المجلد الثامن - ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة

فمن ذلك قدوم الحسن بن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.

وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بن محمد بن أبي خالد. وفيها شخص أيضاً هرثمة إلى خراسان.

وفيها خرج أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم.

وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا، واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان.

ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بن إبراهيم بن طباطبا

اختلف في ذلك، فقال بعضهم: كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل؛ فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصراً حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه. فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار؛ فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.

وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بن إبراهيم بالكوفة، وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب وغيرهم.

ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب وفيها وجه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في أصحابه إلى الكوفة - وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بن أبي جعفر المنصور من قبل الحسن بن سهل، وكان خليفة سليمان بن أبي جعفر بها خالد بن محجل الضبي - فلما بلغ الخبر الحسن بن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل؛ فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه؛ فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء.

فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب - وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة - مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأةً؛ فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه؛ وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه؛ فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاماً أمرد حدثاً يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب؛ فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب؛ وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به. وكان الحسن بن سهل قد وجه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل؛ حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد، واستباح عسكره. وكان عبدوس - فيما ذكر - في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص"، ولما بلغ زهيراً قتل أبي السرايا عبدوساً وهو بالقصر، انحاز بمن كان معه إلى نهر الملك.

ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشاً إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بن سعيد الحرشي والياً عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريباً من واسط فهزموه، فانصرف راجعاً إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة. فلما رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكراً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها؛ ولم يجد معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة - وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق والياً عليها من قبل المأمون. سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضباً للحسن، فسار حتى بلغ حلوان - فبعث إليه السندي وصالحاً صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى. وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه؛ فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى بغداد، فقدمها في شعبان؛ فتهيأ للخروج إلى الكوفة. وأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك، وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان. وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما؛ وكان علي بن أبي سعيد معسكراً بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالاً شديداً. فلما كان الغد غدا أصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن. وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن؛ فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة؛ فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملاً قبيحاً، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها. وكان هرثمة - فيما ذكر - يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم؛ فلم يدع أحداً يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس.

وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والذي وجه إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها. وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم؛ والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم مكانك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قال له داود: أي ملك لي! والله أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت؛ إنما هذا الملك لك وأشباهك؛ فقاتل إن شئت أو دع. فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتاباً من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، فقال له: اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو؛ حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر. ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم؛ فخرج في إثر داود راجعاً إلى العراق، وبقي الناس بعرفة؛ فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بن محمد بن الوليد الردمي - وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام إذ لم تحضر الولاة - لقاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين؛ فإنك قاضي البلد. قال: فلمن أخطب وقد هرب الإمام؛ وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قال: لا تدع لأحد، قال له محمد: بل أنت تقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى؛ حتى قدموا رجلاً من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعاً بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضاً من عرض الناس وحسين بن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق. فدخل حسين بن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه.

وأقام بمنى أيام الحج، فلم يزل مقيماً حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بن سليمان بن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضاً، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام.

وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج - وقد نزل قرية شاهي - واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء الكوفة، وقد كان علي بن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة.