المجلد الثامن - ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

أمر عبيد الله بن السري فمن ذلك خروج عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بن طاهر مصر - وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين - وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بن طاهر بمصر والياً عليها وعلى سائر الشأم والجزيرة؛ فذكر عن طاهر بن خالد بن نزار الغسائي، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له:

أخي أنت ومولاي             ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمرٍ            فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء           فإني لست أرضاه
لك الله علـى ذاك              لك الله لك الـلـه

وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بن طاهر، قال: قال رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله. قال: فدفع ذلك المأمون وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلاً ثم قال له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعةً من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثاً شافياً، وائتني بما تسمع منه. قال: ففعل الرجل ما قال له، وأمره به؛ حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، فقعد يوما بباب عبد الله بن طاهر، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده؛ فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له:قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قال: لك ذلك، قال: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم، قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال: نعم، قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك؛ وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة لرجلٍ أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويداً لائحة بيضاء ابتداني بها تفضلاً وكرماً، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخراً، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عياناً من حيث أعلم؛ أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك؛ فارحل عن هذا البلد؛ فإن السلطان لأعظم إن بلغه أمرك - وما آمن ذلك عليك - كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحدٍ شيئاً، ولا علم به عبد الله إلابعد موت المأمون.

وذكر عن عبد الله بن طاهر أنه قال وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السري:

بكرت تسبل دمـعـاً           أن رأت وشك براحي
وتبـدلـت صـقـيلاً              يمنـياً بـوشـاحـي
وتـمـاديت بـسـيرٍ             لغــــدوٍ ورواح
زعمت جهلاً بـأنـي           تعب غـير مـراح
أقصري عني فـإنـي           سالك قصدي فلاحي
أنا للمأمـون عـبـد             منه في ظل جناحـي
إن يعاف اللـه يومـاً             فقريب مستـراحـي
أو يكن هلك فقولـي           بعـويل وصــياح:
حل في مصر قتـيل            ودعي عنك التلاحي

وذكر عن عبد الله بن أحمد بن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بن طاهر عند خروج عبيد الله بن السري إليه يهنئه بذلك الفتح:

بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك؛ فالحمد لله الناصر لدينه المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك؛ فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جندٍ ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك؛ ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلاً على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظاً وكفاية وسلطاناً وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه. ثم لا نعلم سائساً استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك. وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحداً يهوى عند الحاقة والنازلة والمعضلة فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك؛ من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه.

وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرماً مقدماً معظماً؛ وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة؛ فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم؛ وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه؛ فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللاً وتواضعاً؛ فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك، وأودع فيك. والسلام.

وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين مدينة السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشأم كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر.

ومات موسى بن حفص، فولى محمد بن موسى طبرستان مكان أبيه.

وولى حاجب بن صالح الهند فهزمه بشر بن داود، فانحاز إلى كرمان.

وفيها أمر المأمون منادياً فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس وهو والي مكة.

وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.