المجلد الثامن - وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الأمين

وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الأمين

وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أياماً حتى أصلح أمرهم.

ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل به أمره وأمرهم ذكر عن سعيد بن حميد؛ أنه ذكر أباه حدثه؛ أن أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به؛ ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأةٍ من أهل الأرباض إياهم، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف. وكان قد أحر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحميل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثني عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أبر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.

قال: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، وأحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور. وصوب الناس إخراج طاهر وموسى وعبد الله؛ وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم. فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم؛ فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر؛ فقال في ذلك بعض الأبناء:

آلى الأمير وقوله وفعالهحق بجمع معاشر الزعار
إن هاج هائجهم وشغب شاغب                        منـكـل نـاحـــيةٍ مـــن الأقـــطـــار
ألا ينـاظـر مـعـشـراً مـن جـمـعــهـــم                    إمـهـــال ذي عـــدلٍ وذي إنـــظـــار
حتـى ينـيخ عـلـيهــم بـــعـــظـــيمةٍ                     تدع الـــديار بـــلاقـــع الآثــــــار

فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب إليه سعيد بن مالك بن قادم ومحمد بن أبي خالد وهبيرة بن خازم؛ في مشيخةٍ من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه. وأتاه عميرة - أبو شيخ بن عميرة الأسدي - وعلى ابن يزيد؛ في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد بن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان. فطابت نفسه إلا أنه قال لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال. فضمن لهم سعيد بن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان. وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي ديناً، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك. فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا.

قال المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة؛ وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم - وكان رامياً لم يكن حجره يخطئ - ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، واحترقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلاً، وخرج إلى ناحية خراسان هارباً، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه؛ فلما جازه قال الرجل للمكاري: ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قال:

إنا لله وإنا إليه راجعون! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه - أو مسلحة انتهى إليها - فأخبرهم خبره، وكانوا من أصحاب كندغوش من أصحاب هرثمة، فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حياً، فذكروا أنه لما أرادوا شده على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رمياً بالحجارة والنشاب وطعناً بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصباً وحطباً، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه؛ وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر.

ذكر الخبر عن صفة محمد بن هارون وكنيته

وقدر ما ولي ومبلغ عمره

قال هشام بن محمد وغيره: ولي محمد بن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة. وأمه زبيدة بنة جعفر الأكبر بن أبي جعفر؛ فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله.

وأما محمد بن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قال: أتت الخلافة محمد بن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بن عيسى بن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته، بعشرة أشهر وخمسة أيام وجه عصمة بن أبي عصمة إلى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاثون خلون من شهر ربيع الأول؛ وكان على شرطه علي بن عيسى بن ماهان.

وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائة علي بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بن العباس بن محمد، وعلى مكة داود بن عيسى، وكان بين أن عقد لابنه إلى التقاء علي بن عيسى بن ماهان وطاهر بن الحسين وقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يوماً. قال: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قال: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام.

ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه. وقام الفضل بن سهل فقرأ الكتاب بالخبر، فهنئ بالظفر، ودعوا الله له. وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن هارون، فأظهر ذلك ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر بن محمد كله - فيما بلغني - ثمانياً وعشرين سنة.

وكان سبطاً أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلاً، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. وكان مولده بالرصافة.

وذكر أن طاهراً قال حين قتله:

قتلت الخليفة في داره             وأنهبت بالسيف أمواله

وقال أيضاً:

ملكت الناس قسراً واقتدارا                وقتلت الجبابرة الكبـارا
ووجهت الخلافة نحو مروٍ                    إلى المأمون تبتدر ابتدارا

ذكر ما قيل في محمد بن هارون ومرثيته فما قيل في هجائه:

لم نبكيك لماذا؟ لـلـطـرب!            يا أبا موسى وترويج اللعـب
ولترك الخمس في أوقاتـهـا           حرصاً منك على ماء العني
وشنيف أنـا لا أبـكـي لـه              وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضـا            لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للمـلـك ولـم           تعطلك الطاعة بالملك العرب
أيها الباكي علـيه لا بـكـت             عين من أبكاك إلا للعـجـب
لم نبكيك لما عـرضـتـنـا                للمجانيق وطوراً للـسـلـب
ولقـومٍ صـيرونـا أعـبـداً لهم             ينزو على الرأس الذنـب
في عذاب وحصار مجـهـدٍ               سدد الطرق ولا وجه طلـب

زعموا أنك حي حـاشـر              كل من قال بهذا قد كذب
ليت من قد قاله في وحدة          من جميع ذاب حيث ذهب
أوجب الله علينا قـتـلـه                فإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علـينـا فـتـنةً                 غضب الله عليه وكتـب

وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي، بغداد، ويهجو طاهراً ويعرض به:

من ذا أصابك يا بـغـداد بـالـعـين             ألم تكوني زمـانـاً قـرة الـعـين!
ألم يكن فـيك أقـوام لـهـم شـرف           بالصالحات والمعـروف يلـقـونـي
ألم يكن فيك قوم كان مـسـكـنـهـم         وكان قربـهـم زينـاً مـن الـزين
صاح الزمان بهم بالبين فانقـرضـوا          ماذا الذي فجعتنـي لـوعة الـبـين!
أستودع الله قـومـاً مـا ذكـرتـهـم              إلا تحدر ماء العـين مـن عـينـي
كانوا ففرقهـم دهـر وصـدعـهـم              والدهر يصدع ما بـين الـفـريقـين
كم كان لي مسعد منهم على زمـنـي    كم كان منهم على المعروف من عون
للـه در زمـان كـان يجـمـعـنـا                   أين الزمان الـذي ولـى ومـن أين!
يا من يخرب بغـداداً لـيعـمـرهـا                أهلكت نفسك مل بـين الـفـريقـين
كانت قلوب جمـيع الـنـاس واحـدةً           عيناً، وليس لكون الـعـين كـالـدين
لما أشتـهـم فـرقـتـهـم فـرقـاً                  والناس طراً جميعاً بـين قـلـبـين

وذكر عمرو بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه، أن لبانة ابنة علي بن المهدي قالت:

أبكيك لا للنـعـيم والأنـس                بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على هالكٍ فجعت بـه             أرملني قبل ليلة الـعـرس

وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بن جعفر، وكانت مملكة بمحمد.

وقال الحسين بن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمداً، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:

يا خير أسرته وإن زعـمـوا             إني عليك لمـثـبـت أسـف
اللـه يعـلـم أن لـي كـبـداً             حرى عليك ومقـلةً تـكـف
لئن شجيت بـمـا رزئت بـه            إني لأضمر فوق ما أصـف
هلا بقيت لسـد فـاقـتـنـا               أبداً، وكان لغيرك التـلـف!
فلقد خلفت خلائفاً سـلـفـوا          ولسوف يعوز بعدك الخلـف
لا بات رهطك بعد هفوتـهـم           إني لرهطك بعدها شـنـف
هتكوا بحرمتك التي هتـكـت          حرم الرسول ودونها السجف
وثبت أقاربك التـي خـذلـت             وجميعها بالذل مـعـتـرف
لم يفعلوا بالشط إذ حـضـروا           ما تفعل الـغـيرانة الأنـف
تركوا حريم أبـيهـم نـفـلاً               والمحصنات صوارخ هتـف
أبدت مخلخلها علـى دهـش           أبكارهن ورنت الـنـصـف
سلبت معاجرهن واجتـلـيت             ذات النقاب ونوزع الشـنـف
فكأنهن خـلال مـنـتـهـب                   در تكشف دونـه الـصـدف
ملك تخـون مـلـكـه قـدر                    فوهى وصرف الدهر مختلف
هيهات بعـدك أن يدوم لـنـا                عز وأن يبقى لـنـا شـرف
لا هيبوا صحـفـاً مـشـرفةً                  للغادلين وتحتهـا الـجـدف
أفبعد عهد الـلـه تـقـتـلـه                  والقتل بعد أمـانـه سـرف
فستعرفون غـداً بـعـاقـبة                    عز الإله فـأوردوا وقـفـوا
يا مـن يخـون نـومـه أرق                   هدت الشجون وقلبه لـهـف
قد كنت لي أملاً غنـيت بـه                 فمضى وحل محله الأسـف
مرج النظام وعاد منـكـرنـا                   عرفاً وأنكر بعدك الـعـرف
فالشمل منتشر لفقـدك والـد               نيا سدىً والبال منـكـسـف

وقال أيضاً يرثيه:

إذا ذكر الأمين نعى الأمينـا           وإن رقد الخلي حمى الجفونا
وما برحت منازل بين بصرى           وكلواذى تهيج لي شجـونـا
عراص الملك خاوية تهـادى             بها الأرواح تنسجها فنـونـا
تخون عز ساكنـهـا زمـان             تلعب بالقـرون الأولـينـا

فشتت شملهم بعد اجتـمـاعٍ             وكنت بحسن ألفتهم ضنينـا
فلم أر بعدهم حسناً سواهـم            ولم ترهم عيون الناظرينـا
فوا أسفاً وإن شمت الأعادي              وآه على أمير المؤمنـينـا
أضل العرف بعدك متبعـوه                   ورفه عن مطايا الراغبينـا
وكن إلى جنـابـك كـل يومٍ                  يرحن على السعود ويغتدينا
هو الجبل الذي هوت المعالي             لهدته وريع الصالـحـونـا
ستندب بعدك الدنـيا جـواراً                 وتندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شـيءٍ             وعاد الدين مطروحاً مهينـا
تعقد عز متصل بكـسـرى                      وملته وذل المسـلـمـونـا

وقال أيضاً يرثيه:

أسفاً عليك سلاك أقرب قربةً            مني وأحزاني عليك تـزيد

وقال عبد الحمن بن أبي الهداهد يرثي محمداً:

يا غرب جودي قد بت من وذمه                فقد فقدنا العزيز مـن ديمـه
ألـوت بـدنـياك كـف نـائبةٍ                       وصرت مغضىً لنا على نقمه
أصبح للموت عنـدنـا عـلـم                    يضحك سن المنون من علـوه
ما استنزلت درة المنون علـى                أكرم من حل في ثرى رحمه
خلـيفة الـلـه فـي بـريتـه                       تقصر أيدي الملوك عن شيمه
يفتر عن وجهه سـنـا قـمـرٍ                     ينشق عن نوره دجى ظلـمـه
زلزلت الأرض من جوانبـهـا                      إذ أولغ السيف من نجيع دمـه
من سكت نفسه لمـصـرعـه                    من عمم الناس أو ذوي رحمه
رأيتـه مـثـل مـا رآه بــه                           حتى تذوق الأمر من سقـمـه
كم قد رأينا عزيز مـمـلـكةٍ                       ينقل عن أهله وعن خـدمـه
يا ملكاً لـيس بـعـده مـلـك                      لخاتم الأنبـياء فـي أمـمـه
جاد وحيا الـذي أقـمـت بـه                       سح غزير الوكيف عن ديمـه
لو أحجم الموت عن أخي ثـقة                  أسوي في العز مستوى قدمـه
أو ملكٍ لا تـرام سـطـوتـه                          إلا مرام الشتيم فـي أجـمـه
خلدك العز ما سـرى سـدف                       أو قام طفل العشي في قدمـه
أصبح ملـك إذا اتـزرت بـه                         يقرع سن الشقاة من نـدمـه
أثر ذو العرش في عداك كمـا                    أثر في عـاده وفـي إرمـه
لا يبعد الـلـه سـورة تـلـيت                        لخير داعٍ دعاه في حـرمـه
ما كنت إلا كحلـم ذي حـلـمٍ                       أولج باب السرور في حلمـه
حتى إذا أطلـقـتـه رقـدتـه                          عاد إلى ما اعتراه من عدمـه

وقال أيضاً يرثيه:

 أقول وقد  دنوت من الـفـرار                سقيت الغيث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهـم عـينٍ              فصرت ملوحاً بدخـان نـار
أبن لي عن جميعك أين حلـوا             وأين مزارهم بعد الـمـزار
وأين محمد وابنـاه مـا لـي                   أرى أطلالهم سـود الـديار!
كأن لم يؤنسوا بأنـيس مـلـكٍ                يصون على الملوك بخير جار
إمام كان في الحدثان عـونـاً                  لنا والغيث يمنح بالـقـطـار
لقد ترك الزمان بـنـي أبـيه                    وقد غمرتهم سود الـبـحـار
أضاعوا شمسهم فجرت بنحسٍ              فصاروا في الظلام بلا نهار
وأجلوا عنهم قمـراً مـنـيراً                      وداستهم خيول بني الشـرار
ولو كانوا لهم كفـواً مـثـلاً                        إذا ما توجوا تـيجـان عـار
ألا بـان الإمـام ووارثـــاه                          لقد ضرما الحشا منا بـنـار
وقالوا الخلد بيع فـقـلـت  ذلاً                    يصير ببائعيه إلى صـغـار
كذاك الملـك يتـبـع أولـيه                        إذا قطع القرار من القـرار

وقال مقدس بن صيفي يرثيه:

خليلي ما أتتك به الخطـوب           فقد أعطتك طاعته النحيب
تدلت من شماريخ المـنـايا             منايا ما تقوم لها القـلـوب
خلال مقابر البستان قـبـر               يجاور قبره أسـد غـريب
لقد عظمت مصيبته على من         له في كل مكرمةٍ نصـيب

على أمثاله العـبـرات تـذرى             وتهتك في مآتمـه الـجـيوب
وما اذخرت زبيدة عنه دمـعـاً             تخص به النسيبة والنـسـيب
دعوا موسى ابنه لبكـاء دهـرٍ           على موسى ابنه دخل الحزيب
رأيت مشاهد الخلفـاء مـنـه             خلاء ما بساحتهـا مـجـيب
ليهنك أننـي كـهـل عـلـيه                أذوب، وفي الحشا كبد تـذوب
أصيب به البعيد فخر حـزنـاً               وعاين يومه فـيه الـمـريب
أنادي من بطون الأرض شخصاً         يحركه النـداء فـمـا يجـيب
لئن نعت الحروب إليه نفـسـاً            لقد فجعت بمصرعه الحروب

وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:

لخير إمام قام من خير عـنـصـر                 وأفضل سام فوق أعواد مـنـبـر
لوارث علم الأولـين وفـهـمـهـم                وللملك المأمون من أم جـعـفـر
كتبت وعيني مستهـل دمـوعـهـا              إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقـد مـسـنـي ضـر وذل كـآبةٍ                   وأرق عيني يابن عمي تـفـكـري
وهمت لما لاقيت بعـد مـصـابـه                فأمري عظيم منكر جد مـنـكـر
سأشكو الذي لاقيتـه بـعـد فـقـده             إليك شكاة المستهـام الـمـقـهـر
وأرجو لما قد مر بي مذ فـقـدتـه              فأنت لبـثـي خـير رب مـغـير
أتى طاهر لا طهر اللـه طـاهـراً                 فما طاهر فيما أتى بـمـطـهـر
فأخرجني مكشوفة الوجه حـاسـراً           وأنهب أمـوالـي وأحـرق آدري
يعز على هارون ما قـد لـقـيتـه                وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسدى بـأمـرٍ أمـرتـه                صبرت لأمرٍ مـن قـدير مـقـدر
تذكر أمير المؤمـنـين قـرابـتـي                  فديتك من ذي حـرمةٍ مـتـذكـر

وقال أيضاً يرثيه:

سبحان ربك رب العزة الـصـمـد             ماذا أصبنا به في صبـحة الأحـد
وما أصيب بـه الإسـلام قـاطـبةً            من التضعضع في ركنـيه والأود
من لم يصب بأمير المؤمنـين ولـم        يصبح بمهلكةٍ والهم فـي صـعـد
فقد أصبت به حتـى تـبـين فـي           عقلي وديني وفي دنياي والجـسـد
يا ليلةً يشتكي الإسـلام مـدتـهـا         والعالمون جمـيعـاً آخـر الأبـد
غدرت بالملك المـيمـون طـائره            وبالإمام وبالـضـرغـامة الأسـد
سارت إليه المنايا وهي تـرهـبـه          فواجهـتـه بـأوغـادٍ ذوي عـدد
بشـورجـين وأغـتـامٍ يقـودهـم              قريش بالبيض في قمصٍ من الزرد
فصادفـوه وحـيداً لا مـعـين لـه               عليهم غائب الأنصـار بـالـمـدد
فجرعوه المنايا غـير مـمـتـنـعٍ               فرداً فيا لك من مستسـلـم فـرد
يلقى الوجوه بوجهٍ غير مـبـتـذلٍ           أبهى وأنقى من القوهـية الـجـدد
وا حسرتا وقريش قـد أحـاط بـه            والسيف مرتعد في كف مرتـعـد
فما تحرك بل ما زال منتـصـبـاً               منكس الرأس لم يبـدئ ولـم يعـد
حتى إذا السيف وافى وسط مفـرقة       أذرته عنـه يداه فـعـل مـتـئد
وقام فاعتقـلـت كـفـاه لـبـتـه                 كضيغمٍ شرس مستبـسـل لـبـد
فاحتزه ثم أهوى فـاسـتـقـل بـه            للأرض من كف ليثٍ محرجٍ حرد
فكاد يقـتـلـه لـو لـم يكـاثـره                 وقام منفلـتـاً مـنـه ولـم يكـد
هذا حديث أمير المؤمـنـين ومـا             نقصت من أمره حرفـاً ولـم أزد
لا زلت أندبه حتى الـمـمـات وإن           أخنى عليه الذي أخنى على لـبـد

وذكر عن الموصلي أنه قال: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس وألسنتهم؛ أمرناه أن يبعث به أسيراً فبعث به عقيراً! وقال المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه؛ فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بن يوسف بشبرٍ من قرطاس فيه: أما بعد؛ فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين؛ يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح:

 إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح"، فلا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله . وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها.

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بن هارون ذكر عن حميد بن سعيد، قال: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم. وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه؛ وفرض لهم فرضاً سماه الجرادية، وفرضاً من الحبشلن سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:

ألا يا مزمن المثوى بطـوس              عزيباً ما يفادى بـنـفـوس
لقد أبقيت للخصـيان بـعـلاً               تحمل منهم شؤم البـسـوس
فأما نوفـل فـالـشـأن فـيه                 وفي بدرٍ، فيا لك من جليس!
وما العصمى بـشـار لـديه                 إذا ذكروا بذي سهم خسـيس
لهم من عمره شطر وشطـر               يعاقر فيه شرب الخنـدريس
وما للغـانـيات لـديه حـظ                   سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقـيمـاً              فكيف صلاحنا بعد الـرئيس!
فلو علم المقيم بـدار طـوسٍ             لعز على المقيم بدار طـوس

قال حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك؛ واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلا ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناوري والهوب؛ وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيماً، فقال أبو النواس يمدحه:

سخر اللـه لـلأمـين مـطـايا            لم تسخر لصاحب المـحـراب
فإذا مـا ركـابـه سـن بــراً                سار في الماء راكباً ليث غـاب
أسداً باسـطـاً ذراعـيه يهـوى           أهرت الشدق كـالـح الأنـياب
لا يعانيه باللـجـام ولا الـسـو            ط ولا غمز رجليه في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صـو        رة ليثٍ تمر مـر الـسـحـاب
سبحوا إذ رأوك صرت عـلـيه         &nnbsp;   كيف لو أبصروك فوق العقـاب
ذات زور ومنـسـر وجـنـاح                  ين تشق العباب بعد الـعـبـاب
تسبق الطير في السماء إذا ما اس   تعجلـوهـا بـجـيئة وذهـاب
بارك الـلـه لـلأمـير وأبـقـا                  ه وأبقى لـه رداء الـشـبـاب
ملك تقصـر الـمـدائح عـنـه              هاشمي موفـق لـلـصـواب

وذكر عن الحسين بن الضحاك، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ :

قد ركب الدلفين بدر الدجى            مقتحماً في الماء قد لحجا
فأشرقت دجلة في حسنـه             وأشرق الشطان واستبهجا
لم ترى عيني مثله مركبـاً               أحسن إن سار وإن أحنجا
إذا استحثثته مـجـاديفـه                 أعتق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الـذي                أضحى بتاج الملك قد توجا

وذكر عن احمد بن إسحاق بن برصومة المغني الكوفي أنه قال: كان العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلداً

وعقلأ وصنيعاً؛ وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له المنصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوةً عجيبة. قال: فركب الخادم يوماً في جماعة خدم كانو لمجمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس هيئته وحاله التي هو عليها. وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا ًفي قميص حاسرأ، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحداً منهم إلا أوهنه، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره. وبلغ الخبر محمداً، فبعث إلى داره جماعة، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسة والسهام، فقام أحمد بن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا؛ وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس. قال: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل غليه، فقال: ماتصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنه، ألست في الطاعة! قال: بلى، قال: فقم فاركب. قال: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قال: يا غلام، هلم دابتي فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلاً. قال: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر؛ فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش. قال: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلاً ورشيد راكب. قال: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعل تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك. قال: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قال: فبينما محمد كذلك - ولم يأت العباس بعد - إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بن عيسى بن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان. قال: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بن علي بن عيسى بن ماهان، ودعا إلى المأمون وحبس محمد. قال: فمر إسحاق بن عيسى بن علي ومحمد بن محمد المعبدى بالعباس بن عبد الله وهو في منظره، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل - يعنيان حسين بن علي - قال: فخرج فأتى حسيناً، ثم وقف عند باب الجسر؛ فما ترك لأم جعفر شيئاً من الشتم إلا قاله، وإسحاق بن موسى يأخذ البيعة للمأمون. قال: ثم لم يكن إلا يسيراً حتى قتل الحسين، وهرب العباس إلى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة ألف درهم وثلثمائة أف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار. فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما ... وحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان وتسعين ومائة.

قال أحمد بن إسحاق: وكان العباس بن عيد الله يحدث بعد ذلك؛ فيقول: قال لي سليمان بن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟ فقالت: يل عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله؛ فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.

وذكر عن أحمد بن إسحاق بن برصوما، قال: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بن حبيب بن بديل التميمي؛ وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قال: فأرسلوا إليه، قال: فقدم علينا، فلما صار إليه قال له: إني قد خيرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب؛ ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب؛ فنصب رجلاً كان ينزل دجيلاً يقال له بكير بن المعتمر؛ فكان إذا نزل بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قال له: هات؛ فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. قال أحد بن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بن المعتمر شيخ عظيم الخلق.

وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان الكاتب، قال: حدثنا إبراهيم بن الجراح، قال: حدثني كوثر، قال: أمر محمد بن زبيدة يوماً أن يفرش له على دكان الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشراً عشراً، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد؛ فأصعدت إليه عشراً فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

هم قتلوه كي يكونوا مـكـانـه            كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه

قال: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشراً، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

من كان مسروراً بمقتل مالكٍ             فليأت نسوتنا بوجه نـهـار
يجد النساء حواسراً يندبـنـه              يلطمن قبل تبلج الأسحـار

قال: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلاً، ثم قال: أصعدي عشراً فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:

كليب لعمري كان أكثر ناصراً              وأيسر ذنباً منك ضرج بالـدم

قال: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيراً مما كان.

وذكر عن محمد بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثني محمد بن دينار، قال: كان محمد المخلوع قاعداً يوماً، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره؛ فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتي به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأساً ليشربه؛ فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:

كليب لعمري كان أكثر ناصراً         وأيسر ذنباً منك ضرج بالـدم

فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأساً أخرى، ودعا أخرى فغنت:

هم قتلوه كي يكونوا مـكـانـه          كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه

فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأساً أخرى ليشربها، وقال لأخرى: غني، فغنت: قومي هم قتلوا أميم أخي فرمى وجهها بالكأس،، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.

وذكر عن أبي سعيد أنه قال: ماتت فطيم - وهي أم موسى بن محمد بن هارون المخلوع - فجزع عليها جزعاً شديداً، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قال: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم،

فقالت نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف         ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئةٍ                    ما بعد موسى على مفقوده أسف

وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بن إسماعيل بن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قال: حدثني أبي قال: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:

أما قريش فلا افتخار لهـا               إلا التجارات من مكاسبهـا
وإنها إن ذكرت مـكـرمةً                 جاءت قريش تسعى بغالبها
إن قريشاً إذا هي انتسبـت           كان لها الشطر من مناسبها

قال:يريد أن أكرمها يغالب. قال: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه؛ فلم يزل محبوساً حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:

تذكر أمين اللـه والـعـهـد يذكـر               مقامي وإنشاديك والناس حـضـر
ونثري عليك الـدر يا در هـاشـمٍ             فيا من رأى دراً على الدر ينـثـر!
أبوك الذي لم يملك الأرض مثـلـه           وعمك موسى عدله الـمـتـخـير
وجدك مهدي الهـدى وشـقـيقـه             أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفـر
وما مثل منصوريك: منصور هاشـمٍ           ومنصور قحطانٍ إذا عد مفـخـر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا       وعبد مـنـافٍ والـداك وحـمـير

قال: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس. قال: فبعث إليه إسحاق بن فراشة وسعيد بن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال: ليس عليه بأس، فقال أبياتاً وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:

أرقت وطار من عيني النعاس            ونام السامرون ولم يواسـوا

أمين الله قد ملكت مـلـكـاً                 عليك من التقى فيه لبـاس
ووجهك يستهل ندى فـيحـيا              به في كل نـاحـيةٍ أنـاس
كأن الخلق في تمثـال روحٍ                له جسد وأنت علـيه راس
أمين الله إن السجـن بـاس               وقد أرسلت: ليس عليك باس

فلما أنشده قال: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده؛ وأخرج حتى دخل عليه، فأنشأ يقول:

مرحباً مرحباً بـخـير إمـامٍ           صيغ من جوهر الخرفة نحتا
يا أمين الإله يكـلـؤك الـل            ه مقيماً وظاعناً حيث سرتـا
إنما الأرض كلهـا لـك دار            فلك الله صاحب حيث كنتـا

قال: فخلع عليه، وخلي سبيله، وجعله في ندمائه.

وذكر عن عبد الله بن عمرو التميمي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الفارسي، قال: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه أبو الفضل بن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:

تذكر أمين الله والعهد يذكر

الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:

تحسنت الدنيا بحسـن خـلـيفةٍ             هو البدر إلا أنه الدهر مقمـر
إمام يسوس الناس سبعين حـجة         عليه له منها لبـاس ومـئزر
يشير إليه الجود من وجنـاتـه                 وينظر من أعطافه حين ينظر
أيا خير مأمولٍ يرجى، أنا امرؤ                 رهين أسير في سجونك مقفر
مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة            كأني قد أذنبت ما ليس يغفـر
فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبـي!              وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكثر

قال: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قال: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه. قال: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله: لا أذوق المدام إلا شميما وذكر عن مسعود بن عيسى العبدي، قال: أخبرني يحيى بن المسافر القرقسائي، قال: أخبرني دحيم غلام أبي نواس؛ أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به - وكان للفضل بن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم - ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قال: معاذ الله، قال: فلعلك ممن يعبد الكبش! قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن بعبد الشمس؟ قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضاً لها، قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها بريء، قال: ليس إلا هذا؟ قال: والله لقد صدقتك. قال: فجاء إلى الفضل، فقال له: يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قال: نعم، قيل له: فبعهد الله! قال: نعم، قال: فاخرج ، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله إلى شربها، وأنشأ يقول:

أيها الرائحان باللـوم لـومـا             لا أذوق المدام إلا شـمـمـا
نالني بالـمـلام فـيهـا إمـام            لا أرى في خلافه مستقـيمـا
فاصرفاها إلى سواي فـإنـي           لست إلا على الحديث نديمـا
إن حظي منها إذا هـي دارت          أن أراها وأن أشم النسـيمـا
فكأني وما أحسـن مـنـهـا              قعدي يزين الـتـحـكـيمـا
كل عن حملة السلاح إلى الحر       ب فأوصى المطبق ألا يقيمـا

وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قال: كنت عند الفضل بن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:

ألا سقني خمراً وقل لي هي الخمر          ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهـر

قال: فبلغت القصة محمداً، فأمر الفضل بن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه.

