المجلد الثامن - ذكر خبر وقعة قصر صالح

ذكر خبر وقعة قصر صالح

وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر قصر صالح.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة

ذكر عن محمد بن الحسين بن مصعب، أن طاهراً لم يزل مصابراً محمداً وجنده على ما وصفت من أمره؛ حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي فراهمرد الموكل بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه؛ وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلاً، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد؛ وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش؛ وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد؛ وكان مهيباً في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم؛ وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون؛ وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار.

قال: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجاً من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر؛ ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلاً وجريحاً معقوراً من أصحاب طاهر من تلك الوقعة؛ فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب. وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع:

أمين الله ثـق بـالـل              ه تعط الصبر والنصره
كل الأمر إلـى الـلـه               كلاك الله ذو القـدره
لنا النصر بعـون الـل              ه والكرة لا الـفـره
ولـلـمـراق أعـدائ                 ك يوم السوء والدبـره
وكأس تلفظ الـمـوت              كريه طعمهـا مـره
سقينا وسـقـينـاهـم             ولكن بهـم الـحـره
كذاك الحرب أحـيانـاً              علينـا ولـنـا مـره

فذكر عن بعض الأبناء أن طاهراً بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون؛ فلحق به جماعة، منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي واخوته، وولد الحسن بن قحطبة ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.

قال: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش؛ فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ. وفرض دجلة وباب المحول والكناسة؛ فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة؛ فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب.

قال: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم؛ فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على أهل الريب. وأمر محمد بن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم؛ فكان الرجل إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز؛ حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قال الله تعالى ذكره: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب". فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعاً؛ وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:

بكيت دماً على بغداد لـمـا          فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً مـن سـرورٍ             ومن سعةٍ تبدلنا بـضـيق
أصابتها من الحسـاد عـين            فأفنت أهلها بالمنـجـنـيق
فقوم أحرقوا بالنار قـسـراً              ونائحة تنوح على غـريق
وصائحة تنادي واصبـاحـاً              وباكية لفقدان الـشـفـيق

وحوراء المـدامـع ذات دل                 مضمخة المجاسد بالخـلـوق
تفر من الحريق إلى انتهـابٍ             ووالدها يفر إلى الـحـريق
وسالبة الغزالة مقـلـتـيهـا                 مضاحكها كلألأة الـبـروق
حيارى كالهدايا مـفـكـرات                 عليهن القلائد في الحـلـوق
ينادين الشفـيق ولا شـفـيق             وقد فقد الشقيق من الشقـيق
وقوم أخرجوا من ظـل دنـيا               متاعهم يباع بـكـل سـوق
ومغترب قريب الدار ملقـىً                بلا رأسٍ بقارعة الـطـريق
توسط من قتالهـم جـمـيعـاً                 فما يدرون من أي الـفـريق
فلا ولد يقـيم عـلـى أبـيه                  وقد هرب الصديق بلا صديق
ومهما أنس من شيء تـولـى               فإني ذاكـر دار الـرقـيق

وذكر أن قائداً من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى؛ استهانة بأمرهم واحتقاراً لهم؛ فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة؛ فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعدة والقوة؛ ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وأبصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريباً منه؛ فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيهاً بالجعبة. وجعل كلما وقع سهم أخذه وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه؛ ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه؛ فأخرج من مخلاته حجراً؛ فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر؛ فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه؛ وكر راجعاً وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس؛ قال: فحدثت أن طاهراً حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب؛ فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:

خرجت هذه الـحـروب رجـالاً               لا لقحطـانـهـا ولا لـنـزار
معشراً في جواشن الصوف يغدو         ن إلى الحرب كالأسود الضواري
وعليهم مغافر الخوص تـجـزي            هم عن البيض. والتراس البواري
ليس يدرون ما الفـرار إذا الأب             طال عاذوا من القنا بـالـفـرار
واحد منـهـم يشـد عـلـى أل              فين عريان مـا لـه مـن إزار
ويقول الفتى إذا طعـن الـطـع             نة: خذها من الفتـى الـعـيار
كم شريف قد أخملتـه وكـم قـد            رفعت من مـقـامـر طـرار

ذكر خبر منع طاهر الملاحين من إدخال شيء إلى بغداد

قال محمد بن جرير: وفي هذه السنة منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.

ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر أما السبب في ذلك فإنه - فيما ذكر - كان أن طاهراً لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه؛ لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه؛ فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشأم وباب الكوفة، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة؛ وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة؛ وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون؛ حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون؛ فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعدياً؛ فقال شاعر منهم - وذكر أنه عمرو بن عبد الملك الوراق العتري - في ذلك:

 لنا كل يوم ثلمة لا نسـدهـا          يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا داراً أخذنا سقوفهـا         ونحن لأخرى غيرها نتربص

وإن حرصوا يوماً على الشر جهدهم               فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
فقد ضيقوا من أرضنا كـل واسـعٍ                   وصار لهم أهل بها، وتعـرصـوا
يثيرون بالطبل القنـيص فـإن بـدا                   لهم وجه صيدٍ من قريب تقنصـوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربـهـا                   علينا فما ندري إلى أين نشخـص!
إذا حضروا قالوا بما يعـرفـونـه                         وإن يروا شيئاً قبيحاً تـخـرصـوا
وما قتل الأبطال مثـل مـجـربٍ                       رسول المنايا ليلـه يتـلـصـص
ترى البطل المشهور في كل                         بلـدة إذا ما رأى العريان يوماً يبصبـص
إذا ما رآه الـشـمـري مـقـزلاً                           على عقبيه للمـخـافة ينـكـص
يبيعك رأساً للـصـبـي بـدرهـمٍ                        فإن قال إني مرخص فهو مرخص
فكم قاتلٍ مـنـا لآخـر مـنـهـم                           بمقتله عنه الذنـوب تـمـحـص
تراه إذا نـادى الأمـان مـبـارزاً                          ويغمرنا طوراً وطوراً يخصـص
وقد رخصت قراؤنا في قتـالـهـم                     وما قتل المقتول إلا المـرخـص

وقال أيضاً في ذلك:

الناس في الهدم وفي الانتقـال              قد عرض الناس بقيلٍ وقـال
يأيها السائل عـن شـأنـهـم                   عينك تكفيك مكان الـسـؤال
قد كان للرحمن تكـبـيرهـم                     فاليوم تكبيرهم لـلـقـتـال
اطرح بعينيك إلى جمعـهـم                   وانتظر الروح وعد الـلـيال
لم يبق في بغـداد إلا امـرؤ                    حالفه الفقر كثـير الـعـيال
لا أم تحمي عن حمـاهـا ولا                  خال له يحمي ولا غير خال
ليس له مال سوى مـطـردٍ                     مطرده في كفه رأس مـال
هان على الله فأجرى عـلـى                   كفيه للشقوة قتل الـرجـال
إن صار ذا الأمر إلى واحـدٍ                       صار إلى القتل على كل حال
ما بالنا نقتل مـن أجـلـهـم                   سبحانك اللهم يا ذا الحـلال!
وقال أيضاً: ولست بتاركٍ بغداد               يومـاً ترحل من ترحل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا                نبالي بعد من كان الإماما

قال عمرو بن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر عند ذلك بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات؛ ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار؛ بما كان زهير بن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا أو كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام.

وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حيناً بالياسرية.

ذكر خبر وقعة الكناسة

وفيها جعل طاهر قواداً من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بن الوضاح الأزدي في أصحابه ومن ضم إليه بالوضاحية على المحول الكبير، وجعل نعيم بن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهراً، ثم صبر الفريقان جميعاً؛ فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة؛ باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بن عبد الملك:

وقـعة يوم الأحـد          صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرتـه        ملقىً وكم من جسد
وناظر كانـت لـه           منية بـالـرصـد
أتاه سهـم عـاثـر          فشك جوف الكبـد
وصـائحٍ يا والـدي           وصائحٍ يا ولـدي
وكم غريقٍ سابـحٍ          كان متين الجلـد!
لم يفتـقـده أحـد            غير بنات البـلـد
وكم فـقـيدٍ بـئس            عز على المفتقـد
كان من النظارة ال          أولى شديد الحـرد

لم يبق من كهل لـهـم                فات ولا مـن أمــرد
وطاهـر مـلـتـهـم                        مثل الـتـهـام الأسـد
خيم لا يبـرح فـي ال                   عرصة مثل الـلـبـد
تقذف عـينـاه لـدى ال                 حرب بـنـار الـوقـد
فقـائل قـد قـتـلـوا                       ألـفـاً ولـمــا يزد
وقـائل أكـثـر بــل                        ما لـهـم مـن عـدد
وهـارب نـحـوهــم                      يرهب من خوف غـد
هيهات لا تبصـر مـم                   ن قد مضى مـن أحـد
لا يرجع الماضي إلى ال            باقـي طـوال الأبــد
قلت لمطـعـون وفـي                ه روحـه لـم تـبــد
من أنـت يا ويلــك يا                  مسكين من مـحـمـد
فقـال لا مـن نـسـبٍ                   دانٍ ولا مـن بـلــد
لم أره قــط ولـــم                          أجد لـه مـن صـفـد
قلـت لا لـلـغـي قـا                     تلـت ولا لـلـرشـد
إلا لـشـيء عـاجـلٍ                   يصير منـه فـي يدي

وذكر عن عمرو بن عبد الملك أن محمداً أمر زريحاً غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلاً، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالاً كثيرة، وأهلك خلقاً، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:

أظهروا الحج ومـا ينـوونـه                  بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبـطة             وكل الهرش عليهم بالعطـب
كل مـن راد زريح بـيتــه                    لقي الذل ووافـاه الـحـرب

ذكر خبر وقعة درب الحجارة.

وفيها كانت وقعة درب الحجارة.

ذكر الخبر عنها: ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة؛ وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بن عبد الملك العتري:

وقعة السبت يوم درب الحجاره             قطعت قطعة من النـظـاره
ذاك من بعد ما تفانوا ولـكـن                أهلكتهم غوغاؤنا بالحـجـاره
قدم الشورجين للقتـل عـمـداً              قال إني لـكـم أريد الإمـاره
فتلـقـاه كـل لـص مـريبٍ                      عمر السجن دهره بالشطـاره
ما عليه شـيء يواريه مـنـه                  أيره قائم كمثـل الـمـنـاره
فتولوا عنهم وكـانـوا قـديمـاً                   يحسنون الضراب في كل غاره
هؤلاء مثـل هـولاك لـدينـا                    ليس يرعون حق جار وجـاره
كل من كان خاملاً صار رأسـاً               من نعيمٍ في عيشه وغضـاره
حامل فـي يمـينـه كـل يومٍ                 مطرداً فـوق رأسـه طـياره
أخرجته من بيتـهـا أم سـوءٍ                  طلب النهب أمـه الـعـياره
يشتم الناس ما يبالي بـإفـصـا              حٍ لذي الشتم لا يشـير إشـاره
ليس هذا زمـان حـر كـريم                    ذا زمان الأنذال أهل الزعـاره
كان فيما مضى القتال قـتـالاً                 فهو اليوم يا عـلـي تـجـاره

وقال أيضاً:

بارية قيرت ظـاهـرهـا               محمد فيها ومـنـصـور
العز والأمن أحـاديثـهـم             وقولهم قد أخذ الـسـور
وأي نفع لك في سورهـم          وأنت مقتول ومـأسـور؟
قد قتلت فرسانكم عـنـوةً          وهدمت من دوركـم دور
هاتوا لكم من قـائد واحـد    nbsp;      مهذب في وجهـه نـور
يأيها السائل عن شـأنـنـا         محمد في القصر محصور

ذكر خبر وقعة باب الشماسية

وفيها أيضاً كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة.

ذكر عن علي بن يزيد أنه قال:

كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحياناً، فيقف بباب خراسان مشفقا ًمن أهل العسكر، كارهاً للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به؛ فيقف ساعة ثم ينصرف. وكان حاتم بن الصقر من قواد محمد؛ وكان قد واعد أصحابه الغزاة والعيارين أن يوافوا عبيد الله بن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم؛ فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزماًن فأصابوا له خيلاً وسلاحاً ومتاعاً كثيراً، وغلب على الشماسية حاتم ابن صقر. وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر إلى موضعه؛ فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزماً، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب؛ وما كانوا من النهب والأسر. فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم.

وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق:

عريان ليس بذي قـمـيص          يغدو على طلب القمـيص
يعدو عـلـى ذي جـوشـنٍ            يعمي العيون من البصيص
في كـفـــه طـــرادة                  حمراء تلمع كالفصـوص
حرصاً على طلب الـقـتـا            ل أشد من حرص الحريص
سلـس الـقـياد كـأنـمـا              يغدو على أكل الخـبـيص
ليثـاً مـغـيراً لـــم يزل                 رأساً يعد من اللـصـوص
أجرى وأثـبـت مـقـدمـاً              في الحرب من أسدٍ رهيص
يدنو على سـنـن الـهـوا            ن وعيصه من شر عـيص
ينجـو إذا كـان الـنـجـا                ء على أخف من القلـوص
ما للـكـمـي إذا لـمـق               تله تعرض من مـحـيص
كم مـن شـجـاعٍ فـارسٍ             قد باع بالثمن الـرخـيص
يدعـو: ألا مـن يشـتـري            رأس الكمي بكف شـيص!

وقال بعض أصحاب هرثمة:

يفنى الزمان وما يفنى قـتـالـهـم           والدور تهدم والأموال تنـتـقـص
والناس لا يستطيعون الذي طلـبـوا         لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا
يأتونـنـا بـحـديثٍ لا ضـياء لـه                  في كل يوم لأولاد الزنا قـصـص

قال: ولما بلغ طاهراً ما صنع الغزاة وحاتم بن الصقر بعبيد الله بن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه؛ وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بن الوضاح وهرثمة.

قال: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانية بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبة، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشراً كثيراً، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:

ثقلان وطاهر بـن الـحـسـين             صبحونـا صـبـيحة الإثـنـين
جمعوا جمعهـم بـلـيل ونـادوا           اطلبوا اليوم ثأركم بالـحـسـين
ضربوا طلبهم فـثـار إلـيهـم              كل صلب القناة والـسـاعـدين
يا قتيلا بالقاع ملقىً على              الشـط هواه بـطـيء الـجـبـلـين
ما الذي في يديك أنت إذا ما اص      طلح الناس أنت بالـخـلـتـين
أوزير أم قـائد، بـل بـعــيد                   أنت من ذين موضع الفرقـدين
كم بصير غدا بعينـين كـي                يب صر ما حالهم فـعـاد بـعـين
ليس يخطون مـا يريدون مـا               يع مد راميهم سوى الـنـاظـرين
سائلي عنهم هـم شـر مـن أب        صرت في الناس ليس غير كذين
شر باقٍ وشر ماضٍ مـن الـنـا           س مضى أو رأيت في الثقلـين

قال: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمداً، فاشتد عليه وغمه وأحزنه؛ فذكر كاتب لكوثر أن محمداً قال - أو قيل على لسانه هذه الأبيات:

منيت بأشجع الثقلين قلـبـاً             إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدنٍ رقـيب                 يشاهده ويعلم مـا يقـول
فليس بمغفلٍ أمراً عـنـاداً                 إذا ما الأمر ضيعه الغفول

وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى المدائن؛ فذكر عن الحسين بن الضحاك أن عبد الله بن خازم بن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلاً في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئاً من القتال.

وذكر غيره أن طاهراً كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم؛ فقال بعض قرائبه في ذلك:

وما جبن ابن خازم من رعاعٍ            وأوباش الطغام من الأنـام
ولكن خاف صولة ضيغمـي               هصور الشد مشهور العرام

فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتاباً أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له؛ لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب ؛ فضلاً عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين؛ حتى إن الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار؛ وإنما هم بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون. وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعة الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى أن الرجل ليستقبل المرأة في زحمة الناس فيلتثان قبل التخلص؛ وحتى إن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفاً وحتى إن الحامل الكيس في حنجرته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة؛ ولا نملك لأنفسنا معهم شيئاً؛ وإن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفي الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصة، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لاتظنوا أن طاهراً غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم؛ حتى كأنه شاهدكم؛ والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا؛ فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم؛ والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفاً، بل لو كنتم من أهل الأثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا. فأجابوهم وأمسكوا. وقال ابن أبي طالب المكفوف:

دعوا أهل الطريق فعن قليل            تنالهم مخاليب الهـصـور
فتهتك حجب أفـئدة شـداد              وشيكاً ما تصير إلى القبور
فإن الله مهلكهم جـمـيعـاً               بأسباب التمني والفـجـور

وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعاً للقتال؛ حتى كان الفتح منه؛ وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار أبي يزيد الشروي. وخلف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار؛ فذكر أن طاهراً لما رأى ذلك وجه إليهم قائداً من أصحابه، وكان مشتغلاً بوجوه كثيرة يقاتل منها أصحاب محمد، فأوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق:

نادى منادي طاهـرٍ عـنـدنـا                يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت
فسوف يأتيكم غـد فـاحـذروا               ليثاً هريت الشدق فيه عـيوت
فثارت الغوغاء فـي وجـهـه                  بعد انتصاف الليل قبل القنـوت
في يوم سبتٍ تركوا جـمـعـه               في ظلمة الليل سموداً خفـوت

وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد:

كم قتـيل قـد رأينـا           ما سـألـنـاه لأيش
دارعاً يلـقـاه عـريا            ن بجهلٍ وبـطـيش
إن تلـقـاه بـرمـحٍ               يتـلـقـاه بـفـيش
حبشياً يقـتـل الـنـا            س على قطعة خيش
مرتدٍ بالشمـس راض         بالمنى من كل عيش
يحمل الحمـلة لا يق          تل إلا رأس جـيش
كعلي أفـراهـمـردٍ               أو علاءٍ أو قـريش
أحذر الرمـية يا طـا            هر من كف الحبيشي

وقال أيضاً عمرو الوراق في ذلك:

ذهبت بهـجة بـغـدا             د وكانت ذات بهجـه
فلـهـا فـي كـل يومٍ              رجة من بعـد رجـه
ضجت الأرض إلى الل          ه من المنكر ضجـه
أيها المقتـول مـا أن            ت على دين المحجـه
ليت شعري ما الذي نل      ت ووقد أدلجت دلجه
أإلى الفـردوس وجـه           ت أم النـار تـوجـه
حجــر أرداك أم أر                ديت قسراً بـالأزجـه
إن تكن قاتـلـت بـراً               فعلينا ألـف حـجـه

وذكر عن علي بن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمداً أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يوماً وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعاً، وأراح الناس منهم؛ فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا؛ أما هؤلاء فيريدون مالي؛ وأما أولئك فيريدون نفسي. وذكرت أبياتاً قيل أنه قالها:

تفرقوا ودعـونـي            يامعشر الأعـوان
فكلكـم ذو وجـوهٍ           كخلقة الإنـسـان
وما أرى غير إفكٍ           وترهات الأمانـي
ولست أملك شـيئاً        فسائلوا خـزانـي
فالويل لي ما دهاني     من ساكن البستان

قال: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك. وكان على مكة في هذه السنة داود بن عيسى.