المجلد التاسع - ثم دخلت سنة عشرين ومائتين: ذكر ما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة عشرين ومائتين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

ذكر ظفر عجيف بالزط فمن ذلك ما كان من دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم حتى طلبوا منه الأمان فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين على أنهم آمنون على دمائهم وأموالهم؛ وكانت عدتهم - فيما ذكر - سبعة وعشرين ألفاً؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفاً؛ وأحصاهم عجيف سبعة وعشين ألف إنسان؛ بين رجل وامرأة وصبي، ثم جعلهم في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية، فأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، وأقام بها يوماً، ثم عبأهم في زوايقهم على هيئتهم في الحرب؛ معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين والمعتصم بالشماسية في سفينة يقال لها الزّو، حتى مّر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات؛ فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقاموا في سفنهم ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي؛ فدفعوا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الرّوم؛ فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد، فقال شاعرهم:

يا أهل بغداد موتوا دام غـيظـكـم           شوقاً إلى تمر برنـي وشـهـريز
نحن الذين ضربناكـم مـجـاهـرةً              قسراً وسقناكم سوق المـعـاجـيز
لم تشكروا الله نعماه التي سلـفـت       ولم تحـوطـوا أياديه بـتـعـزيز
فاستنصروا العبد من أبناء دولتـكـم         من يا زمان ومن بلج ومـن تـوز
ومن شناس وأفشـين ومـن فـرجٍ           المعـلـمـين بـديبـاجٍ وإبـريز
واللابسي كميخار الصين قد خرطت        أردانه درز بـرواز الـدخـاريز
والحاملين الشكى نيطت علائقـهـا          إلى مناطق خاصٍ غير مخـرور
يفرى ببيضٍ من الهندي هـامـهـم            بنو بهـلة فـي أبـنـاء فـيروز
فوارسٌ خـيلـهـا دهـم مـودعةٌ                 على الخراطيم منها والـفـراريز
مسخرات لها في المـاء أجـنـحةٌ             كالآبنوس إذا استحضرن والشـيز
متى تروموا لنا في غمر لجـتـنـا             حذراً نصيدكم صيد المـعـافـيز
أو اختطافاً وإزهاقاً كما اختطفـت            طير الدّحال حثاثاً بالـمـنـاقـير
ليس الجلاد جلاد الزط فاعتـرفـوا            أكل الثريد ولا شرب الـقـواقـيز
نحن الذين سقينا الحـرب درتـهـا           ونقنقنا مـقـاسـاة الـكـوالـيز
لنسفعـنـكـم سـفـعـاً يذل لـه               رب السّرير ويشجى صاحب التّيز
فابكوا على التمر أبكى الله أعينكـم       في كل أضحى، وفي فطر ونيروز

ذكر خبر مسير الأفشين لحرب بابك وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين خيذر بن كاوس على الجبال، ووجه به لحرب بابك؛ وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة؛ فعسكر بمصلى بغداد، ثم صار إلى برزند.

ذكر الخبر عن أمر بابك ومخرجه

ذكر ان ظهور بابك كان في سنة إحدى ومائتين، وكانت قريته ومدينته البذّ؛ وهزم من جيوش السلطان، وقتل من قواده جماعة؛ فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل؛ فتوجه أبو سعيد لذلك، وبنى الحصون التي خربها بابك، ووجه بابك سرية له في بعض غاراته، وصيّر أميرهم رجلاً يقال له معاوية؛ فخرج فأغار على بعض النواحي، ورجع منصرفاً؛ فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس وخرج إليه يعترض في بعض الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنفذ ما كان حواه؛ فهذه أول هزيمة كانت على أصحاب بابك. ووجه أبو سعيد الرءوس والأسرى إلى المعتصم بالله.

ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث؛ وذلك أن محمد بن البعيث كان في قلعة له حصينة تسمى شاهي؛ كان ابن البعيث أخذها من الوجناء بن الرّواد، عرضها نحو من فرسخين، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر في بلاد أذربيجان يسمى تبريز، وشاهى أمنعهما؛ وكان ابن البعيث مصالحاً لبابك، إذا توجهت سراياه نزلت به. فأضافهم، وأحسن إليهم حتى أنسوا به، وصارت لهم عادة. ثم إنّ بابك وجه رجلاً من أصحابه يقال له عصمة من أصبهبذته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل إليه ابن البعيث على العادة الجارية الغنم والأنزال وغير ذلك، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغذّاهم وسقاهم حتى أسكرهم، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمي رجلاً رجلاً من أصحابه باسمه؛ فكان يدعي بالرجل باسمه فيصعد، ثم يأمر به فيضرب عنقه؛ حتى علموا بذلك؛ فهربوا. ووجّه ابن البعيث بعصمة إلى المعتصم - وكان البعيث أبو محمد صعلوكاً من صعاليك ابن الرّواد - فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها؛ ثم لم يزل عصمة محبوساً إلى أيام الواثق. ولما صار الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقاً، وأنزل الهيثم الغنويّ القائد من أهل الجزيرة في رستاق يقال له أرشق، فرمّ حصنه، وحفر حوله خندقاً، وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء في حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى حصن النهر؛ فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل معها من يبذرقها حتى تصل إلى حصن النّهر، ثم يبذرقها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنويّ، ويخرج هيثم فيمن جاء من ناحيته حتى يسلمه إلى أصحاب حصن النّهر، ويبذرق من جاء من أردبيل حتى يصير الهيثم وصاحب حصن النهر في منتصف الطريق، فيسلّم صاحب حصن النهر من معه إلى هيثم، ويسلّم هيثم من معه إلى صاحب حصن النهر؛ فيسير هذا مع هؤلاء؛ وهذا مع هؤلاء. وإن سبق أحدهما صاحبه إلى الموضع لم يجزه حتى يجيء الآخر؛ فيدفع كلّ واحد منهما من معه إلى صاحبه ليبذرقهم؛ هذا إلى أردبيل، وهذا إلى عسكر الأفشين، ثم يبذرق الهيثم الغنويّ من كان معه إلى أصحاب أبي سعيد؛ وقد خرجوا فوقفوا على منتصف الطريق، معهم قوم، فيدفع أبو سعيد وأصحابه من معهم إلى الهيثم، ويدفع الهيثم من معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيصير أبو سعيد وأصحابه بمن في القافلة إلى خش، وينصرف الهيثم وأصحابه بمن صار في أيديهم إلى أرشق حتى يصيروا به من غد، فيدفعوهم إلى علويه الأعور وأصحابه ليوصلوهم إلى حيث يريدون، ويصير أبو سعيد ومن معه إلى خش، ثم إلى عسكر الأفشين، فتلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيقبض منه من في القافلة، فيؤديهم إلى عسكر الأفشين، فلم يزل الأمر جارياً على هذا؛ وكلما صار إلى أبي سعيد أو إلى أحد من المسالح أحد من الجواسيس وجهوا به إلى الأفشين؛ فكان الأفشين لا يقتل الجواسيس ولا يضربهم؛ ولكن يهب لهم ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم، ويقول للجاسوس: كن جاسوساً لنا.

ذكر خبر وقعة الأفشين مع بابك بأرشق

وفيها كانت وقعة بين بابك وأفشين بأرشق، قتل فيها الأفشين من أصحاب بابك خلقاً كثيراً؛ قيل أكثر من ألف، وهرب بابك إلى موقان، ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذ

ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة بين الأفشين وبابك

ذك أن سبب ذلك أن المعتصم وجه مع بغا الكبير بمالٍ إلى الأفشين عطاءً لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال إلى أردبيل، فلما نزل أردبيل بلغ بابك وأصحابه خبره، فتهيأ بابك وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فقدم صالح الجاسوس على الأفشين، فأخبره أن بغا الكبير قد قدم بمال وأن بابك وأصحابه تهيئوا ليقتطعوه قبل وصوله إليك.