وذكر كامل بن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قال: كان أبو نواس قال أبياتاً بلغت الأمين في آخرها:

وقد زادني تيهاً على الـنـاس أنـنـي          أراني أغناهم إذا كـنـت ذا عـسـر
ولو لم أنل فخراً لكانـت صـيانـتـي              فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر
ولا يطمعن في ذاك مـنـي طـامـع             ولا صاحب التاج المحجب في القصر

قال: فبعث إليه الأمين - وعنده سليمان بن أبي جعفر - فلما دخل عليه، قال: يا عاض بظر أمه العاهرة! يابن اللخناء - وشتمه أقبح الشتم - أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول: ولا صاحب التاج المحجب في القصر أما والله لا نلت مني شيئاً أبداً. فقال له سليمان بن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟ فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:

يا رب إن القوم قد ظلمـونـي             وبلا اقتراف تعطل حبسونـي
وإلى الجحود بما عرفت خلافه            مني إليه بكيدهم نسـبـونـي
ما كان إلا الجري في ميدانهـم            في كل جري والمخافة دينـي
لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي        منهم ولا يرضون حلف يميني
ولكان كوثر كان أولى محبسـاً              في دار منقصة ومنزل هـون
أما الأمين فلست أرجو دفعـه              عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

قال: وبلغت المأمون أبياته فقال: والله لئن لحقته لأغنيه غنى لا يؤمله، قال: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.
قال: ولما طال حبس أبي نواس، قال في حبسه - فيما ذكر - عن دعامة:

احمدوا الله جميعـاً            يا جميع المسلمينـا
ثم قولوا لا تمـلـوا             ربنا أبق الأمـينـا
صير الخصيان حتى           صير التعنين دينـا
فاقتدى الناس جميعاً       بأمير المؤمنـينـا

قال: وبلغت هذه الأبيات أيضاً المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.

وذكر يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمداً أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعى حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعراً ظريفاً أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قال: لم أرد أحداً سواك. فأتاه به، فقال: من أنت؟ قال: خادمك الحسن بن هانئ، وطليقك بالأمس، قال: لا ترع؛ إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عوداً على أنفك، وتمنعي أشهى لك. قال: فقال أبو نواس. حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:

فقدت طول اعتلالك          وما أرى في مطالك
لقد أردت جـفـائي            وقد أردت وصالـك
ما ذا أردت بـهـذا!              تمنعي أشهـى لـك

وأخذ بيد وصيفته فعزلها، ثم قال:

قد صحت الأيمان من حلفك       وصحت حتى مت من خلفك
بالله يا سني احنـثـي مـرة         ثم اكسري عوداً على أنفـك

ثم عزل الثانية، ثم قال:

فديتك ماذا الصـلـف         وشتمك أهل الشرف!
صلي عاشقاً مدنـفـاً       قد أعتب مما اقترف
ولا تذكري ما مضى          عفا الله عما سلـف

ثم عزل الثالثة، وقال:

وباعثاتٍ إلى من في الغلـس          أن ائتنا واحترس من العسس
حتى إذا نوم الـعـداة ولـم                أخش رقيباً ولا سنا قـبـس
ركبت مهري وقد طربت إلى             حورٍ حسان نواعم لـعـس
فجئت والصبح قد نهضت له              فبئس والله ما جرى فرسـي

فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قال:

لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل على الشط، بفرش أجود مما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي؛ لم يكن لأبيك فرش يباهي بك الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا؛ فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المرداج، وقال: مزقوه، قال: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقاً وفرقوه.

وذكر عن محمد بن الحسن. قال: حدثني أحمد بن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدي غنى محمد بن زبيدة:

هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى        وزرتك حتى قيل ليس له صبر

فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهباً.

وذكر عن علي بن محمد بن إسماعيل، عن مخارق، قال: إني لعند محمد بن زبيدة يوماً ماطراً، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي؛ لا والله ما رأيت أحسن منها. فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي؛ عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك. قال: يا غلام، فأجابه الخادم، قال: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها. قال: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخون لن مصلية، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، وفي وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قال: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، اعفني من الأكل، قال: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئاً، فلما وضعتها في فمي قال: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها؛ ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها إلى منزلي، ودعوت القصارين والوشائين، وجهدت جهدي أن تكون كما كانت فما عادت.

وذكر عن البحتري أبي عبادة عن عبيد الله بن أبي غسان، قال: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد؛ وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش؛ قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ؛ والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة البول، فقلت لخادم من خدمي الخاصة: ويلك! قد والله مت فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قال: لا شيء يا سيدي، فغضب. قال البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بن أبي غسان؛ لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعاً شديدأً. فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قال: قلت: إي والله يا سيدي ابتليت به، قال: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قال: فقلت: أنا كذا. قال: فتعجب ثم قال: علي ببطيخ؛ فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت. قال: خذوه وضعوا البطيخ بين يديه، قال: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قال: كل واحدة، قال: فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قال: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت؛ علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت وأنا أموت إن أكلت! قال: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي وأنا أصرخ وأضطرب؛ وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصبح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت؛ حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات؛ وأطعمني ثلاث بطيخات، قال: وحسنت والله حالي واشتد ظهري.

قال: وكان منصور بن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت أن محمداً سيعقبني بشر ندامة على ما خرج من يديه؛ فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال:

يابن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك؛ وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن أحببت أن تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود. قال: فإني أتفضل عليك. قال: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن أصنع شيئاً؛ أرمي عبيد الله إلى البركة وتضحك منه. قال: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا؛ ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قال: ما هو؟ قال: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه. فقال: طيب والله؛ ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت فألقيت على باب المتوضأ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك. ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه.
وذكر عب عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن أبيه - وكان حاجب المخلوع - قال: كنت قائماً على رأسه، فأتى بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلاً عجيباً، وكان يوماً يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه. قال: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر - خادم كان لأمه - فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالاً لا يقطعونه، ويكون حشوه شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه؛ فما مكث إلا يسيراً حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئاً.

وذكر عن علي بن محمد أن جابر بن مصعب حدثه، قال: حدثني مخارق، قال: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليلٍ إذ أتاني رسول محمد - وهو خليفة - فركض بي ركضاً، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعاً، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعاً من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدماً، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قال لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبراً ومقصراً عن السورناي، واتبعاه في لحنه قال: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد: هذي دنانير تنساني وأذكرها تتبع الزمار. قال: فوالله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحياناً نراه، وأحياناً يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.

وذكر الحسين بن فراس مولى بني هاشم، قال: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالاً عظيماً.

وذكر عن ابن الأعرابي، قال: كنت حاضر الفضل بن الربيع، وأتي بالحسن بن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين أنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:

أهلي أتيتكم من الـقـبـر       والناس محتبسون للحشـر
لولا أبو العباس ما نظـرت       عيني إلى ولـدٍ ولا وفـر
فالله ألبسني بـه نـعـمـاً         شغلت حسابتها يدي شكري
لقيتها من مفـهـمٍ فـهـمٍ          فمددتها بأنامـلٍ عـشـر

وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشى حدثه، قال: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟ قال: أردت أبا العباس الفضل بن الربيع، قال: فتبلغه رقعة أعطيكها؟ قال: نعم، قال: فأعطاه رقعة فيها:

ما من يدٍ في الناس واحدةٍ         إلا أبو العباس مولاهـا

نام الثقات على مضاجعهم            وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمننـي               من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتـدرٍ               وجبت له نقم فألغـاهـا

قال: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس.

وذكر عن محمد بن خلاد الشروي، قال: حدثني أبي قال: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله: ألا سقني خمراً وقل لي هي الخمر وقوله:  

اسقنيهـا يا ذفـافـه         مزة الطعم سلافـه
ذل عندي من قلاهـا       لرجاء أو مخـافـه
مثل ما ذلت وضاعت       بعد هارون الخلافه

ثم أنشد له:

فجـاء بـهـا زيتـيةً ذهـبــيةً   &nnbsp;   فلم نستطع دون السجود لها صبرا

قال: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق. فكتب في ذلك إلى الفضل بن الربيع:

أنـت يا بـن الـربـيع عـلـمـتـنـي الـخــي            ر وعـودتــنـــيه والـــخـــير عـــاده
فارعـوى بـاطـلــي وأقـــصـــر جـــه                   لي وأظـــهـــرت رهـــبةً وزهــــاده
لو تـرانـي شـبـهـت بـي الـحـسـن الـبـص        ري فـي حـال نـســكـــه وقـــتـــاده
بركوعٍ أزينه بسجودٍ واصفرارٍ مثل اصفرار الجراده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي                       فتـأمـل بـعــينـــك الـــســـجـــاده
لو رآهـا بـعــض الـــمـــرائين يومـــاً                    لاشـتـراهـا يعـدهـا لــلـــشـــهـــاده

خلافة المأمون عبد الله بن هارون

وفي هذه السنة وضعت الحرب - بين محمد وعبد الله بني هارون الرشيد - أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.

وفيها خرج الحسن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد - بزعمه - في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب؛ حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.

وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل؛ وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.

وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأموال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بن شبت، وولاه الموصل والجزيرة والشأم والمغرب.

وفيها قدم علي بن أبي سعيد العراق خليفةً للحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر علياً بتسليم الخراج إليه؛ حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.

وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.