المجلد الثامن - ثم دخلت سنة ست ومائتين: ذكر ما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ست ومائتين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك من تولية المأمون داود بن ماسجور محاربة الزط وأعمال بصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين.

وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها.

وفيها نكب بابك بعيسى بن محمد بن أبي خالد.

ولاية عبد الله بن طاهر على الرقة

وفيها ولى المأمون عبد الله بن طاهر الرقة لحرب نصر بن شبث ومضر.

ذكر الخبر عن سبب توليته إياه: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن يحيى بن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: سنة ست. وقال بعض: سنة سبع. فلما دخل عليه، قال: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى بن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين.

فال: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء مكتوباً عليه بصفرة ما يكتب على الألوية؛ وزاد فيه المأمون: "يا منصور"، وخرج معه الناس فصار إلى منزله؛ ولما كان من غد ركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع؛ فأقام عنده إلى الليل؛ فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك إلي ألا أقطع أمراً دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك؛ فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل.

فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الإفطار ها هنا. قال: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث إلى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له: إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قال: ففي حفظ الله؛ وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره.
وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر؛ لقتال نصر بن شبث بعد خروج أبيه إلى خراسان، بستة أشهر.

وصية طاهر إلى ابنه عبد الله

وكان طاهر حين ولى ابنه ديار ربيعة، كتب إليه كتاباً نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم" عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه؛ وموقوف عليه، ومسئول عنه؛ والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه؛ فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلنك عنه ذاهل، ولا يشغلنك عنه شاغل؛ فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله به لرشدك.

وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك؛ المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها؛ في إسباغ وضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها. وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك ونيتك. واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده؛ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل في كتابه؛ من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد. وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به؛ فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله؛ فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالاً له، ودركاً للدرجات العلا في المعاد؛ مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك.

وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها؛ فليس شيء أبين نفعاً، ولا أحضر أمناً، ولا أجمع فضلاً من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة. وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للإستكثار من البر والسعي له؛ إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته.

واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به، تتم أمورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.

وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل تكسف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزاً، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها؛ بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك؛ فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة.

وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن. ومأخوذ بما أساء؛ فإن الله جعل الدين حرزاً وعزاً، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الحرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه.ولا تعطل ذلك ولا تهاون به. ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك.

واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهداً ففي به، وإذا وعدت بالخير فأنجزه؛ واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كلذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله،وأقص أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر.

وأحب أهل الصدق والفلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم،وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة. واجتنب سوء الأهوار والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك؛ وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله. وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلص لله النية فيه واليقين به ؛واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله.ودع عنك شره نفسك. ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح العية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، ولإغاثة لملهوفهم.

واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر؛ وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت الولاة ، وطاب به الزمان، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم؛ فإنك إذا فعلت ذلك قررت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفساً لكل ما أردت.

فأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه؛ فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه. وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك؛ فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب؛ فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله؛ فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين؛ وقض الحق فيما حمل من النعم، والبس من العافية والكرامة. ولا تحقرن ذنباً، ولا تمايلن حاسداً، ولا ترحمن فاجراً، ولا تصلن كفوراً، ولا تداهنن عدواً، ولا تصدقن نماماً، ولا تأمنن غداراً؛ ولا توالين فاسقاً، ولا تتبعن غاوياً، ولا تحمدن مرائياً، ولا تحقرن إنساناً، ولا تردن سائلاً فقيراً، ولا تجيبن باطلاً، ولا تلاحظن مضحكاً، ولا تخلفن وعداً، ولا ترهبن فجراً، ولا تعملن غضباً، ولا تأتين بذخاً، ولا تمشين مرحاً، ولا تركبن سفهاً، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عياناً، ولا تغمضن عن الظالم رهبةً أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ من أهل التجارب وذوي العقول والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولاً؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم. وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ، قليل العطية؛ وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلاً؛ فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي؛ وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"؛ فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظاً ونصيباً، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقاً، وارض به عملاً ومذهباً.

وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمةً في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته؛ فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً.

واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء.

واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وأبعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقتك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وابلغ في الحاجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم - فإن الدماء من الله بمكان عظيم - انتهاكاً لها بغير حقها.

وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعةً، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتاً وغيظاً، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلاً وصغاراً، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئاً عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد لخاصتك. ولا تأخذن منه فوق منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمراً فيه شطط. واحمل الناس كلهم على مر الحق؛ فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم؛ تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم؛ فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي التدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق؛ فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف؛ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في أعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل القوة، وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئاً تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.

واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم؛ حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله. وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك؛ فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه؛ وإلا فتوقف عنه. وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته؛ فإنه ربما نظر الرجل في أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره.

فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك؛ وأكثر مباشرته بنفسك؛ فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه؛ فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.

وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك؛ فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم؛ حتى لا يجدوا لخلتهم مساً. وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك. والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه؛ فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. واجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقواماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة؛ وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل؛ كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله ، ويلتمس رحمته به. وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك؛ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله.

واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة؛ ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه؛ واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله. واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها. ولا تجمع حراماً، ولا تنفق إسرافاً، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم. وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها؛ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك؛ فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامراته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له؛ فما كان موافقاً للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه.

ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا في ذلك.

وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله؛ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضاً ولدينه نظاماً، ولأهله عزاً وتمكيناً؛ وللذمة والملة عدلاً وصلاحاً.

وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك؛ حتى يجعلك أفضل مثالك نصيباً، وأسناهم ذكراً، وأمراً، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.

وذكر أن طاهراً لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره؛ حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقى أبو الطيب شيئاً من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم؛ وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.

وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه.

وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه من الشرط وأعمال بغداد؛ وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بن شبث.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن؛ وهو والي الحرمين.