نعمة الله عنده؛ فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام.

ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمداً وصالحاً؛ فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره.

قال سفيان بن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم إليه، فوجه عصمة بن حماد بن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحةً فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب بأخباره وما يريد؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. ثم عزم على محاربته، فدعا علي بن عيسى بن ماهان، فعقد له خمسين ألف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون.

فذكر يزيد بن الحارث، قال: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي؛ إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري؛ فإني على عبد الله منعطفة ومشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى؛ وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاره على ما في يده؛ والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره؛ فاعرف لعبد اله حق والده وأخوته، ولا تجبه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادماً،ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير؛ ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده. ثم دفعت إليه قيداً من فضة، فقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد. فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك.

وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه - في جميع الآفاق إلا خراسان - موسى وعبد الله؛ وأعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق. ثم خرج علي بن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة؛ فيقال: إن عسكره كان فرسخاً بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكراً كان أكثر رجالاً، وأفره كراعاً، وأظهر سلاحاً، وأتم عدة، وأكمل هيئة؛ من عسكره. وذكر عمر بن سعيد أن محمداً لما جاز باب خراسان نزل علي فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء؛ وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جنداً كثيفاً، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها؛ وول كل كورة ترحل عنها رجلاً من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخاً بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحداً رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح؛ ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه؛ فإذا أشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك؛ فإن غره الشيطان فناصبك فاحرص أن تأسره أسراً، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان فتول إليه المسير بنفسك. أفهمت كل ما أوصيك به؟ قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قال: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر؛ فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له : يا سعيد؛ قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه؛ فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه؛ غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه؛ ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتد بفساد القمر؛ فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء.

قال أبو جعفر : وذكر بعضهم أنه قال: كنت فيمن خرج في معسكر علي بن عيسى بن ماهان؛ فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان؛ فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان؛ فيقال له: إن طاهراً مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري؛ وما مثل طاهر يتولى علي الجيوش، ويلقى الحروب؛ ثم اتفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف؛إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد؛ فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح.

وذكر يزيد بن الحارث أن علي بن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسأله عن الخبر، فقالوا: إن طاهراً مقيم بالري ، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور؛ وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر أصحابه؛ وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان.قال علي: فهل شخص من أهل خراسان أحد يعتد به؟ قالوا: لا؛ غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير،وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم. ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز. وأهدى إليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد؛ فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول البلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت - أبقى الله أمير المؤمنين - أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعاً تعسكر فيه، وتتخذ خندقاً لأصحابك يأمنون به؛ كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند. قال: لا؛ ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعاً لو قربت خيولنا وعساكرنا منه. واتاه يحيى بن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم؛ فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار؛ والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب أي طاهر؛ فالشرارة الخفية ربما صارت ضراماً، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحراً عظيماً؛ وقد قربت عساكرنا من طاهر؛ فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا. قال: اسكت؛ فإن طاهراً ليس في هذا الموضع الذي ترى؛ وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها.

وذكر عبد الله بن مجالد، قال: أقبل علي بن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته؛ فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه المدد من الخيل، وقائد يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك، وأقدر لهم على المبرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة؛ إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك. فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم؛ إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون؛ ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى؛ ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعوا أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا،؛ مع أنه لم يكن قوم قط رعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم واجترأ عليهم عدوهم. وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا؛ فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان. قالوا: الرأي ما رأيت. فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا. فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص؛ وأتاه محمد بن العلاء فقال: أيها الأمير؛ إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال: لا؛ إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم؛ إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا؛ وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة؛ فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو؛ وإن تكن الأخرى؛ فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.

وقال علي لأصحابه: بادروا القوم؛ فإن عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح. وعبأ جنده ميمنة وميسرة وقلباً؛ وصير عشر رايات؛ في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات رايةً رايةً، فصير بين كل راية وراية غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة. وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من آهل البأس والحفاظ والنجدة منهم.

وكتب طاهر بن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة؛ فيقول: يا أولياء الله وأهل الوفاء والشكر؛ إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر؛ إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رعيتم؛ وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل؛ أصحاب سلب ونهب؛ فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره؛ فجالدوا طواغيت الفتنة و يعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم؛ فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين. وقلق قلقاً شديداً، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق؛ الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم إلى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم؛ فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق. وتلاحموا واقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر الفريقان جميعاً، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضاً منكراً، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها. وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب؛ فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها. فصبر أصحابه صبراً صادقا، ثم حملوا على أوائل رايات القلب فهزموهم؛ وأكثروا فيهم القتل؛ ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي. ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة؛ معاودة الحرب من الصبر فيها. ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم؛ حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة؛ ونادى طاهر في أصحاب علي: من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون.

وذكر أن عبد الله بن علي بن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته؛ حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده.

وذكر سفيان بن محمد أن علياً لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلاً رجلاً؛ فكلهم يصرخ بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلاً.

وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس؛ فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر. وإنه في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، ودعي له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من أهل خراسان:

أصبحت الأمة في غبطةٍ          من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى       خير بني حواء مأمونهـا

على شفاً كانت فلما وفت        تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ زبرت             في ولده كتب دواوينهـا
ألا تراها كيف بعد الردى            وفقها الله لتـزيينـهـا!
وهي أبيات كثيرة.

وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، أرجف الناس ببغداد إرجافاً شديداً، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن علياً قد قتل، ولسنا نشك أن محمداً يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع؛ وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها؛ فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز؛ فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا.فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز. وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالاً شديداً، وسمع محمد التكبير والضجيج؛ فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم. قال: فهل يطلبون شيئاً غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم؛ ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز.