المجلد الثامن - ذكر خبر ولاية عبد الملك بن صالح على الشام

ذكر خبر ولاية عبد الملك بن صالح على الشام

وفي هذه السنة ولى محمد بن هارون عبد الملك بن صالح بن علي على الشأم وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنوداً يقاتل بها طاهراً وهرثمة.

ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك: ذكر داود بن سليمان أن طاهراً لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد - وكان عبد الملك محبوساً في حبس الرشيد؛ فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته - فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك؛ فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم؛ وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف؛ ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتم الحرب والوقائع؛ وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولاً عن لقائهم ومناهضتهم؛ فإن سيرنهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جنداً تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته. فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك؛ فاعمل عملاً يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله. فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثاً شديداً، ووجه معه كنفاً من الجند والأبناء.

وفي هذه السنة سار عبد الملك بن صالح إلى الشأم، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء أجناد أهل الشأم بجمع الرجال بها، وإمداد محمد بهم لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن ذلك: قد تقدم ذكري عن سبب توجيه محمد إياه لذلك؛ فذكر داود بن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيساً بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة؛ فكان لا يدخل عليه أحد إلى أجازه وخلع عليه وحمله؛ فأتاه أهل الشأم: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا. ثم إن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا؛ واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن أبي خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا؛ وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك؛ فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم. فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة. فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم. وبلغ ذلك عبد الملك بن صالح فوجه إليهم رسولاً يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالاً شديداً، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل؛ فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل - وكان مريضاً مدنفاً - فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل؛ فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة؛ وقام رجل من أهل حم، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل؛ إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم. النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقال رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قال:

شؤبوب حرب خاب من يصلاها          قد شرعت فرسانها قـنـاهـا
فأورد الله لـظـى لـظـاهـا                    إن غمرت كلب بها لحـاهـا

ثم قال: يا معشر كلب؛ إنها الراية السوداء؛ والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم. اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضرم. شأمكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري. ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفاً لطوق بن مالك. فأتى طوقاً رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك. فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره؛ وإني لأشهد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الإعتزال. وأقبل نصر بن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:

فرسان قيس اصمدن للموت        لاترهبني عن لقاء الفوت
دع التمني بعسى ولـيت

ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالاً شديداً، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون؛ وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى بن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث وعمرو السلمي والعباس بن زفر.

وتوفي في هذه السنة عبد الملك بن صالح.

ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون

وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وفيها حبس محمد بن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر.

ذكر الخبر عن سبب خلعه: ذكر عن داود بن سليمان أن عبد الملك بن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة؛ وذلك في سنة ست وتسعين ومائة.

وذكر أحمد بن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة؛ فلما كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه؛ فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك؛ ولا وليت له عملاً، ولا جرى له على يدي مال؛ فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف؛ فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.

فانصرف الرسول، فلما أصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبد الله بن علي وباب سوق يحيى وقال: يا معشر الأبناء؛ إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر؛ وإن محمداً يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم؛ وينقل عزكم إلى غيركم؛ وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم؛ وليعرفن ضرره وكروهه في دولتكم ودعوتكم؛ فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل؛ وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه. ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا؛ حتى صاروا إلى سكة باب خراسان؛ واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشأم، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلي باب الكوفة.

وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بن علي؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً ملياً من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد.
قال: فخلع الحسين بن علي محمداً يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بن موسى بن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها. فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشأم، فقال: أيها الناس؛ والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سناً، ولا أكرمنا حسباً، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة؛ وإني أولكم نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله؛ فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.
وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.

فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطعٍ منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحداً من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قال: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف؛ انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.

ونهضت الحربية، ونهض معهم عامة أهل الأرباض في المشهرات والعدة الحسنة. فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالاً شديداً منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة؛ فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح؛ فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحاً كثيراً ومتاعاً من خز وغير ذلك؛ وأتي بالحسين بن علي، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال؛ وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قال: بلى، قال: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك. ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.

وذكر عن عثمان بن سعيد الطائي، قال: كانت لي من الحسين بن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفاً بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له: إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول:

هم قتلـوه حـين تـم تـمـامـه               وصار معزاً بالندى والتـمـجـد
أغر كأن البـدر سـنة وجـهـه                 إذا جاء يمشي في الحديد المسرد
إذا جشأت نفس الجبان وهلـلـت          مضى قدماً بالمشرفي المهـنـد
حليم لدى النادي جهول لدى الوغى      عكور على الأعداء قليل التـزيد
فثأرك أدركه من القـوم إنـهـم                رموك على عمدٍ بشنعا مـزنـد

فضحك، ثم قال: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر. ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعناً وضرباً وأخذوا رأسه، وفي ذلك يقول علي بن جبلة - وقيل الخريمي:

ألا قاتل الله الألى كـفـروا بـه              وفازوا برأس الهرثمي حسـين
لقد أوردوا منه قنـاةً صـلـيبةً               بشطب يماني ورمـح ردينـي
رجا في خلاف الحق عزاً وإمرةً           فألبسه التأمـيل خـف حـنـين

وقيل: إن محمداً لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه.

وقتل الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان للنصف من رجب من هذه السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين.

وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمداً في قصر أبي جعفر يومين.

وفي الليلة التي قتل فيها حسين بن علي هرب الفضل بن الربيع.

وفي هذه السنة توجه طاهر بن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشاً أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه.

ذكر الخبر عن مقتل محمد بن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز ذكر عن يزيد بن الحارث، قال:

لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيراً مقتصداً، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه. فلما توجه أتت طاهراً عيونه، فأخبروه أن محمد بن يزيد المهلبي - وكان عاملاً لمحمد على الأهواز - قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور - وهو حد ما بين الأهواز والجبل - ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر؛ وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه؛ منهم محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخاراخذاه والحارث بن هشام وداود بن موسى وهادي بن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهراً له. فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.

وبلغ محمد بن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريباً منهم، ووجه الحسن بن علي المأموني، وأمره بمضامة قريش بن شبل والحسين بن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بن يزيد بعسكر مكرم؛ فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطال القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فوالله ما أرى أن أرجع إلى أمير المؤمنين أبداً، ولا أنصرف عن الأهواز، فقالوا له: الرأي أن ترجع إلى الأهواز؛ فتتحصن بها وتغادي طاهراً القتال وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك.فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز. وأمر طاهر قريش بن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بن علي المأموني والحسين بن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه؛ فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه. ومضى قريش بن شبل يقفو محمد بن يزيد، كلما ارتحل محمد بن يزيد من قرية نزلها قريش؛ حتى صاروا إلى سوق الأهواز.

وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم؛ ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره. وأقبل قريش بن شبل حتى صار قريباً منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة؛ فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحاتٍ كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالاً شديداً حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض. والتفت محمد بن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه؛ فقال: ما رأيكم؟ قالوا: في ماذا؟ قال: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعته، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف؛ فوالله لأن تبقوا أحب إلي من أ تعطبوا وتهلكوا. فقالوا: والله ما أنصفناك، إذاً تكون أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال؛ بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك؛ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك. ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك؛ وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه؛ وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه؛ فقال بعض أهل البصرة يرثيه، ويذكر مقتله:

من ذاق طعم الرقاد من فرحٍ              فإنني قد أضر بي سـهـري
ولي فتى الرشد فافتقدت                 بـه قلبي وسمعي وغرني بصري
كان غياثاً لدى المحول فـقـد              ولى غمام الربيع والمـطـر
وفي العييني لـلإمـام ولـم                يرهبه وقع المشطب الذكـر
ساور ريب المنـون داهـيةً                  لولا خضوع العباد للـقـدر
فامض حميداً فكل ذي أجـلٍ               يسعى إلى ما سعيت بالأثـر

وقال بعض المهالبة ؛ وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:

فما لمت نفسي غير أنـي لـم أطـق            حراكاً وأني كنت بالضرب مثـخـنـا
ولو سلمت كفـاي قـاتـلـت دونـه                  وضاربت عنه الطاهري الملـعـنـا
فتىً لا يرى أن يخذل السيف في الوغى        إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتـنـى

وذكر عن الهيثم بن عدي، قال: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:

من آنسته البلاد لـم يرم          منها ومن أوحشته لم يقم

حتى انتهى إلى قوله:

ما ساء ظـنـي إلا لـواحـدةٍ          في الصدر محصورةٍ عن الكلم

فتبسم طاهر، ثم قال: أما والله لقد ساءني ما ساءك، وآلمني ما آلمك؛ ولقد كنت كارهاً لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازلة، ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة؛ فظننا أنه يريد محمد بن يزيد بن حاتم.

وذكر عمر بن أسد، قال: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بن يزيد بن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجهاً إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بن خازم؛ فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملاً عاملاً، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا منها؛ حتى قرب من واسط، فنادى السندي بن يحيى والهيثم بن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما؛ وهما بالقتال، وأمر الهيثم بن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرساً، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها؛ فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر. فضحك ثم قال: قرب فرس الهرب؛ فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطاً، وهربا عنها. ودخل طاهر واسطاً، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها. فوجه محمد بن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائداً من قواده يقال له أحمد بن المهلب نحو الكوفة. وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي؛ فلما بلغ العباس خبر أحمد بن المهلب خلع محمداً، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون؛ ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة؛ وكتب المنصور بن المهدي - وكان عاملاً لمحمد على البصرة - إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا؛ فأقام بها يومين فلم يرها موضعاً للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.

وكانت بيعة المنصور بن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بن موسى الهادي بالكوفة، وبيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمداً في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.

وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بن العباس بن موسى بن عيسى.

ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعه محمداً، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة.