المجلد الثامن - ذكر الخبر عن وفاة المأمون

ذكر الخبر عن وفاة المأمون

وفي هذه السنة توفي المأمون.

ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قال: أرسل المأمون وهو ببلاد الروم - وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة - فحملت إليه وهو في البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه؛ فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه؛ فهل رأيت ماء قط أشد برداً، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ؛ فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على إعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الألطاف رطب؟ فانظره فإن كان آزاذ فأت به؛ فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة؛ فأظهر شكراً لله تعالى؛ وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعاً من ذلك الماء؛ فما قام منا أحد إلا وهو محموم؛ فكانت منية المأمون من تلك العلة؛ ولم يزل المعتصم عليلاً حتى دخل العراق، ولم أزل عليلاً حتى كان قريباً.

ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر أبي إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياماً، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.

وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره؛ وأشهدهم جميعاً على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في مكة، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئاً له مثل؛ ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وأن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء النار، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته؛ حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وأني مقر مذنب، أرجو وأخاف؛ إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني؛ ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد؛ إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي؛ فإذا أنتم وضعتموني للصلاة؛ فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسباً، وأكبركم سناً، فليكبر خمساً، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعاً، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابةً، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا للحد باللبن، واحثوا تراباً علي، واخرجوا عني وخلوني وعملي؛ فكلكم لا يغني عني شيئاً، ولا يدفع عني مكروهاً، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيراً إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شرٍ إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب. رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء. ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة؛ هل أغنى ذلك عني شيئاً إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشراً، بل ليته لم يكن خلقاً! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه؛ ولا تغتر بالله ومهلته؛ فكأن قد نزل بك الموت. ولا تغفل أمر الرعية. الرعية الرعية! العوام العوام! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء،وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت. والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة؛ فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه. واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة؛ فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن.

ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته؛ إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قال: اللهم نعم، قال: فانظر من كنت تسمعني أقدامه على لساني فأضعف له التقدمة؛ عبد الله بن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك. وإسحاق بن إبراهيم فأشركه في ذلك؛ فإنه أهل له. وأهل بيتك، فقد علمت أنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه. عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه. وأبو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك؛ فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيراً تلقي إليه شيئاً؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قالياً له غير راضٍ بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيراً! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى. اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها. أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفاراً، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة! ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مدة خلافته قال أبو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم: توفي يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين.

وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه أبو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرساً من أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجلٍ منهم تسعون درهماً.

وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة وأخوه الأمين محمد بن الرشيد محصور ببغداد.

وكان يكنى - فيما ذكر ابن الكلبي - أبا العباس.

وكان ربعة أبيض جميلاً، طويل اللحية، وقد وخطه الشيب. وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.

واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم.

ذكر بعض أخبار المأمون وسيره ذكر عن محمد بن الهيثم بن عدي، أن إبراهيم بن عيسى بن بريهة بن المنصور، قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاماً، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! إن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيراً عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها. وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله أني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفة ما أوجب الله من حقه؛ فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل. فقال لي مبتدئاً من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحداً من أهل بيتك بدأ بك؛ وكنت المقدم عنده في ذلك؛ ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه؛ وإن ترك ذلك فمن غير قلاً لمكانك؛ ولكن بالحاجة إليك. قال: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي.

وذكر عن محمد بن علي بن صالح السرخسي، قال: تعرض رجل للمأمون بالشأم مراراً، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشأم كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشأم؛ والله ما أنزلت قيساً عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارياً، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم، قال: فأريته، قال: فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قال: فقال: ما أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال للواثق: خذ فضعه على عينيك؛ لعل الله يشفيك. قال: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي.

وذكر عن العيثي صاحب إسحاق بن إبراهيم، أنه قال: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه. قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال، قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه؛ وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أبا عره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها. قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذاً للئام. ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لأل فلان بألف ألف،ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها. قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا. قال العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينيه. فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال. فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف ألف؛ لا يختلس ناظري. قال: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.

وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان؛ أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعراً ظريفاً خبيثاً منكراً؛ وكنت أنا والي البصرة، آنس به وأستحليه؛ فأردت أن أخدعه وأستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف؛ فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيباً فارهاً ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته؛ فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير ما إخالك أبعدت؛ فأعد لي ما ذكرت. قال: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه؛ قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى! فدعوت له بثلثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك؛ قال: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا هي كافية، وإن قصرت عن السرف. قال: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفاً حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة، فأنشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي - وكان مارداً - فقلت له: ما صنعت شيئاً. قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعاً، ولمثلها ضرب هذا المثل: " من ينك العير ينك نياكاً"؛ أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل؛ ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا. قلت: قد صدقت، فقال: أما إذا أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت؛ ثم ودعني وخرج فأتى الشام؛ وإذا المأمون بسلغوس. قال: بينا أنا في غزاةٍ قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر؛ فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه. قال: فتلقاني مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم - بكلام جهوري ولسان بسيط - فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك والأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعاً، ولا أمد يفاعاً منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول: أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيداً والكلام عذباً وأضع عنك العناء، وطول الترداد؛ ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامحٍ ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قال: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضاً وعارضني نزق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قال: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته:

مأمون يا ذا المنن الشريفـه         وصاحب المرتبة المنـيفـه
وقائد الكـتـيبة الـكـثـيفة               هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفـه            لا والذي أنت له خـلـيفـه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه            أميرنا مؤنتـه خـفـيفـه
وما اجتبى شيئاً سوى الوظيفه     فالذئب والنعجة في سقيفـه
واللص والتاجر في قطيفه

قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟ قال: أي لعمرالله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قال: هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك؛ ومضى فكان آخر العهد به.

وقال أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ        مون شيئاً أو ملكه المأسـوس
خلفوه بعرصتي طـرسـوس             مثل ما خلفوا أبـاه بـطـوس

وقال علي بن عبيدة الريحاني:

ما أقل الدمـوع لـلـمـأمـون لست أرضى إلا دماً من جفوني

وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي أن علي بن صالح حدثه، قال: قال لي المأمون يوماً: أبغني رجلاً من أهل الشام، له أدب يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له: إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتهم يا أهل الشأم، فقال: ما كنت متجاوزاً ما أمرتني به. فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه - وكان المأمون على شغله من الشراب - فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي، فقال الشأمي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قال: فأمر المأمون أن يخلع عليه؛ قال: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قال: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قال: يا أمير المؤمنين؛ إن قلبي إذا كان متعلقاً بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قال: خمسون ألفاً تحمل إلى منزله، ثمقال: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قال: وما هي؟ قال: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله؛ فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قال: وذاك! قال علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي.

وذكر أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي        أتاك به الواشون عني كما قالوا
ولكنهـم لـمـا رأوك سـريعةً                  إلي، تواصوا بالنميمة واحتالـوا

فقال: يا علويه، لمن هذا اشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاض ويحك! قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيحضر الساعة. قال: فأحضر شيخ مخضوب وقصير؛ فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله. فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحق اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام. ثم قال: اسقوه؛ فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قال: فلعلك تريد غيره! قال: لم أذق منه شيئاً قط، قال: فحام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أولى لك! بها نجوت، اخرج. ثم قال: يا علويه، لا تقل: " برئت من الإسلام"، ولكن قل:

حرمت مناي منك إن كان ذا الذي       أتاك به الواشون عني كما قالوا

قال: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أميه، فوضع منهم وتنقصهم؛ فأقبل علويه على العود، واندفع يغني:

أولئك قومي بعد عز وثـروةٍ          تفانوا فإلا أذرف العين أكمدا

فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام؛ وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يوماً، ثم رضي عنه.

قال: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشأم ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك.

وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدةً فيها مديح له، هي مائة بيت؛ فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين؛ ما سمعها مني أحد قط، قال: هكذا ينبغي أن يكون؛ ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن العباس قصيدته التي يقول فيها: تشط غداً دار جيراننا فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر عن أبي مروان كازر بن هارون، أنه قال: قال المأمون:

بعثتك مرتاداً ففـزت بـنـظـرةٍ                وأغفلتني حتى أسأت بك الظـنـا
فناجيت من أهوى وكنت مبـاعـداً        فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى!
أرى أثراً منـه بـعـينـك بـينـاً                 لقد أخذت عيناك من عينه حسـنـا

قال أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن أحنف، فإنه اخترع:

إن تشق عيني بها فقد سعـدت           عين رسولي، وفزت بالخبـر
وكلما جاءني الرسـول لـهـا                  رددت عمداً في طرفه نظري
تظهر في وجهه محاسـنـهـا                  قد أثرت فيه أحـسـن الأثـر
خذ مقلتي يا رسـول عـاريةً                 فانظر بها واحتكم على بصري

قال أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوماً، فصرت إليه، فألفيته مطرقاً مفكراً، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال؛ فرفع رأسه؛ فنظر إلي وأشار بيده؛ أن ادن، فدنوت ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق؛ شأن النفس الملل وحب الاستطراف؛ تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: وما هو؟ قلت:

لا يصلح النفس إذ كانت مقسمةً      إلا التنقل من حالٍ إلى حـال

وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض؛ فاذكرني له، فقال: 

أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق؛ فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثواباً بمديحه؛ وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى؛ فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه،وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه. فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل. قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:

إنما الدنيا أبـو دلـفٍ          بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولي أبـو دلـفٍ           ولت الدنيا على أثره

وإلى قولي فيك:

لولا حميد لـم يكـن       حسب يعد ولا نسب
يا واحد العرب الذي       عزت بعزته العرب

قال: فأطرق حميد ساعة، ثم قال: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين. وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أنحدثتك يا أبا نزار بهذا.

قال أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف:

تحدر ماء الجود من صلب آدمٍ        فأثبته الرحمن في صلب قاسم

وذكر عن سليمان بن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، فقال: هجا دعبل المأمون، فقال:

ويسومني المأمون خطة عارفٍ            أو ما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثل ما          يوف الجبال على رءوس القردد
ويحل في أكناف كل مـمـنـعٍ                 حتى يذلل شاهقاً لـم يصـعـد
إن التراث مسهـد طـلابـهـا                   فاكفف لعابك عن لعاب الأسود

فقيل للمأمون: إن دعبلاً هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني. يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيراً ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول:

وكأنه من دير هزقل مفلت         حرد يجر سلاسل الأقـياد

وكان المأمون يقول لإبراهيم بن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول:

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها           فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ          ولتصلحن من بعده للمـارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن          لينال ذلك فاسق عن فاسق!

وذكر محمد بن الهيثم الطائي أن أبا القاسم بن محمد الطيفوري حدثه، قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، وديناً لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني. قال: فرم لنفسك أمراً تنال به نفعاً فقال: لك منادمون فيهم من إن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قال: فإذا حضروا وحضرت فمر فلاناً الخادم أن يوصل إليك رقعتي؛ فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر؛ ولكن اختر لنفسك من أحببت. قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها:

يا خير إخواني وأصحـابـي          هذا الطفيلي لدى الـبـاب
خبر ان الـقـوم فـي لـذةٍ             يصبـو إلـيهـا كـل أواب
فصيروني واحداً مـنـكـم             أو أخرجوا لي بعض أترابي

قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال. فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختياراً غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: لقد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك طفيلي! قال:

ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قال: فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف. قال: فقال له المأمون: فعجلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولاً، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة.

وذكر عن محمد بن عبد الله صاحب المراكب قال: أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد، قال: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قال: أنشدهما، قال: فأنشده صالح:

حمدنا الله شكراً إذ حبـانـا       بنصرك يا أمير المؤمنينـا
فأنت خليفة الرحمن حـقـاً      جمعت سماحةً وجمعت دينا

فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بن الضحاك، قال: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قال: وماهو؟ فأنشدته:

أيبخل فرد الحسن فرد صفاته       علي، وقد أفردته بهوىً فرد!
رأى الله عبد الله خير عبـاده         فملكه والله أعلم بالـعـبـد

وذكر عن عمارة بن عقيل، أنه قال: قال لي عبد الله بن أبي السمط: علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قال: قلت: ومن ذا يكون أعلم منه! فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتاً أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قال: قلت: وما الذي أنشدته؟ قال: أنشدته:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً        بالدين والناس بالدنيا مـشـاغـيل

قال: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئاً، وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبـه       ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.

وذكر عن محمد بن إبراهيم السياري قال: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي - وكان شيخاً جليلاً - فسلم عليه، فرد السلام، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، فأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك. فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قال: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بن إبراهيم، ثم قال: نعم، يا غلام ألف دينار؛ فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي بشيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجباً، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إيذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قال: نعم، سله، قال: ياشيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قال: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قال: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين؛ فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك؛ ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره في العراق؛ ويعرف بابن الموصلي! قال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: وأما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين؛ فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.

وذكر عن محمد بن عبد الله بن جشم الربعي أن عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يوماً وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قال: كيف قلت:

قالت مفداة لـمـا أن رأت أرقـي             والهم يعتادني من طيفـه لـمـم
نهبت مالك فـي الأدنـين آصـرةً            وفي الأباعد حتى حفـك الـعـدم
فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسنٍ   تسدي إليهم فقد باتت لهـم صـرم
فقلت عذلك قد أكثـرت لائمـتـي          ولم يمت حاتـم هـزلاً ولا هـرم

فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.
وذكر عن محمد بن زكرياء بن ميمون الفرغاني، قال: قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي؛ ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح:

يجود بالنفس إذ ضن الجواد بهـا          والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأنشده في الهجاء:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم          حسنت مناظرهم لقبح المخبر

وأنشده في المراثي:

أرادوا ليخفوا قبره عـن عـدوه         فطيب تراب القبر دل على القبر

وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان بن القاسم الكاتب، قال: أخبرني الحسين بن الضحاك، قال: قال لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون؛ فإنه دعا بنا؛ فلما أخذ فيه النبيذ؛ قال: غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتاً لابن سريج في شعر جرير:

لما تذكرت بالـديرين أرقـنـي          صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد المسير بـنـا    يا بعد يبرين من باب الفراديس!

قال: فحين لي أن غنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر:

الحين ساق إلى دمشق وما           كانت دمشق لأهلها بلـدا
فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله. ثم قال: يا غلام، أعط مخارقاً ثلاثة آلاف درهم؛ وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق أبداً، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.

خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد

وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بالخلافة؛ وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعة العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك.

ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي؛ وسلمت الخلافة إليه؛ فسكن الجند.

وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقد على حمله؛ وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم.

وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها - فيما ذكر يوم السبت مستهل شهر رمضان.

وفيها دخل - فيما ذكر - جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان؛ فوجه المعتصم إليهم عساكر؛ فكان آخر عسكر وجه إليهم عسكر وجهه مع إسحاق بن إبراهيم بم مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفاً، وهرب باقيهم إلى بلاد الروم.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعة، وأهل بغداد يوم السبت.