ثم دخلت سنة مائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن هرب أبي السرايا وما آل إليه أمره فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها.
ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى أتى القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفي صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلاً منهم يقال له غسان بن أبي الفرج أبو إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بن محمد وأبو السرايا.
ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي؛ فوجد بها مالاً كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة أيام، وجعل يعطي الفارس ألفاً والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني. فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديدة، فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين؛ فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم الحسن بن سهل، وكان مقيماً بالنهروان حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول. وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بن محمد بن أبي خالد، وكان أسيراً في أيدي أبي السرايا. وذكروا أنه لم يروا أحداً عند القتل أشد جزعاً من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح؛ حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح؛ حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر.
وكان علي بن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها. والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بنعلي بن حسين بن علي بن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد نار - وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم؛ وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار - وانتهبوا بالبصرة أموالاً، فأخذه علي بن أبي سعيد أسيراً. وقيل إنه طلب الأمان فآمنه. وبعث علي بن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بن يزيد الجلودي وورقاء بن جميل وحمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان وهارون بن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين. وقال التيمي في قتل الحسن بن سهل أبا السرايا: أ
لم تر ضربة الحسن بن سهلٍ
بسيفك يا أمير المؤمـنـينـا
أدارت مرو رأس أبي السرايا
وأبقت عبرةً للـعـابـرينـا
وبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد حين قتل أبو السرايا إلى المأمون بخراسان.
ذكر الخبر عن خروج إبراهيم بن موسى باليمن
وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب باليمن.
ذكر الخبر عنه وعن أمره
وكان إبراهيم بن موسى - فيما ذكر - وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر. وبلغ إبراهيم بن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فلما سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفاً عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة؛ حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بن موسى بن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بن موسى معسكراً بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفياً يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره. وكان يقال إبراهيم بن موسى: الجزار؛ لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال.
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة
وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس الحسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوته شيئاً، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام،وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم أمر حسين بن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم عليه في داره؛ فإن وجد من ذلك شيئاً أخذه وعاقب الرجل؛ وإن لم يجد عنده شيئاً حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقاً كثيراً.
وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلاً من أهل الكوفة يقال له محمد بن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين؛ فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس؛ حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المساجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس. فلما رأى حسين بن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، واجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - وكان شيخاً وداعاً محبباً في الناس، مفارقاً لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتاً وزهداً - فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة؛ فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر و حسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعاً وكرهاً، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهراً، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلاً، فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش من بني فهر - وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها جمال بارع - فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وأمر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلاً جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة. ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاضٍ بمكة يقال له إسحاق بن محمد، وكان جميلاً بارعاً في الجمال - فاقتحم عليه بنفسه نهاراً جهاراً في داره على الصفا مشرفاً على المسعى؛ حتى حمله على فرسه في السرج. وركب علي بن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون - وكان ينزل في دار داود بن عيسى في طريق منى - فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة؛ حتى أتوا محمد بن جعفر بن محمد ، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة. فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه. فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم إني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه. فلما رأى ذلك محمد قال لأهل مكة: آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه. فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله. قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي مقبلاً من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بن جعفر بن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بن موسى مقبلاً إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقاً بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك. وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أياماً. ثم إن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجلودي، فقالوا: ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال. فرجع معهم حتى أتوا مكة فنزلوا المشاش. واجتمع إلى محمد بن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بن موسى وورقاء بن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات. ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم، بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه؛ فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالاً من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان؛ حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام،فلما كان اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية؛ فأما محمد بن جعفر فأخذ ناحية جدة، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بن حكيم بن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذاباً شديداً؛ وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعه ذلك قميصاً وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيماً هناك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك بجمع الجموع. وقد وقع بينه وبين هارون بن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما رأى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بن جعفر، وفقئت عينه بنشابه، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده. فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بن يزيد الجلودي ورجاء بن أبي الضحاك ابن عم الفضل بن سهل بالمنبر؛ فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء؛ وليس عليه سيف ليخلع نفسه. ثم قام محمد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علب بن أبي طالب؛ فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعاً غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين. ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا. وكان نمي إلي خبر؛ أن وعبد الله المأمون أمير المؤمنين قد توفي؛ فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني - أو من فعل منكم - ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي. ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها؛ كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابكم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون وعبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين؛ والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون.
ثم نزل. فخرج به عيسى بن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بن جعفر حتى سلمه إلى الحسن بن سهل، فبعث به الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بن أبي الضحاك.
وفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة.
ذكر الخبر عن أمر إبراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره ذكر أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلاً من ولد عقيل بن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود ما لا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي - وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، وأخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد. فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى أصبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئاً كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال: اعزبوا يا كلاب النار؛ فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال. وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعاً وعرياً.
وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع علي يده في يد الحسن أو شخص إلي بمرو وإلا فاضرب عنقه. فشخص إلى المأمون مع هرثمة بن أعين. وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو.
ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره ذلك ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول؛ فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بن سهل بالمدائن؛ فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى أتى إلى خراسان؛ وقد أتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشأم والحجاز، فأبى وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين،؛ إدلالاً منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل بما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب؛ أن يرجع فيلي الشأم والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصياً مشاقاً، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه.
وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان
حتى كان ذو القعدة؛ فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول
لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد
ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول. فأمر بإدخاله، فلما أدخل - وقد أشرب
قلبه ما أشرب - قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست
إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل؛ وكان رجلاً من أصحابك؛ ولو أردت أن
تأخذهم جميعاً لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم. فذهب هرثمة
ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ
على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه. وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان
بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أياماً ثم دسوا إليه فقتلوه
وقالوا له: إنه مات ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد وفي هذه السنة هاج
الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان
ذكر أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، فلم يزل مقيماً بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام - وهو والي بغداد، من قبله: أن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم. وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا برضى حتى نطرد الحسن بن سهل عن بغداد؛ وكان من عماله بها محمد بن أبي خالد وأسد بن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد؛ فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزراً؛ فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل.
وجاء زهير بن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بن سهل بن علي بن هشام، فجاء من الجانب الآخر؛ حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوادهم ليلاً؛ حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بن هشام دار العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمانٍ خلون من شعبان؛ وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيراً وعلي بن هشام، شدوا على باب الكرخ فأحرقوه، وأنهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء.
ثم إنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهماً لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم؛ حتى خرج زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار؛ كان أفلت من الحبس عند علي بن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولو يف لهم بإعطاء الخمسين؛ إلى أن جاء الأضحى؛ وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه.
وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد
بن أبي خالد؛ وذلك أن علي بن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين
محمد بن أبي خالد وبين زهير بن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط. فغضب محمد
من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه
الناس فلم يقو بهم علي بن هشام حتى أخرجوه من بغداد؛ ثم اتبعهم حتى هزمهم
من نهر صرصر.
وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بن
موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن جعفر.
وأحصي في هذه السنة ولد العباس؛ فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكرٍ
وأنثى.
وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون،
فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجس
ثانية.
وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل؛ وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال
له: يا أمير الكافرين؛ فقتل بين يديه.
وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.