المجلد الثامن - توجيه الأمين عبد الرحمن بن جبلة لحرب طاهر

توجيه الأمين عبد الرحمن بن جبلة لحرب طاهر

وفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن ذلك: ذكر عبد الله بن صالح أن محمداً لما انتهى إليه قتل علي بن عيسى بن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإنكماش في السير، وتقليل اللبث والتضجع؛ حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهراً إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آلة الحرب، ويغادي طاهراً وأصحابه إلى القتال. وبسط يده وانفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته. بين الري وهمذان؛ فكان لا يمر به أحد من قبل أبيه إلا احتسبه؛ وكان يرى أن محمداً سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال؛ فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد؛ وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده؛ فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه؛ وتلقى طاهر فيمن معه؛ وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه. فلما بلغ طاهراً الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه: إن طاهراً قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن عن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعاً يدخل وهنه على من خلفنا ، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به وأقمت على انتظار مدده؛ لم آمن أن يمسك عنا ضناً برجاله وإبقاءً عليهم، وشحاً بهم على القتل؛ ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريباً من عبد الرحمن؛ فإن استعنا به قرب منا عونه؛ وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه. قالوا: الرأي ما رأيت؛ فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان؛ فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبية، فصادف طاهراً، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر الفريقان جميعاً، وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أياماً حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر؛ فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قال لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم؛ فإذا قربتم منه قاتلكم؛ فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها؛ وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم وولى منكم؛ ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريباً؛ فإن تقارب منا قاتلناه؛ وإن بعد من خندقهم قربنا منه. فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف؛ إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر؛ فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية راية، فيقول: اصبروا؛ إنما صبرنا ساعة، هذا أول الصبر والظفر. وقات بيديه قتالاً شديداً، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل؛ فلا يزول أحد ولا يتزحزح. ثم إن رجلاً من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان؛ فأقام طاهر على باب المدينة محاصراً لهم وله؛ فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه. فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله الأمان له ولمن معه؛ فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بن علي.

تسمية طاهر بن الحسين ذا اليمينين

وفي هذه السنة سمي طاهر بن الحسين ذا اليمينين.

ذكر الخبر عن ذلك قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمي بذلك،

ونذكر الذي سماه بذلك.

ذكر أن طاهراً لما هزم جيش علي بن عيسى بن ماهان، وقتل علي بن عيسى، وكتب إلى الفضل بن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين. فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين؛ فأمد المأمون طاهر بن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين إلى الثمانين.

ظهور السفياني بالشام

وفي هذه السنة ظهر بالشأم السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فدعا إلى نفسه؛ وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بن أبى جعفر بعد حصره إياه بدمشق - وكان عامل محمد عليها - فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بن علي بن ماهان، فلم ينفذ إليه؛ ولكنه لما صار إلى الرقة أقام بها.

طرد طاهر عمال الأمين عن قزوين وكور الجبال

وفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.

ذكر الخبر عن سبب لك ذكر علي بن عبد الله بن صالح أن طاهراً لما توجه إلى عبد الرحمن الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادرة - وهو بقزوين عامل من عمال محمد - في جيش كثيف إن هو خلفه وراء طهره؛ فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا. ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد كثير بن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه. وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جنداً كثيفاً، وولاها رجلاً من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من أصحاب عبد الرحمن الأبناوي وغيرهم.

ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي

وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي بأسداباذ.

ذكر الخبر عن مقتله: ذكر عبد الرحمن بن صالح أن محمداً المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مدداً له إن احتاج إلى عونهما. فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهراً وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم؛ ثم اغترهم وهم آمنون. فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجالة أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالاً منكراً، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح. ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب؛ فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبداً، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزماً. وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد؛ حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يحوز بلدةً بلدةً، وكورةً كورةً؛ حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان؛ فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه. وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي:

ألا إنما تبكـي الـعـيون لـفـارس                نفى العار عنه بالمناصل والـقـنـا
تجلى غبار الموت عن صحن وجهه          وقد أحرز العليا من المجد واقتنـى
فتى لا يبالي إن دنـا مـن مـروءةٍ              أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى
يقيم لأطراف الذوابـل سـوقـهـا                ولا يرهب الموت المتـاح إذ ادنـا

وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بن هارون داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة.

وعلى الكوفة العباس بن موسى الهادي من قبل محمد.

وعلى البصرة منصور بن المهدي من قبل محمد.

وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد.