المجلد التاسع - ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين: ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير إلى حرب بني نمير

فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.

ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم: حدثي أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم؛ وذكر أنه كان مع بغا بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها؛ فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.

فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلاً له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف؛ فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفاً وخمسين رجلاً، وأسر نحواً من أربعين، ثم سار إلى حظيان ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة؛ وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه؛ حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين؛ أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحاً، فسار بغا إليهم من مرأة. وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة وأرسل إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود - وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة - فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم. ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه؛ وهم يومئذ نحو ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة؛ فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحواً من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلاً، وعقروا من إبل عسكره نحواً من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.

قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعة أمير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد بن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمة الرحم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول.

فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه؛ فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا - وكانوا قد جعلوا رجّالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم - حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا،وأيقنّا بالهلكة.

قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلاً لهم بمكان من بلادهم،، فوجّه من أصحابه نحواً من مائتي فارس إليهما. قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجّهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجّهت إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه فنفخوا في صفّاراتهم؛ فلما سمعوا نفخ الصّفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر واللّه العبد، وولّوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجّالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.

قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجّالتهم كثير أحد؛ حتى قتلوا عن آخرهم؛ وأما الفرسان فطاروا هرّاباً على ظهور الخيل.

وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار؛ وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنّهب وعقر الإبل والدوابّ حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع من كان تفرّق عنه، فكرّوا على بني نمير، فهومهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السّر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بي نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان؛ فأعطاهم الأمان؛ فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.

وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له هوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حص باهلة. قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسرة وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف - وهم بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل - وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب - فقال عمارة ابن عقيل لبغا: تركت الأعقفين وبطن قـو وملأت السجون من القماش

فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان م1 بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحداً بعد واحد؛ فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر؛ فزعم أحمد أمه حضر ضربهم ولم يطق منهم ناطق يتوجع من الضرب؛ وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفاً، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف وقال لبغا: هذا أخبث ما كان - أصلحك الله - حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة أو خمسمائة، فلما توجع وما استغاث وذكر أن فارساً من بني نمير لقى بغا في وقعتهم التي ذكرت أمرها يدعى المجنون، فطعن بعا ورمى المجنون ورجل من الأتراك. فأفلت، وعاش أياماً ثلاثة ثم مات من رميته.

قال: ثم قدم عليه واجن الأشروسي الصغدي في سبعمائة رجل مدداً له من الأشروسية الإشتيخنية فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم؛ فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه؛ فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سراياً في محاربة من امتنع ممن قبل الأمان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم كلهم يطلب الأمان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم؛ ولم يزل مقيماً إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائة رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي العقدة من سنة اثنتين ومائتين وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به؛ فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعاً في المحرم إلى سامراً سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب. وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها ألفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ.

وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في أربعة منازل إلى الربذة، فبلغي عدة دنانير. ومات خلق كثير من العطش.
وفيها ولى محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.

وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.

وفيها اشتد البرد في نيسان حتى تجمد الماء لخمس خلون منه.

ذكر خبر موت الواثق

وفيها مات الواثق.

ذكر خبر عن العلة التي كانت بها وفاته

ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفى منها كانت الإستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمى عليه، فأخرج منه، وصير في محفة؛ وحضره الفضل بن اسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم؛ ثم حضر ابن الزيات وابن أبي داود، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.

وقد قيل: إن أحمد بن أبي داود حضره وقد أغمى عليه، فقضى وهو عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه. وكانت وفاته لستٍّ بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهارونيّ. وكان الذي صلّى عليه وأدخله قبره وتولّى أمره أحمد بن أبي داود؛ وكان الواثق أمر أحمد بن أبي داود أن يصلّى بالناس يوم الأضحى في المصلّى، فصلى بهم العيد؛ لأن الواثق كان شديد العلّة فلم يقدر على الحضور إلى المصلّى، ومات من علّته تلك.

ذكر الخبر عن صفة الواثق وسنه وقدر مدة خلافته ذكر من رآه وشاهده أنه كان أبيض مشرباً حمرة، جميلاً ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى؛ وفيها نكتة بياض.

وتوفّى - فيما زعم بعضهم - وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة؛ فقال الذي1 زعموا أنه كا1 اب1 ست وثلاثين: كا1 مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام. وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.

وكا1 ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد روميّة؛ يقال لها قراطيس.

واسمه هارو1 وكنيته أبو جعفر.

وذكر أنه لما اعتلّ علته التي مات فيها وسقى بطنه أمر بإحضار المنجمّين، فأحضروا؛ وكا1 ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشميّ وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزميّ المجوسيّ القطربّليّ وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علّته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهراً طويلاً، وقدّ روا له خمسين سنة مستقبلة؛ فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.

ذكر بعض أخباره

ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام، وقد قعد مجلساً كان أوّل مجلس قعده؛ فكان أوّل ما تغنّى به من الغناء في ذلك المجلس؛ أن تغنّت جارية إبراهيم بن المهديّ:

ما درى الحاملون يوم استقلوا       نعشه للثواء أم لـلـفـنـاء
فليقل فيك باكياتك مـا شـأ            ن صباحاً ووقت كلّ مسـاء

قال: فبكى واللّه وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنّا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنّى:

ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل           وهل تطيق وداعاً أيها الرجل!

قال: فازداد واللّه في البكاء؛ وقال: ما سمعت كاليوم قطّ تعزية بأب ونعىّ نفس؛ ثم ارفضّ ذلك المجلس.

وذكر عن عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع أن عليّ بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولى الخلافة:

قد فاز ذو الدّنيا وذو الـدّين           بدولة الـواثـق هـارون
أفاض من عدلٍ ومن نـائلٍ            ما أحسن الدنيا مع الـدين
قد عمّ بالإحسان في فضلـه        فالناس في خفض وفي لين
ما أكثر الداعي له بالبـقـا            وأكثر التـالـي بـآمـين

وقال عليّ بن الجهم أيضاً فيه:

وثقت بالمـلـك الـوا         ثق باللّه الـنـفـوس
ملكٌ يشقى به الـمـا      ل ولا يشقى الجليس
أنس السيف به واست    وحش العلق النفـيس
أسدٌ تضـحـك عـن            شدّاته الحرب العبوس
يا بني العباس يأبى اللّ   ه إلا أن تسـوسـوا

فغنّت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنّت في شعر محمد بن كناسة:

فيّ انقباضٌ وحشمةٌ فـإذا             جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيّتها       وقلت ما شئت غير محتشم

فغنّته الواثق؛ فاستحسنه؛ فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث فأشخصه؛ وليحمل جاريته؛ فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنّت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردّها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق:

أبت دار الأحبّة أن تبينـا             أجدّك ما رأيت لها معينا
تقطّع حسرةً من حبّ ليلى        نفوسٌ ما أثبن ولا جزينا

فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغنّاه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث إلى ابن الزيات، فأشخص صالحاً ومعه قلم؛ فلمّا دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: بارك اللّه عليك! وبعث إلى صالح: اسم وقل قولاً يتهيأ أن تعطاه؛ فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك اللّه لأمير المؤمنين فيها. قال: قد قبلتها، يا محمد، عوّضه خمسة آلاف دينار، وسمّاها "اغتباط" فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو:

أبت دار الأحبة أن تبينـا          أجدّك هل رأيت لها معينا

فقال لها: بارك اللّه عليك وعلى من ربّاك؛ فقالت: يا سيّدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل إليه! فقال الواثق: يا سمّانة، الدواة؛ فكتب إلى ابن الزّيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوّضناه من ثمن اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها. قال صالح: فصرت إلى ابن الزّيات فقرّبني، وقال: هذه الخمسة الأولى؛ خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة؛ فإ سئلت، فقل: إني قبضت المال. قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض؛ فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانة: قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجربها، حتى توفى.

خلافة جعفر المتوكل على الله وفي هذه السة بويع لحعفر المتوكل على الله بالخلافة؛ وهو جعفر بن محمد بن هارون بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن على السجاد ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها حدثني غير واحد؛ أن الواثق لم توفى حضر الدار أحمد بن أبي داود وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق؛ وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه فمررت بجعفر المتوكل؛ فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم؛ ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن أبي داود الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمني ورحمة الله وبركاته! ثم غسل الواثق وصلى عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة؛ ولم يكن لقب المتوكل.

وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة؛ ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر؛ وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات؛ وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل؛ واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن أبي داود إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجوا أن يكون موافقاً حسناً إن شاء الله، وهو المتوكل على الله؛ فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، ففذت إليهم الكتب، نسخة ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمر - أبقاك الله - أمير المؤمني أطال الله بقاءه، أ يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضائه وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجري المكاتبة بينه وبينه: "من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين"؛ فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقاً إن شاء الله.

وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشمين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل إليهم: من كان منكم مملوكاً؛ فليمض إلى أحمد بن أبي داود حتى يبيعه؛ ومن كان حراً صيرناه أسوة الجند؛ فرضوا بذلك؛ وتكلم وصيف فيهم حتى رضى عنهم؛ فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك. وبويع للتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم.

وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكراً سليماناً يسقط عليه من السماء، مكتوباً عليه "جعفر المتوكل على الله" فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيداً معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك.

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود