المجلد التاسع - ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

خبر وثوب علىّ بن إسحاق برجاء بن أبي الضحاك

فمن ذلك ما كان فيها من ثوب علىّ بن إسحاق بن يحيى بن معاذ - وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين - برجاء بن أبي الضحاك؛ وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي داود فيه، فأطلق من محبسه؛ فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرّا، فقال البحتريّ الطائي:

عفا علىّ بن إسحاق بفتـكـتـه          على غرائب تيهٍ كنّ في الحسن
أنسته تنقيعه في اللـفـظ نـازلة          لم تبق فيه سوى التسليم للزمـن
فلم يكن كابن حجرٍ حين ثـار ولا          أخي كليبٍ ولا سيف بن ذي يزن
ولم يقل لك في وترٍ طلبـت بـه            تلك المكارم لا قعبان من لـبـن

وفيها مات محمد بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين، فصلّى عليه المعتصم في دار محمد.

ذكر الخبر عن موت الأفشين

وفيها مات الأفشين.

ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته

وبعده ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه. فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها إليه في البناء الذي له يسمى لؤلؤة؛ فحبس فيه؛ فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة؛ إما الإجلاص وإما الشاهلوج؛ فقال للواثق: لا أله إلا الله، ما أحسنه من طبق ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئاً؛ فلما أراد الوايق الإنصراف قال له الأفشين: اقرئ سيدي السلام وقل له: أسألك أن توجه إلى ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن اسماعيل - وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا؛ فحدث بهذا الحديث وهو فيه: قال حمدو: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس. قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منة واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإ أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز فقال: قل لأمير المؤمنين؛ أحسنت إلي وشرفتني وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاماً لم يتحقق عندك؛ ولم تتدبره بعقلك؛ كيف يكو هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلي منكجور أن يخرج، وتقبله وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور: لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه؛ أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال وسست للعساكر؛ هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوماً: افعلوا كذا وكذا؛ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله؛ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله عدو قد عرفت سببه؛ وأنت أولى بي وإنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك؛ ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربي عجلاً له حتى أسمنه وكبر، وحسنت حاله، كان أصحابه اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يحبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعاً على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربى هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع؛ سل من شئت عنه؛ وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع؛ فكلما سأل الرجل إنساناً عنه وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع؛ هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح؛ ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسداً! الله الله في أمري؛ اصطنعتني وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله يعطف بقلبك علي.

قال حمدون: فقمت فانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمس منه شيئاً، ثم ما لبثنا إلا قليلاً حتى قيل: إنه يموت أو قد مات؛ فقال المعتصم: أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ.

قال: وكان أحمد بن أبي داود دعا به في دار العامة من الحبس فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي داود أن يشهد عليه؛ فإن تكشف تسب إلى الخرع؛ وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف؛ وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس؛ وكان ابن أبي داود أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقلب مصير حمدون بن اسماعيل إليه.

قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين: أخرجي إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال؛ وإنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشّف، فيفضحني بي الناس؛ فالموت كا أحبّ إليّ من أن أتكشّف بين أيدي الناس؛ ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشّف بين يديك حتى تراني فعلت؛ قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق؛ وما أريد أن تكشّف.

فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلاّ القليل؛ فكان يدفع إليه في كلّ يوم رغيف حتى مات؛ فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامّة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته؛ فأحرق وحول الرّماد، وطرح في دجلة.

وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجّه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان؛ عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين؛ وظنّ أنه جوهر له قيمة؛ وكان ذلك ليلاً؛ فلما أصبح ونزع عنه شباك الذّهب، وجوده حجراً شبيهاً بالصّدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصّدف الذي يقال له البوق، من صدف أخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والأطواف والخشب التي كان أعدّها؛ وكان له متاع بالوزيريّة، فوجد فيه أيضاً صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتاباً من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب؛ فيها ديانته التي كان يدين بها ربه.

وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين.

وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بأمر أشناس؛ وكان أشناس. حاجاًّ في هذه السنة، فولّى كل بلدة يدخلها فدعى له جميع المنابر التي مر بها من سامراً إلى مكة والمدينة.

وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، ودعا منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة وكانت ولايتها إلى أن يرجع إلى سامراً.