وقيل: كان مجئ صالح إلى أبي سعيد، فوجه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيأ بابك كميناً في مواضع، فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحة خبر بابك، فمضى أبو سعيد متنكراً هو وجماعة من أصحابه، حتى نظروا إلى النيران والوقود في المواضع التي وصفها لهم صالح، فكتب الأفشين إلى بغا؛ أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحة خبر صالح، فوعد الأفشين صالحاً وأحسن إليه. ثم كتب الأفشين إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويشد المال على الإبل ويقطرها، ويسير متوجهاً من أردبيل؛ كأنه بيد برزند؛ فإذا صار إلى مسلحة النهر، أو سار شبيهاً بفرسخين، احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال إلى برزند؛ فإذا جازت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل ذلك بغا، وسارت القافلة حتى نزلت النهر، وانصرفت جواسيس بابك إليه يعلمونه أن المال قد حمل، وعاينوه محمولاً حتى صار إلى النهر، ورجع بغا بالمال إلى أردبيل، وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا عند العصر من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل معسكراً خارج خندق أبي سعيد؛ فلما أصبح ركب في سرّ؛ لم يضرب طبلاً ولا نشر علماً، وأمر أن يلف الأعلام، وأم بالناس بالسكوت ، وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي، ورحل الأفشين من خش يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم "بمن كان معه" فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر، وهو يظن أن المال موافيه، وخرج صاحب النهر ببذرق من قبله إلى الهيثم، فخرجت عليه خيل بابك؛ وهم لا يشكون أن المال معه؛ فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة، وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وغيره، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه، وأخذوا لباس أهل النهر ودراريعهم وطراداتهم وخفاتينهم فلبسوها، وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضاً، ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنهم أصحاب النهر، فلما جاءوا لم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غير موضع صاحب النهر، وجاء الهيثم فوقف في موقفه، فأنكر ما رأى فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: لأي شيء وقوفك؟ فجاء ابن عم الهيثم، فلما رأى القوم أنكرهم لما دنا منهم، فرجع إلى الهيثم، فقال له: إن هؤلاء القوم لست أعرفهم، فقال له الهيثم: أخزاك الله! ما أجبنك! ووجه خمسة فرسان من قبله، فلما جاءوا وقربوا من بابك، خرج من الخرمية رجلان فتلقوهما وأنكروهما، وأعلموهما أنهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضاً، فقالوا: إن الكافر قد قتل علويه وأصحابه، وأخذوا أعلامهم ولباسهم، فحل هيثم منصرفاً، فأتى القافلة التي جاء بها معه، وأمرهم أن يركضوا ويرجعوا، لئلا يؤخذوا، ووقف هوم في أصحابه، يسير بهم قليلاً قليلاً، ويقف بهم قليلاً، ليشغل الخرمية عن القافلة، وصار شبيهاً بالحامية لهم؛ حتى وصلت القافلة إلى الحصن الذي يكو فيه الهيثم - وهو أرشق - وقال لأصحابه: من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما به وله عشرة آلاف درهم ومن فرس بدل فرسه إن نفق فرسه فله مثل فرسه على مكانه؟ فتوجه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن، وخرج بابك فيمن معه؛ فنزل بالحصن، ووضع له كرسي وجلس على شرف بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم: خل عن الحصن وانصرف حتى أهدمه فأبى الهيثم وحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن سمائة راجل وأربعمائة فارس، وله خندق حصين. فقاتله، وقعد بابك فيمن معه، ووضع الخمر بين يريد ليشربها، والحرب مشتبكة كعادته، ولقى الفارسان الأفشين على أقل من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضاً شديداً، ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام واركضوا نحو الفارسين: ففعل أصحابه ذلك، وأسرعوا السير، وقال لهم: صيحوا بهما: لبيك لبيك! فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين، يكسر بعضهم بعضاً حتى لحقوا بابك، وهو جالس، فلم يتدارك أن يتحول ويركب حتى وافته الخيل والناس، واشتنبكت الحرب، فلم يفلت من رجالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير، ودخل موقان، وقد تفطع عنه أصحابه، وأقام الأفشين في ذلك الموضع، وبات ليلته، ثم رجع إلى معسكره ببرزند، فأقام بابك بموقان أياماً. ثم إنه بعث إلى البذ، فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ، فلم يزل الأفشين معسكراً ببرزند، فلما دخل من كان في بعض الأيام مرت به قافلة من خش إلى برزند، ومعها رجل من قبل أبي سعيد يسمى صالح آب كش - تفسيره السقاء - فخرج عليه أصبهبذ بابك، فأخذ القافلة، وقتل من فيها، وقتل من كان مع صالح، وأفلت صالح بلا خف منه من أفلت، وقتل جميع أهل القافلة، وانتهت متاعهم، فقحط عسكر الأفشين من أجل تلك القافلة التي أخذت من الآب كش؛ وذلك أنها كانت تحمل الميرة، فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه؛ فإن الناس قد قحطوا وجاعوا فوجه إليه صاحب المراغة بقافلة ضخمة، فيها قريب من ألف ثور سوى الحم والدواب وغير ذلك، تحمل الميرة، ومعها جند يبذرقونها، فخرجت عليهم أيضاً سرية لبابك، كان عليها طرخان - أو آذين - فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها، وأصاب الناس ضيق شديد؛ فكتب الأفشين إلى صاحب السيروان أن يحمل إليه طعاماً، فحمل إليه طعاماً كثيراً، وأغاث الناس في تلك السنة، وقد بغا على الأفشين بمال ورجال.

ذكر الخبر عن خروج المعتصم إلى القاطول

وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها.

ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها

ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامراً موضعاً أبني فيه مدينة؛ فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني؛ حتى أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر؛ حتى آتى عليهم. وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال: نعم؛ فأتيت الموضع، فاشتريت سامراً بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، اشتريت عدة مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية؛ ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامراً في سنة إحدى وعشرين ومائتين. فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسروراً الخادم الكبير، قال: سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟ قال: قلت له: بالقاطول؛ وقد كان بني هناك مدينة آثارها وسورها قائم؛ وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشآم وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستمر، ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء، أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلاً في أرباضها؛ وذلك أنهم كانوا عجماً جفاة يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوراعها، فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينسكونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم؛ فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة؛ فذكر أنه رأى المعتصم راكباً منصرفاً من المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر؛ فلما صار في مربعة الحرشي، نظر إلى شيخ قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال: فابتدره الجند ليضربوه؛ فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ: مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيراً! جاورتنا بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله. قال: ثم دخل داره فلم ير راكباً إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم؛ فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد؛ ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد؛ ولكنه صرف وجه دابته إلى ناحية القاطول؛ وخرج من بغداد ولم يرجع إليها.

ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروان

وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم ذكر أن الفضل بن مروان - وهو رجل من أهل البردان - كان متصلاً برجل من العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له يحيى الجرمقاني، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه؛ فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه؛ وكان يكتب للفضل علي بن حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها؛ والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبر موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى قدم المعتصم خليفةً، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغني والملهي؛ فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق.

فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتي - وكان مضحكاً - أمر له المعتصم بمال؛ وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه الفضل ما أمر به المعتصم؛ فينا الهفتي يوماً عند المعتصم؛ بعد ما بنيت له داره التي ببغداد، واتخذ له بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضى الخلافة إليه، فيقول فيما يداعبه: والله لا تفلح أبداً! قال: وكان الهفتي رجلاً مربوعاً ذا كنة، والمعتصم رجلاً معرقاً خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي؛ فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه التفت إليه، فقال له: مالك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق به؛ فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعباً له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة؛ ولم أكن أراني أماشي فيجاً، والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم؛ والله ما يجاوز أمرك أذنيك؛ وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته؛ فقال له المعتصم: وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين؛ فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبة! قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع به.
فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار الخراساني زماماً عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماماً عليه في الخراج وجميع الأعمال؛ فلم يزل كذلك؛ وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى ما كان أبواه يتولاه للمأمون من عمل المشمش والفساطيط وآلة الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفاً بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل يرفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره؛ ولم يرزأه شيئاً، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئاً، فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين - وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ - خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بساما، فصرفه كثرة زيادة دجلة؛ فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك؛ فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم برفع ما جرى على أيدهم؛ وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه؛ وأن يحمل إلى منزله ببغداد في شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس دليلاً، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها مقيماً؛ فصار محمد بن عبد الملك وزيراً كاتباً، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامراً من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك.

وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حلّ من قبله المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلاً ع منازعته ولا في الاعتراض في أمره ونهيه وإرادته وحكمه؛ فكانت هذه صفته ومقداره؛ حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهمّ أموره؛ فذكر عن ابن أبي داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم؛ فكثيراً ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: احمل إليّ كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي، فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه؛ فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه؛ فلمّا كثر هذا من فعله ركبت إليه يوماً فقلت له مستخلياً به: يا أبا العباس؛ إنّ الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره؛ وأنت امرؤ قد عرفت أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا؛ فإذا حّركت فيك بحقّ فاجعله باطلاً؛ وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب عليّ في الحق لك؛ وقد أراك كثيراً ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبةً غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ. قال: وما ذاك يا أبا عبد اللّه؟ قلت: أسمعه كثيراً ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما أصنع ذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت: تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أياماً إلى أن يتهيّأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه بالباقي، قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. قال: فوا لله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب. قال: فلما كثر ذلك عليه، دخل يوماً إليه وبين يديه حزمة نرجس غضّ، فأخذها المعتصم فهزّها، ثم قال: حيّاك اللّه يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسلّ المعتصم خاتمه من إصبعه بيساره، وقال له بكلام خفيّ: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك.

وحجّ بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد