المجلد الثامن - ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر توجيه الأمين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين فمما كان من ذلك حبس محمد بن هارون أسد بن يزيد بن مزيد، وتوجيهه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت

ذكر عبد الرحمن بن وثاب أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي. قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعداً في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان؛ وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده.

لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة؛ قد ألهاه كأسه وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه؛ قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له أصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متن الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث:

ومجدولة جدل العنـان خـريدة              لها شعر جعد ووجه مقـسـم
وثغر نقي اللون عذب مذاقـه               تضيء لها الظلماء ساعة تبسم
وثديان كالحقين، والبطن ضامر           خميص، وجهم ناره تتضـرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالـدٍ            وأنت بمرو الروذ غيظاً تجرم
أظل أناغيها وتحت ابن خـالـدٍ              أمية نهد المركلين عثـمـثـم
طواه طراد الخيل في كل غارة             لها عارض فيه الأسنة تـرزم
يقارع أتراك ابن خاقـان لـيلةً                إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم

فيصبح من طول الطراد، وجسمه           نحيل وأضحى في النعيم أصمصم
أباكرها صهباء كالمسك ريحهـا              لها أرج في دنها حين تـرشـم
فشتان ما بيني وبين ابـن خـالـد           أمية في الرزق الذي الله قاسـم

ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، أنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا؛ وإنما نحن شعب من أصل؛ إن قوي قوينا؛ وإن ضعف ضعفنا؛ إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا؛ وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام؛ والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل؛ وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه؛ فارس العرب وابن فارسها؛ قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك؛ وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت؛ غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك؛ فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة. فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص؛ غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل؛ وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال؛ وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق والدارة والصلات والفوائد الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من أمامي، وقد فضل أهل السلم على أهل الحرب، وجاز بأهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة؛ والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل؛ ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: قد اشتططت؛ ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب وركبت معه ، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.

وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسداً قال لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي؛ فإن أعطاني الطاعة ،وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما أمري. فقال: أنت أعرابي مجنون؛ أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وارفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط. وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولأ في قصر المأمون ببغداد؛ فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان؛ فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما اكبر ولده. وذكر عن زياد بن علي، قال: لما غضب محمد على أسد بن زيد، وأمر بحبسه، قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم من مقامه؛ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم؛ فيهم أحمد بن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة،وله مع هذا بأس ونجده وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب؛ فأنفذ إليه محمد بريداً يأمره بالقدوم عليه؛ فذكر بكر بن أحمد، قال: كان أحمد متوجهاً إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بينه ومواليه وحشمه؛ فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: إن هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب. ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك أحمد ابن مزيد؟ قال: نعم؛ فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقرأه ثم قال: إني قد بلغت ضيعتي؛ وإنما بيني وبينها ميل؛ فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك؛ وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها؛ من ليل أو نهار فانصرف معه حتى الكوفة، فأقام بها يوماً حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد.

فذكر عن أحمد، قال: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بن الربيع، فقالت:

أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد؛ فلما أذن لي دخلت عليه؛ وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال؛ فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعني حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قال:

إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكـم             من آل شيبان أما دونكم وأبـا
الأكثرون إذا عد الحصى عدداً            والأقربون إلينا منكم نسـبـا

فقال عبد الله: إنهم لكذلك؛ وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة . ثم أقبل على الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحه والشدة على أهل المعصيه، والتقدم بالرأي، فاحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج؛ مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع قدرك وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية ا لناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم؛ فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله. فقال: يا فضل ، قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه. فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجهت بهم إلى حلوان.

وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلاً إلا باستخارة، ولا تشهر سيفاً إلا بعد إعذار؛ ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي؛ ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخاً مصافياً، وقريناً براً، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك؛ ولتكن أيديكما واحدةً، وكلمتكما متفقة. ثم قال: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك. فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض علي ما استجمع من رأي، ومن علي بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك. ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلى سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح أحمد ويذكر حاله ومنزلته:

ليهن أبو العباس رأي إمـامـه             وما عنده منه القضا بـمـزيد
دعاه أمير المؤمنين إلى التـي           يقصر عنها ظل كل عـمـيد
فبادرها بالرأي والحزم والحجى           ورأي أبي العباس رأي سـديد
نهضت بما أعيا الرجال بحمله             وأنت بسعد حاضر وسـعـيد
رددت بها للرائدين أعـزهـم                 ومثلك والى طارفاً بـتـلـيد
كفى أسداً ضيق الكبول وكربها            وكان عليه عاطـفـاً كـيزيد
وحصله فيها كليث غضنـفـر                  أبي أشبل عبل الـذراع مـديد

وذكر يزيد بن الحارث أن محمداً وجه أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهراً وأصحابه عنها؛ وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة؛ فتوجها حتى نزلا قريباً من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما؛ فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمداً قد وضع العطاء لأصحابه؛ وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا؛ ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضاً، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهراً، ويكون بينهم وبينه قتال. وتقدم طاهر حتى نزل حلوان؛ فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيراً حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر إلى الأهواز.

ذكر رفع منزلة الفضل بن سهل عند المأمون وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره.

ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك

ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين؛ وسلم الفضل بن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق؛ من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولاً، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضاً؛ وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم،وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علماً، وسماه ذا الرياستين؛ فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسة الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسة التدبير. فحمل اللواء علي بن هاشم، وحمل العلم نعيم بن حازم، وولى الحسن بن سهل ديوان الخراج.